السبت, يوليو 27, 2024

نُشر في: 1 يناير، 2024

القسم الثقافي

دراسات في التاريخ الكردي القديم (الحلقة 1) ما حقيقة اســــم كردســــتان؟

*د. أحمد الخليل

مدخـــــــل:
قال الباحث الأرمني الأصل أرشاك سافْراسْتيان:
“لا توجد في النصف القديم للكرة الأرضية سُلالةٌ بشرية ظُلمت باستمرار، وأُسيء فهمُها كالعِرق الكردي. ومنـذ فجر التاريخ ربما لا يوجد شعب في العالم يسكن مِنطقة جغرافية محدَّدة كان ضحيّةَ النوايا السيئة على الدوام مثل الشعب الكردي”1.
وكم كان أرشاك سافْراسْتيان محقاً في قوله هذا! إذ ليس في غربي آسيا جغرافيا تعرّضت للتشويه مثل جغرافيا كردستان، وقلّما أصبح تاريخ شعب عُرضة للتحريف والتعتيم والتغييب مثل تاريخ الشعب الكردي، وكانت النتيجة أن الأجيال العربية خاصة، وشعوب غربي آسيا عامة، تعرف معلومات وافرة عن كثير من الشعوب والبلدان في هذا العالم. أما عن الشعب الكردي وكردستان فلا شيء أحياناً كثيرة، أو ثمة القليل في أحسن الأحوال، بل إن ذلك القليل لم ينجُ من التشويه والتحريف؛ لذا فلتكن خطوتنا الأولى هي معرفة حقيقة اسم (كردستان).
ظهـور اسم كردستان:
تعني كلمة (كردستان) وطن الكرد، مثلما تعني (أفغانستان) وطن الأفغـان، و(أُوزْبَكِسـتان) وطن الأُوزبَك، و(طاجيكِسـتان) وطن الطاجيك. وكردستان هي وطن الكرد منذ آلاف السنين، غير أن التسميات اختلفت باختلاف العصور والدول؛ وهذا أمر معهود قديماً وحديثاً، فكم من شعوب ومناطق ودول عُرفت باسم معيّن، ثم باتت تعرف في زمن آخر باسم آخر!
وعلى سبيل المثال كان الكرد القدماء يطلقون على العرب اسم (تازي)، وسمّاهم آخرون (ساراسين) Saracens، وسمّى السريانُ القـدماء العربَ باسم (تَيّايا)، تعميماً لاسم قبيلة (طيّ) على الأرجح. وقد يعجب المرء إذا وجد في المصادر القديمة أن اسم (ألباني) قديماً كان يُطلق على منطقة (أَرّان) المقسَّمة الآن بين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا؛ إذ المعروف أن (ألبانيا) الآن هي إحدى دول البلقان، كما أن من أسماء أذربيجان القديمة (أََتْروپاتيا) وأَتْروپاتين Atropautene، نسبة إلى حاكمها الميدي أَتْروپات Atarapata ، وهذا الاسم هو زردشتي ميدي قديم، له علاقة اشتقاقية باسم (أَتْراڤان) Atravan الذي يعني الكاهن والمحارب والراعي والمِهَني2.
وظهرت تسمية (كردستان) إدارياً حوالي منتصف القرن السادس الهجري؛ فقد اقتطع السلطان السلجوقي سَنْجَر بن مَلِكْشاه بن أَلْب أرسلان (ت 552 هـ، أو 555 هـ) جزءاً من بلاد الكرد يُعرف في كتب التاريخ الإسلامي باسم (إقليم الجبـال) تارة وباسم (العراق العجمي) تارة أخرى، وسـمّاه (كردسـتان) باعتبـاره موطن الكرد، ويقع هـذا الجزء في غربي إيران بين أَذَرْبِيجـان شمالاً ولُورِسْتان جنـوباً، وكان يضم مناطق هَمَذان، ودِينَوَر، وكَرْمَنْشاه، وسِنَه، وولّى عليه ابن أخيه سليمان شاه3.
وقال الكردولوجي الروسي باسيلي نِيكِيتين بشأن اسم كردستان:
” تعني لفظة كردستان بلاد الكرد، وهي ليست دولة مستقلة محدَّدة الحدود سياسياً، يعيش ضمنها شعب متجانس، ولكن أكثريته- على الأقل- تنتمي إلى العِرق نفسه. ولم يظهر هذا الاسم إلاّ في القرن الثاني عشر، خلال حكم السلطان سَنْجَر، آخر كبار ملوك السلاجقة، الذي آثر هذا الإقليم، واتخذ من القلعة المنيعة (بِهار) التي تقع شمالي غربي هَمَذان، مركزاً له. وكان هذا الإقليم يضمّ ولايات هَمَذان ودِينَوَر وكَرْمانْشاه في شرقي سلسلة جبال زاجروس، وولايات شَهْرَزُور وسِنجار غربي هذه السلسلة”4.
جـــذور اسم كردستان:
والحقيقة أن هـذه التسمية الإدارية لم تأت من فراغ، وإنما هي منبثقة من صيغة (كُرد، كُردان) القديمة والواردة في اللغـة الفهلوية، وكتب أرشـاك سافراستيان في كتـابه (الكرد وكردستان) حـول هـذا الموضوع ما يلي:
” تؤكد الوثائق ظهورَ اسم (كرد) للمرة الأولى في الكتابات التي دُوِّنت باللغة الفَهْلوية على شكل kurd، أو kurdan، ويذكر الملك أَرْتَخْشَير [أردشير] بابكان مؤسّس الدولة الساسانية الفارسية سنة (226 م) اسم ماديج Madig ملك الكردان أو الكرد بين خصومه، وقد اقتبس المؤرخون المسلمون الكبار أمثال الطَّبَري والمَسْعودي هذا الاسم من الساسانيين، ووصل إلى العصور الحديثة على هذا النحو (كرد- Kurd) “5 .
