د. أحمد الخليل
الفروسيّة في التراث الكردستاني:
منذ أكثر من أربعة آلاف عام، وبدءاً من العهد الأكادي (حوالي سنة 2350 ق.م)، وانتهاء بالعهد العثماني (1923 م)، ما كانت الدول التي تحتلّ كردستان تكتفي باستغلال مواردها الاقتصادية، واستثمار طاقات الكرد العقلية والثقافية فقط، وإنما كانت تحرص أيضاً على استغلال قدرات الكرد الحربية في مجالين:
– قمع الثوارت الكردية.
– تحقيق مشاريعها التوسعية.
وجدير بالذكر أن الكاشّيين والحُوريين من أسلاف الكرد، وأقرباءَهم الهكسوس، هم أوّلُ من أدخلوا استخدام الخيول والعربات الحربية إلى غربي آسيا، كان ذلك منذ أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، وكانت للكاشّيين عناية فائقة بتربية الخيل، إنهم وضعوا فهارس للكلمات الفنّية الخاصة بتربيتها وتحسين سلالاتها، وفي عهدهم أصبحت الخيول تُصَدَّر من ميزوپوتاميا إلى مصر، وثمّة من يَرى أنهم كانوا يتخذون من الجواد والشمس رموزاً مقدسة لديهم.
أما الفروسية عند الحُوريين وفرعهم الميتّاني فحسْبنا أن نستشهد بما ذكره الدكتور عبد الحميد زايد بشأن الإمبراطورية الحثّية الحديثة (1380 – 1190ق.م) قائلاً: “وقد تأثّرت كثيراً بالحضارة الحُورية، فجيشُ الإمبراطورية الذي امتاز بسلاح المَرْكَبات قد قام بتدريبه حُوريٌّ اسمه (كِيكُّولي Kikkuli)“. وطوّر الميتّانيون سلاح الفرسان، وكانت القيادة“ في أيدي طبقة أرستقراطية من النبلاء الفرسان المحاربين، يتميّزون باستخدام الخيول والعربات الحربية، ويسمَّون (ماريانو)“. والعلاقة واضحة بين (ماريانو) الحورية و(mêranî, mêr) الكردية، بمعنى (الرجولة/البسالة/البطولة).
وكان ملوك ميديا قد وحّدوا أسلاف الكرد جغرافياً وثقافياً وسياسياً، وورثوا ثقافة الفروسية وتقاليدها العريقة منذ العهد الكاشّي، فأسّسوا قوة قتالية متطوّرة، كان سلاح الفرسان هو القوّة الضاربة فيها، ولا تخفى أهمية الخيول في الحروب القديمة، إن سلاح الفرسان- وعماده الخيول- كان القوة الأكثر فاعلية في حسم المعركة لهذا الطرف أو ذاك، وكانت ميديا غنية بأنواع الخيول الأصيلة، وكانت الخيول أكثر ثروة الميديين، وكان الجواد الميدي مَضْرِب المثل في العالم القديم، قال دياكونوف: “الخيولُ التي كانت تُربّى في أرض ميديا تُعتبَر مشهورة جداً، وكان الآشوريون يأخذون بدل الضرائب والجزية خيولاً فقط“.
وبفضل سلاح الفرسان استطاع الميديون مواجهة القوة العسكرية الآشورية المشهورة حينذاك بالشجاعة والشراسة، وبفضلها قضوا على إمبراطورية آشور، وحرّروا شعوب غربي آسيا من سطوتها.
وكان ملوك الأخمين الفرس أكثر الناس معرفة بأهمية القوة القتالية الميدية، لذلك بادروا إلى توظيفها في خدمة أغراضهم التوسعية، وفيما يلي توضيح ذلك.
