قناة الميادين الإيرانية والموالية لنهج ولاية الفقيه وخطابه الإعلامي التبشيري. قناة الجزيرة القطرية الداعم الرئيس لتيارات الإسلام السياسي المتطرف و(المعدّل) وهيكلها الإعلامي المقدس. قناة سوريا، الممولة قطرياً، التي تعمل من تركيا وتتحدث باسم المعارضة السورية. قناة اورينت، منصة التضليل والوكر المبتذل للتحريض الطائفي والعرقي في سوريا. قناة المنار، التابعة لحزب الله ومحراب المقاومة والممانعة، بالإضافة لقنوات النظام السوري كلها، ومنصّات الدواعش، وصحائف الائتلاف المعارض، ونواقيس العمشات والحمزات والسلطان مراد، وملالي أردوغان ومشعوذيه، شيوخ الغبار وعشائر (الحركة التصحيحية) ومنجزاتها، مافيات تهريب البشر وقطاع الطرق في الغابات الصربية والبلغارية، القوادون في مواخير استنبول، وتجار الحشيش والكبتاغون في طهران وبيروت ودمشق (أفيون العروبة النابض) وكلّ عابر سبيل لديه ثأر ما مع الكرد. وتتقدم هؤلاء جميعاًَ (هند بنت عتبة العبشمية القرشية) لونا الشبل الأسدية، تغويهم بفتنة عروبتها، وترفع رايات الثأر من الكرد غاصبي الأرض الانفصاليين، تريد التمثيل بجثثهم، كما فعلت هند بحمزة بن عبد المطلب عم الرسول في معركة أحد.
كلهم اجتمعوا على مائدة اللئام واتحدوا في جبهة واحدة، توحدّهم الكراهية والغلّ نحو الكرد، وراحوا يتحدثون بلسان واحد، لأول مرة منذ أكثر من عقد من الاحتراب المتبادل والكراهية البينية، وهنا المفارقة. اجتمعوا على قلب ولسان رجل واحد في حلف غير مقدس وتعاهدوا على محاربة (قسد) وتشويه الصراع الدائر في محافظة دير الزور بوصفه حرب إبادة بحق العرب. ملأوا الدنيا صراخًا بأنها حرب قسد ضد العشائر العربية. هكذا ودون خجل أو حياء شرعت تُبرئ قاطع طريق ومغتصب للنساء مثل (أبو خولة)، كانت تعدّه حتى الأمس القريب من تحوت العرب ورعاعهم الشواذ، أو الصعاليك وينسبونه عاره وأفعاله لقسد. جميع تلك المنابر والمنصات والمؤسسات تماهت في برهة واحدة خلف معركة (المناضل) العتيد المدعو (أبو خولة)، الذي بات في نظرها الآن رمزاً لحقوق الإنسان العربي المهدورة والمغتصبة من قبل الكرد المارقين والمعتدين.
أيّ عهر إعلامي وأي نفاق، أيّ صلافة وفجور وحّد كلّ هولاء في جوقة التضليل والتحريض هذه؟ أي مكّر سياسي وغلّ قوموي فاشي جعل من كل هؤلاء المتحاربين المتناحرين في حلف الأوغاد لشيطنة الكرد؟ الحمقى والسفهاء فقط يمكنهم أن يستسلموا بسهولة لهذا الزعيق الرخيص ولمراميه، خيانة الضمير والعقل وحدها تحمل المرء على اليقين بأن كل هذا الحلف الشاذّ والزائغ، المتباك على مصير العرب والعروبة في المحافظة، حريص على مستقبل الأهالي وأمنهم وتعايشهم مع جيرانهم. فهم لم يتحالفوا على هذا النحو يوم كان النظام يبطش بهم ويدك بيوتهم فوق رؤوسهم بقذائف مدافعه وطيرانه، ولم يحدثوا مثل هذه الجلبة والنخوة المجانية على مصيرهم يوم كانت داعش تفرض ظلام ليلها الطويل، الكالح والكئيب، عليهم وترهبهم. ولم تُثر حفيظتهم خلال السنوات الأخيرة عربدة الميليشيات الإيرانية وهي تستبيح مناطقهم، قصباتهم وقراهم، طولاً وعرضاً! لِمَ الآن بالذات، وفي هذا التوقيت المريب؟ أيّ سرّ خفي ألّف قلوب هولاء المتنافرين في جوقة لتشكل معاً هذا النشاز من الكراهية والتحريض ضد من أعتق هذه المناطق وحررها من سطوة داعش ودكّ عاصمة البغي (باغوز) بتضحيات باهظة من دم الفتية الكرد والعرب؟
