الإثنين 25 آب 2025

خلطة توماس باراك أم دستور بريمر لسوريا القادمة؟

إبراهيم كابان 

تشهد سوريا اليوم تحولات دقيقة تعيد طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الدولة، شكل الحكم، والعقد الاجتماعي الذي يُفترض أن يحكم التنوع السوري المذهبي والعرقي والثقافي. وبينما تستعيد الأذهان تجربة العراق بعد عام 2003، حين قاد الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر عملية الانتقال نحو نظام سياسي جديد، يبرز اسم رجل الأعمال الأمريكي اللبناني الأصل توماس باراك كأحد العقول التي يُعتقد أنها تشارك في هندسة مستقبل سوريا. لكن، هل نحن أمام نسخة مكررة من “دستور بريمر”، أم أننا بصدد خلطة جديدة تأخذ بعين الاعتبار حقائق التاريخ والجغرافيا، وتستلهم من التجربة العراقية أفضل ما فيها وتتفادى عثراتها؟

بريمر: التعددية كنقطة انطلاق لا كأزمة

حينما دخلت الولايات المتحدة العراق عام 2003، كانت البلاد خارجة من عقود من الحكم الأحادي الصارم تحت قيادة صدام حسين، حيث أُقصيت المكونات الدينية والمذهبية والعرقية عن أي دور فعلي في إدارة الدولة. جاء التدخل الأمريكي بخطة طموحة تهدف إلى إعادة بناء الدولة العراقية على أسس تمثيلية تراعي التنوع الفعلي للمجتمع العراقي.

ورغم بعض القرارات المثيرة للجدل، مثل حل الجيش وتفكيك البعث، إلا أن المقاربة الأمريكية دعمت تأسيس نظام دستوري جديد يعترف بوجود القوميات والمذاهب، وعلى رأسها القومية الكردية. فتم الاعتراف بكردستان العراق ككيان فيدرالي يتمتع بصلاحيات سياسية واقتصادية وثقافية واسعة، مع ضمان اللغة الكردية كلغة رسمية، وفتح الباب أمام مشاركة الكرد في مؤسسات الدولة المركزية كرئاسة الجمهورية والبرلمان والوزارات. لقد شكّلت هذه الخطوة نقلة نوعية من حيث الاعتراف الدستوري بحقوق المكون الكردي، بعد عقود من التهميش القومي.

سوريا: تعقيد مشابه وتحديات متكررة

في الحالة السورية، المشهد أكثر تشابكًا من حيث امتداد النزاع، وتشظي الخارطة العسكرية، وتداخل النفوذ الإقليمي والدولي. لكن التعدد الإثني والديني ليس أقل تنوعًا: عرب، كرد، تركمان، سريان، آشوريون، سنة، علويون، دروز، إسماعيليون، ومسيحيون بأنواعهم. هذا التنوع البنيوي يجعل من أي مشروع مستقبلي لسوريا الموحدة ضرورة للانطلاق من مبدأ التعددية السياسية والدستورية، تمامًا كما حصل في العراق، وإن بتعديل التجربة لا نسخها.

وفي قلب هذا التعدد، لا يمكن تجاوز المسألة الكردية. فالكرد يشكّلون ثاني أكبر مكون قومي في البلاد، وقد حُرموا لعقود من أبسط حقوقهم الثقافية واللغوية والسياسية، بل تم نزع الجنسية عن مئات الآلاف منهم، وتعرضوا لمشاريع تعريب قسري كالحزام العربي. أي تسوية سياسية سورية لا تضع الحقوق الكردية في صلب الدستور الجديد، ستكون تكرارًا مأساويًا للحقبة البعثية، ولكن بقناع جديد.

توماس باراك: البراغماتية بدلاً من الإقصاء

يُقال إن توماس باراك يلعب دورًا غير معلن في ترتيب ملامح سوريا الجديدة، لا بوصفه فاعلًا مباشرًا كما كان بريمر، بل كجسر يربط بين القوى الدولية (الولايات المتحدة، الإمارات، السعودية، فرنسا) والفاعلين المحليين. ورغم الطابع الاستثماري لصورته، إلا أن أفكاره تدور في فلك بناء نظام سياسي مستقر من خلال احتواء المكونات المتنازعة وتحويلها إلى شركاء في السلطة.

هنا لا يبدو التحرك الأمريكي سلبيًا كما يُشاع، بل يتجه نحو ترتيب شكل من أشكال التوافق الوطني الذي يأخذ بعين الاعتبار وقائع الأرض. فالولايات المتحدة لا تطرح حلاً عسكريًا ولا تسعى إلى فرض نظام استبدادي جديد، بل تدعم – بشكل مباشر أو عبر أطراف إقليمية – إعادة هيكلة المشهد السوري على أسس تشاركية.

الحقوق الكردية: بين الإنكار والاعتراف

ما لم تتكرر في سوريا تجربة الاعتراف الرسمي الدستوري بحقوق الكرد كما حصل في العراق، فإن أي مشروع سياسي سيفتقر إلى التوازن والشرعية. ويُفترض أن تكون التجربة العراقية مصدر إلهام لا مجرد مقارنة. لقد ساهم الاعتراف بالكرد في العراق في تثبيت الاستقرار النسبي، وخلق شراكة سياسية بين أربيل وبغداد، رغم كل التحديات.

إن المطالبة الكردية في سوريا ليست انفصالية، بل تسعى إلى اعتراف دستوري بالهوية القومية، واللغة، والثقافة، والإدارة الذاتية ضمن سوريا موحدة. هذه المطالب تنسجم مع مفاهيم الحكم الفيدرالي أو اللامركزي، وتصب في مصلحة وحدة الدولة لا تفكيكها.

في الخلاصة: نحو نسخة محسّنة من التجربة

ليست تجربة بريمر في العراق وصفة مثالية، لكنها أسست لواقع سياسي أكثر تعددية من زمن صدام. وما يُبنى في سوريا الآن عبر أدوات مثل باراك، ليس محاولة لتكرار الأخطاء بل لتفاديها. الخيار اليوم ليس بين الاستقلال أو التدخل، بل بين واقع استبدادي ممزق أو مشروع سياسي مدعوم دوليًا يضمن الحقوق والحريات والتمثيل الحقيقي لكل السوريين.

وفي هذا الإطار، الاعتراف الدستوري بالحقوق الكردية في سوريا ليس مجرد بند تفاوضي، بل ضرورة تاريخية وأخلاقية لضمان بناء دولة تتسع لجميع مكوناتها، بدلًا من إعادة إنتاج أنظمة الإقصاء باسم “الوحدة”.

الدرس من العراق واضح: التعددية لا تعني الانقسام، بل إعادة بناء الدولة على أسس المواطنة الجامعة، والعدالة، واحترام الخصوصيات القومية. وإذا كان بريمر قد أخطأ في بعض السياسات، فإن باراك ربما يحمل فرصة لتصحيح المسار – شريطة أن يكون السوريون، بكل مكوناتهم، شركاء حقيقيين في رسم ملامح تلك الدولة، لا مجرد شهود على هندستها.