وذكر الطَّبَري (ت 310 هـ) في تاريخه أنه خلال الصراع بين كل من أَرْدَوان البَهْلوي وأَرْدَشَير بن بابَك بن ساسان (حكم على الأرجح سنة 226 م)، كتب أردوان إلى أردشير يقول: ” إنك قد عدوتَ طَوْرَك، واجتلبتَ حتفَك، أيّها الكردي المُربَّى في خيام الأكراد، مَن أذِن لك في التاج الذي لبسته، والبلاد التي احتويتَ عليها، وغلبتَ ملوكها وأهلها؟ “6.
ويذكر أرشاك سافراستيان أن اسم (كرد) أقدم من عهد أردشير، فيقول:
” لقـد اشتُقّ اسم Kurd من أرض ومملكة گُوتيـوم Gutium ومن شعب گوتي Guti، وذلك بحـذف حرف الراء R بعد حرف العلة U (Gurti = Guti)، وهـذه قاعـدة لغوية تُطبَّق بشكل عامّ على كل اللغات الهندو- أوربية، وخاصة الشرقية منها، مثل الكردية، والأرمنية، والسنسكريتية، والإغريقية. وقد أظهرت الكتاباتُ المسمارية المدوّنة باللغة السومرية أن أرض گوتيوم Gutium كانت واحدة من أقدم الممالك المستقلة في الشرق القديم المتمدن، وكانت معاصرة لسُومر وأكّاد وعِيلام وأرمينيا”7.
والتزاماً بحقائق التاريخ، وتصحيحاً لما قاله السيّد سافراستيان، نقول: ظهر اسم گُوتيوم وگُوتي حوالي (2200 ق.م)، ولم يكن إخوتنا الأرمن قد دخلوا غربي آسيا حينذاك، فالمعروف- حسبما تؤكد المصادر- أنهم عبرو مضيقي البُوسفور والدَّرْدَنيل في القرن (12) ق.م إلى آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، قادمين من منطقة البلقان، واستقروا بداية في فِريجْيا (وسط الأناضول، غربي نهر هاليس/قِزيل إرماق) في القرن الثامن ق.م، ثم توغّلوا شرقاً على مراحل، حتى وصلوا إلى منطقة أرارات في أواخر القرن السابع ق.م، حيث كان يقطن شعب هاياسا Hayasa الحثّي الذي كان قد تغلّب على الحوريين هناك، وسكن المنطقة، ولم يظهر اسم (أرمينيا) إلا اعتباراً من (550 – 521 ق.م)، وهذا وقت متأخر جداً بالنسبة إلى ظهور الگُوتيين في التاريخ8.
ولذلك، من المنطقي أن يكون اسم (كُرد) قد وصل إلى الساسانيين من عهود سبقتهم، فقد اشتهر الكرد في النصوص المسمارية باسم (كُرْتي)، وسـمّاهم الأكّاديون باسم (گُوتي= غُوتي= جوتي) نسبة إلى گوتيوم، وعُرف الشعب الذي عاش في منطقة كركوك (كرخي = گَرْمِيـان) باسم (كارْدو)، وعُرف الشعب الذي عاش في مناطق هكّاري (حكّاري) باسم (كاردوخ)، وكان الشعبان يتكلمان لغة واحـدة؛ وجدير بالذكر أن منطقة كركوك هي الجزء الجنوبي الغربي من كردستان، في حين تقع منطقة هَكّاري في شمالي كردستان قرب الحدود العراقية – التركية.
وظلت تسمية (كاردوخ) قائمة حتى زمن عودة المرتزقة اليونان العشرة آلاف من بلاد الرافدين إلى اليونان عبر جبال كردستان سنة (400 – 401 ق.م)، مروراً بجبال بُونتس في جنوبي البحر الأسود؛ إذ أشار قائدهم أكْسِنُوفان (زِينوُفون) Xenophon إلى هذه التسمية في كتابه (أناباسيس) Anabasis أيْ (الصُّعود)، وأكسنوفان سياسي وعالم يوناني، تلميذ سقراط وصديق أفلاطون، التحق مع مرتزقة يونان آخرين بالحملة التي شنّها كورش الصغير ضد أخيه الملك الأخميني أَرْدَشير الثاني، ثم صار قائداً لتلك الحملة خلال رجعتها من بلاد الرافدَين (العراق حالياً)، وعدّته أثينا خائناً، فاستقر في إسپارتا Sparté سنة 380 ق.م9.
الهوامش
1. p15. Arshak Safrastyan : Kurds and Kurdistan,
2. أڤستا، ياسنا، هايتي 19، آية 16، 17 ، 18، ص 97. دياكونوف: ميديا، هوامش الفصل السابع (97).
3. شرف خان بدليسي: شرف نامه، 1/12. وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 11/222. ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/427. مركز الشارقة للإبداع الفكري: موجز دائرة المعارف الإسلامية، 26/7986.
4. باسيلي نيكيتين: الكرد، ص69.
5. Arshak Safrastyan : Kurds and Kurdistan , P 16 .
6. الطبري: تاريخ الطبري، 2/39.
7. Arshak Safrastyan : Kurds and Kurdistan, P 16 .
8. انظر مروان المُدَوَّر: الأرمن عبر التاريخ، ص 82، هامش (2)، وص 102 – 106.
9. دياكونوف: ميديا، ص 36. أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، ص 223.

*توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.

شارك هذا الموضوع على