الدور العسكري الميدي في العهد الأخمين:
شاركت القوة القتالية الميدية على نحو فعّال في حروب الأخمين التوسّعية، ومن أشهر المعارك التي ساهم فيها الميد بفعّالية تحت راية الأخمين ضد اليونان: معركة ماراثون سنة (490 ق.م)، ومعركة سَلامِيس سنة (480ق.م)، ومعركة ﭘالاتيا سنة (479 ق.م)، ويؤكد ول ديورانت مكانة الميد في الجيش الفارسي، فيقول: “وكان الجيش العامل كله من الفرس والميديين“.
وكان الجواد الميدي مشهوراً باسم (نِيسِياني)، نسبة إلى سهل (نِيسِيا) أو (نِيسِيان) في ميديا (يقع في شرقي كردستان)، وكانت تُرَبّى في ذلك السهل أفضل أنواع الخيول، وتوصَف بأنها مقدسة، ربما لبياضها، ولأن البياض هو لون النور الشديد الأهمية في الميثولوجيا الميدية. وقال هيرودوت، يصف موكب الملك الفارسي أَحْشَوِيرَش، خلال زحفه من (سارْدِيس) عاصمة مملكة ليديا باتجاه مضيق الدَّرْدَنيل، للعبور إلى أوربا، وغزو بلاد اليونان عام (480 ق.م):
“يَتقدّمُه ألفٌ من الفرسان، وهم مختارون من أرجاء بلاد فارس كافّة، وفي إثْرهم ألفٌ من حَمَلة الرماح رافعين سلاحهم مقلوباً، ثم عشرةٌ من الجياد المقدّسة المعروفة بالنِّيِسيانية، وهي في أجمل زينة، وقد عُرفت هذه الخيول بالنِّيسِيانية نسبة إلى سهل نِيسِيان في بلاد الميديين، حيث تُربّى الخيولُ الضخمة التي لا مثيل لها في العالم، … ثم جاء موكب الملك، وهو في عربة تجرّها خيولٌ نِيسِيانية“.
وفيما يأتي بعض ما ذكره هيرودوت بشأن الدور الميدي، على الصعيد العسكري، في الدولة الأخمينية:
· في عهد الملك الأخميني أَحْشَوِيرش الأول Xerxes ، وهو ابن دار الأول (داريوس)، هاجم الأسطول الفارسي بلاد اليـونان، و”كانت هـذه السفنُ جميعها تحمـل على ظهرها مشـاةَ البحرية من الفُرس والميديين والساكاي“.
· عَبَر أَحْشويرش بجيشه مقـدونيا متّجـهاً نحو اليونان، فتصدّى له الإغريق عنـد ممرّ بَيلاي، وأوقفوا زحـفه خمسة أيام، فغضب “فوجّـهَ إليهم الميديين والكسيسيانيين، ليأتوا بهم أحياء“.
· في معركة سَلامِيس البحرية سنة (480ق.م) بين الفرس والإغريق في عهد أحشويرش “كان من بين مَن سقط في هذا الصراع … جَمْعٌ من مشاهير رجال فارس وميديا والأقوام المتحالفة معها“.
· بعد معركة سَلامِيس بعام “احتشد الأسطول في ساموس، وانضمّ إلى بقيّة السفن التي أمضت الشتاء هناك، وكان الرجـال المحاربون على ظهر الأسطـول إما من الفرس وإما من الميديين“.