تأكيد الذات وثنياً، الوعي المشوّه بالكرامة الفردية والجماعية، ردّات الفعل المنحرفة، ازدواجية المعايير الأخلاقية وغياب الاتساق في الوجدان الجمعي، النخوة المجانية، المكابرة الفارغة والمعاندة في رفض القبول بالآخر، الضجيج الاستعراضي والزعيق الأرعن الناجمين عن غيرة زائفة على القبيلة والهوية القومية، الهستيريا القطيعية المتطرفة المصحوبة بالرغبة في الانتقام، الذاكرة الانتقائية، النزعة الإيمانية المنافقة والسطحية، الادعاء والحميّة القبائلية الكاذبة، الانتخاء والتكبّر العشائري الزائف، كما فعل العديد من شيوخ (الحركة التصحيحية)، كلها مظاهر لأزمة العقل الأخلاقي وتناقضه، حيث تجدونها جليّة وصارخة في تظاهرات السلوك السياسي للمعارضة السورية ورموزها، التي تعشّقت، في هذه الآونة، مع خطاب النظام ومراميه في العداء للكرد، بخاصة تلك المعارضة القابعة في استنبول وتدار من هناك بمقود المخابرات التركية.
لقد أعلن كل هؤلاء معاً، وفي توقيت مشترك، النفير ضد الكرد، انخرط سادة القوم في كرنفال البذاءة والغلّ وراحوا يتبارون مع عوامهم وسفلتهم في احتقار الكرد والازدراء بهويتهم وكرامتهم، تنافسوا في إفراغ زخّات شتائمهم ونابيّتهم، التي أفصحت عن كراهية وانحطاط تربوي في المنشأ بحق شعب بكامله، ولم يتوانوا بكل صلافة وصفاقة في التعبير عن تركة الوضاعة والسوقية لديهم، التي عكست القاع الأخلاقي العميق لثقافتهم وتربيتهم الأيديولوجية. إن ما تعرّض له الكرد ويتعرضون الآن على يد أولئك من ازدراء وإسقاط أخلاقي لم يسبق أن تعرضوا في أيّ وقت من الأوقات. دونكم بأحكام التكفير التي صاحبة هذه الحملة وسبقتها، وأطلقها شيوخ التكفير التابعين لعصابات الإخوان، بحق الكرد، وبررت قتلهم وسبيّ نسائهم والسطو على أملاكهم ونهبها.
إن واحداً، من أبرز قادة المعارضة السورية، ومن صلب نخبة القبائل، الذي كان يتباهى بين أقرانه عادة بتعليمه الغربي الحديث، ويتفاصح مستعيراً لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحوار بين السوريين، نعني رئيس الائتلاف المعارض، انخرط بحماسة أشدّ من غيره في حومة التحريض. ورغم تعرضه منذ فترة لإهانات بالجملة من قبل المحتجين، في الشمال المحتل تركياً، حيث انهالوا عليه وقذفوه بالأحذية العتيقة مع زخّات الشتائم، فقد انتحل بسرعة خارقة سلوك الغوغاء، وتخلّى عن وقاره المعهود، مستعيراً هذه المرة لغة القبيلة والغنيمة والغزو ضد الكرد، في ابتذال شديد لا يصدر إلا عن عوامٍ، تعيش زمن غارات القبائل والثارات المتبادلة. سبقه إلى ذلك واستأثر بالريادة أحد الشيوخ المرتمين عند أقدام النظام، نوّاف البشير. ورغم تموضع هذين الزعيمين القبليين، على ضفتين متقابلتين ومتعارضتين سياسياً، كما يفترض، إلا أنهما تقاسماً هذا المجد المبتذل معاً وتماهيا في السلوك والتفكير إزاء الموقف من الكرد السوريين، وتباريا، مثل شعراء الجاهلية، في استعارة ألفاظ القدح والذم من معجمهم المشترك.
سبق لي، منذ سنوات مضت، وأن أشرت إلى أن الثورة السورية فشلت في الانتصار أخلاقياً على الجلاد، قبل أن تسقط سياسياً وعملياً أمام جيش نظامه. فما أحدثته من انقسام وما أثارته من كرنفالات الكراهية بين المكونات السورية لم يسبق للسوريين أن تعرفوا عليه في تاريخهم القريب والبعيد. إذ خلّفت وراءها صدوعاً وانهيارات أخلاقية، وعلى جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية، يستحيل علينا تجاوزها في زمن قصير. وربما تطبع بطابعها التراجيدي الخاص الهوية السورية وتترك فيها ندوباً وجراحاً مفتوحة لأمد طويل.
