دراسات في التاريخ الكردي القديم ( الحلقة 3 ) ما حقيقة نسبة أصل الكرد إلى كائنات أسطورية؟

كورد أونلاين |

د. أحمد الخليل

لم تقتصر نسبة الكرد، في المصادر العربية، على العرب فقط، وإنما نشطت المخيّلة القصصية في هذا المجال، وقام بعض الرواة والمؤرخين بتنسيب الكرد إلى أصول مختلَطة، ونسبهم آخرون إلى كائنات أسطورية.
أولاً – نسبة الكرد إلى أصول مختلطة:
يحاول أصحاب هذا الاتجاه إظهار الكرد على أنهم لا يشكلون شعبًا أو أُمّة متجانسة، وأنهم خليط من مجموعات عرقية غير معروفة الجذور؛ وضمن هذا الاتجاه تقع الرواية الآتية:
أرجع مؤرخو الفرس القدماء ملوك إيران إلى أربع دول حاكمة: الدولة الپَيشْدادية (لعلها الميدية)، ثم الدولة الكِيانية (الأخمينية)، ثم الدولة الأشگانية (البارثية)، ثم الدولة الساسانية، ويذكرون أن أَزْدِهاك (الضحّاك)- واسمه بَيوراسْب بن أَرْوَنْداسْب وهو من الپيشداديين- تسلّط على عرش فارس بعد الملك جَمْشِيد، وأورد الدكتور إحسان يار شاطر اسمه بصيغة (أژى دهاك)، وذكر أنه “عِفريت مخيف هائل”، كان هو وعفريت آخر يسمّى خِشْم من أبرز جنود إله الشر أَهْرِمَن.
وذكرت المصادر أن أزدهاك كان ظلومًا، فظهر على كتفيه قَرْحان، وبرز من كل منهما لسان كالأفعى، وكان الألم لا يخفّ إلا بدماغ بشري يُضمَّد به القرحان، فكان يُقتَل كل يوم شابان، ليتداوى أزدهاك بدماغيهما، وكان المكلَّف بقتل الشابين رحيمًا، فكان يكتفى بقتل شاب، ويستعيض عن دماغ الآخر بدماغ كبش، ويأمر الشاب الذي يطلقه بالرحيل بعيدًا؛ فلجأ هؤلاء الشباب إلى الجبال، وهناك تزاوجوا وتناسلوا، وبنوا القرى، وتفاهموا بلغة واحدة، ومن نسلهم كان الكرد (1).
ولا نَعْدَم في العصر الحديث مَن يروّج هذا التوجّه، وخاصة بعض القومويين العرب والفرس والترك المتطرفين، إنهم يشكّكون في انتماء الكرد إلى أمة واحدة، معتمدين في ذلك على التنوع الإثنولوجي بين الكرد تارة، ومتذرّعين تارة أخرى باختلاف اللهجات بين بعض القبائل الكردية، وهدفهم من ذلك هو التدليل على أن الكرد لا يستحقون أن تكون لهم دولة مستقلة، وكي تبقى بلاد الكرد مقسَّمة وفق اتفاقية سايكس- پيكو بين دول الجوار (إيران وركيا والعراق وسوريا)، وإذا أخذنا بالمعيار الذي يطبّقه هؤلاء على الكرد لكانت النتيجة تجريد كثير من أمم الشرق الأوسط والعالم من صفة (أمّة)، لأنها- نقصد تلك الأمم- هي في جوهرها نتاج تنوّع إثنولوجي ولهجوي شديد التداخل والتمازج.
ثانياً – نسبة الكرد إلى الجن والشياطين:
ينفي أصحاب هذا الاتجاه انتماء الكرد إلى البشر جملة وتفصيلاً، وينسبونهم إلى التزاوج بين النساء المنافقات والشياطين، وينقل المسعودي في هذا الصدد رواية بعيدة عن الموضوعية، إضافة إلى أن فيها كثيرًا من التحامل على الكرد، تقول الرواية:
“ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام، حين سُلب ملكَه، ووقع على إمائه المنافقات الشيطانُ المعروف بالجَسَد، وعَصَمَ الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعلِق منـه المنافقـاتُ، فلما ردّ الله على سليمانَ مُلْكَه، ووَضع تلك الإماءُ الحواملُ من الشيطـان، قال: اكردوهنّ إلى الجبال والأودية. فربّتْهم أمّهاتهم، وتَناكحوا وتَناسلوا، فذلك بَدء نسب الكرد” (2).
وقد جاءت هذه الرواية في تاريخ (شَرَف نامه) للأمير شَرَف خان بَدْليسي بصورة ملطّفة، فالمعروف أنه عندما اعتلى الشاه الصَّفَوي عبّاس الثاني (1585 – 1628 م) عرش بلاد فارس شرع يستعدّ لمقاومة الترك العثمانيين، وكان بحاجة إلى تأييد الكرد، فشجّع الأمير شرف خان على كتابة تاريخ الكرد باللغـة الفارسية، ولا ريب في أن شرف خان استقى معلوماته من المصادر الفارسية، وخلاصة الرواية ما يلي:
أرسل الملك العبراني النبي سليمان مئات من (دَيو) Daiw (بالكردية والفارسية: جِنّي/عِفْريت) إلى بلاد الإفرنج (أوربا)، ليجلبوا له فتيات عَذارى جميلات يضمّهن إلى حريمه، وحينما وصل الجن بالعذارى كان سليمان قد توفّي، فاحتفظوا بالعذارى لأنفسهم، وتزوّجوهن، ومنهم جاء نسل الكرد (3).
وهكذا نرى أن هذه الرواية تتفق، من حيث النيّة والمنطلقات الأسطورية، مع الرواية السابقة، وتستبعد الكرد من دائرة البشر وفق النظام الأبوي (البطريركي)، فهم بحسب الروايتين من سلالة الجن، وليسوا من أبناء آدم، وتُفصح هذه الرواية في الوقت نفسه عن أمرين:
• الأول: انتشار اللونين الأبيض والأشقر بين الكرد، وهما اللونان السائدان في الشعوب الهندو- أوربية.
• الثاني: اشتهار الكرد بالشجاعة والبسالة، وتميّزهم بسرعة الانقضاض على العدوّ، وسرعة الاختفاء بين الجبال، فهم كالجن ظهورًا واختفاء.
الهوامش
1. – ابن البَلْخي: فارس نامَه، ص 26، 43. المسعودي: مروج الذهب، 2/123. إحسان يار شاطر: الأساطير الإيرانية القديمة، ص 60.
2. – المسعودي: مروج الذهب، 3/123. وانظر المقريزي: الخُطَط المقريزية، 2/112 – 113.
3. شرف الدين بدليسي: شرف نامه، ص 12.

توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”،

شارك هذه المقالة على المنصات التالية