قادة ميد بارزون في العهد الأخميني:
ذكر هيرودوت أن عدداً من الشخصيات الميدية تسلّموا مناصب قيادية عليا في الجيش الأخميني، وأبرزهم ثلاثة، وهم:
1-هارپاگ الميدي: يسمّيه هيرودوت (هارپاجوس)، ومرّ سابقاً أن هارپاگ ساعد كورش الثاني على انتزاع السلطة من الملك الميدي الأخير أَسْتياگ، وإقامة الدولة الأخمينية. وتجلّى دور هارپاگ في المعركة الضارية التي دارت بين كورش الثاني والملك الليدي كرُويْسوس (قارُون) قرب سارْديس عاصمة ليديا في آسيا الصغرى سنة (547ق.م)، إذْ دهش كورش من مشهد فرسان ليديا، وكان الليديون معروفين بالبسالة وشدّة البأس في القتال، وبحث عن طريقة يتغلّب بها على المقاومة الليدية، فقدم له هارپاگ الطريقة التي تمكّن بها الفُرس من إبطـال قدرات فرسـان ليديا وتحقيق النصر، قال هيرودوت:
“ووَجدَ [كورش]الحلَّ فيما اقترحه هارپاجوس الميدي، فعَمَد إلى حشْد ما عنده من الجِمال التي كانت تحمل المُؤَن والعَتاد، وأراحها، ثم جعل على ظهورها جماعةً من محاربيه كالفرسان، ودفع بهم إلى المقدّمة في مواجهة الفرسان الليديين… أمّا السببُ في أن كورش جعل الجمال مقابل جيـاد الليديين فهو نفور الحصان من منظر الجمل ورائحته“.
2-مازاريس الميدي: هكذا يسمّيه هيرودوت، فقد أوكل إليه كورش الثاني مهمّة القضاء على ثورة الليديين، فأنجز المهمّة بحزم، وأعاد ليديا إلى النفوذ الفارسي.
3-داتيس الميدي: حينما أخفق القائد الفارسي ماردُونيوس(ابن بنت دارا الأول، وقائد فارسي كبير) في هجومه على بلاد اليونان، عيّن دارا الأول قائدين آخرين لتنفيذ المهمّة؛ أحدهما داتيس الميدي، وأبدى داتيس احتراماً عميقاً لمقدّسات اليونان في أثناء هجومه على بلادهم، وحينما توجّهت سفنه بالمقاتلين إلى جزيرة دِيلُوس- فيها معبد الإلهأﭙوللوبن زِيوس كبير الآلهة- غادرها سكانُها، فأمر داتيس السفن ألاّ ترسـو في ديلوس، وبعث إلى سكان ديلوس رسالة جاء فيها:
“أيها السادة المبجَّلون، لماذا تهربون؟! ما هذا الرأي الغريب الذي تحملون، والذي يدفعكم إلى التواري؟! من المؤكد أنني أمتلك من الحَصافة – دونما حاجة إلى أوامر الملك- ما يكفي لأن أستثني الجزيرة التي ولد فيها أﭙوللو وأرتميس [من كبار آلهة اليونان]، وألاّ أقوم بأيّ عمل فيه ضررٌ لهما ولشعبهما، ولهـذا فإنني أرجوكم أن تعودوا إلى بيوتكم وجزيرتكم“.
ويلاحَظ بشكل عـام أن الميد كانوا يشكلون قوات مهمّة في الجيش الفارسي إلى جانب المقاتلين الفرس الذين سمّاهم كورش الثاني (الخالدِين)، وكان الملوك الفرس يعتمدون على المقاتلين الميد في المواقف العسكرية الحرجة كاعتمادهم على قوات الخالدين؛ ففي معركة ﭘاَلاتيا وضع القائد ماردونيوس قوات الخالدين في مواجـهة اللاكيديمونيين، وعلى ميمنة الخالدين وضع القوات الميدية في مواجهة الكورنثيين والبوتيدائيينوالأرخمينوسيين.
– جين بوترو وآخرون: الشرق الأدنى الحضارات المبكِّرة، ص 212. محمد بيّومي مهران: تاريخ العراق القديم، ص 300. توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسية القديمة، ص 262. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 571.
– عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 473.
– عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم (مصر والعراق)، ص 562.
– المرجع السابق، ص 148.
– ول ديورانت: قصة الحضارة، 2/417.
– هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 268.
– المرجع السابق، ص 508.
– المرجع السابق، ص 523.
– المرجع السابق، ص 571.
– المرجع السابق، ص 616.
– المرجع السابق، ص 634.
– المرجع السابق، ص 67.
– المرجع السابق، ص 104 – 106.
– المرجع السابق، ص 466 – 476.
– المرجع السابق، ص 657-658.
توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.
7 – 4 – 2013
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=33790