اليوم، هناك فجور سياسي وأخلاقي مشترك، صارخ وطاغ على سلوك النظام والمعارضة معاً، وبدعم وتشجيع من الروس والإيرانيين والأتراك، اجتمع هؤلاء جميعاً وتوحدوا في جبهة مهمتها إثارة وتهييج الشارع العربي المحلي وتأليبه ضد الكرد، ومن ثم خلق فتنة عرقية واقتتال بين العرب والكرد تمتد وتتسع لتشمل العراق خدمة لمآرب النظامين الإيراني والسوري.
ورغم أن هذا السلوك أو الموقف معهود عن النظام وإعلامه، إلا أن سلوك تلك المؤسسات الإعلامية والمنابر والشخصيات المعارضة كشفت أيضاً، خلال الأيام الأخيرة، عن ضيق أفق وتعصب لا يليق إلا بمتطرف يهودي مهووس بيوم السبت. فضحتهم انفعالاتهم الحقيقية البدائية، ومشاعرهم المقنعة بالعبارات العقلانية الفضفاضة عن التسامح والعيش المشترك. روائح الكراهية القبلية والقوموية، التي لا تطاق، أخذت تفوح بقوة من كلماتهم وتعرّي مزاعمهم المخادعة عن التآخي والمصير المشترك.
ولكن هلّ يمكن تفسير هذا المشهد الفاجر أخلاقياً، بمجرد القول إنه سلوك فردي لا أخلاقي؟ بالتأكيد لا، لا يمكن تفسير هذا الفجور الأخلاقي والصفاقة لدى هؤلاء وغيرهم، بل والسياسي كذلك، بموجب هذا المبدأ فحسب. فما يقبع خلف هذه الآراء والمواقف هو نمط متكامل من الخطاب السياسي والأيديولوجي وجملة من الممارسات الخطابية ومنظوم قيم ومعايير باتت راسخة، وغدت عادات أصيلة في تفكير النظام والمعارض السوري وسلوكه، وهي في جملتها ما يمكن أن نطلق عليها مفهوم (العقل الأخلاقي المشترك) للمعارضة السورية والنظام. إنه خطاب أزمة يعكس هزيمة العقل السياسي الحامل له منطقياً وواقعياً. ورغم عهدنا بهذا السلوك عند النظام منذ عقود طويلة، إلا أن تماه المعارضة في السلوك معه هو ما يثير الانتباه. وبالنتيجة لا نكون إزاء (ضحية) إنسان متحرر من سلطة الجلاد وسلوكه، وإنما مجرد ضحية مشوّهة لا يزال يثوي داخلها طاغية قزم وتافه، يحفزّها الغلّ والكراهية والرغبة في الانتقام من كل ما يقع في طريق تطلعاتها إلى ممارسة دور الجلاد. فهو يبحث عن ضحية أخرى يبرر بها هزيمته، وينتقم منها كي يستعيض بها شجاعته المفقودة، وهذه المرة، وفي المرات السابقة، كان الكردي هو الهدف.
إن الإطار السياسي العام لهذا المشهد الفريد، لا يبدو مبهماً لمن يرغب في تحديده. وهو يكشف بوضوح عن المآرب الخفية لتحريك العشائر العربية ضد قسد في هذا التوقيت بالذات، وحملة التحريض المشترك والطعن في وطنية الكرد، التي واكبت هذا التحرك، من قبل إعلام المعارضة والنظام معاً.
لعل الدافع الأول والمباشر، يتمثل سعي الطرف الإيراني وميليشياته، التي اتخذت من هذه المناطق ممراً استراتيجياً للإمداد والتمويل (مخدرات، السلاح، النفط) إلى إرباك المساعي الأمريكية وتعطيل خططها في خلق حزام آمن، طويل وعريض، فاصل بين الحدود العراقية والسورية، يخضع للسيطرة الأمريكية والقوات الحليفة لها. مهمتها منع الميليشيات وأذرع النظام الإيراني من الوصول إلى مناطق نفوذ النظام السوري وحزب الله وعزلهما. ولعلنا نكتشف هنا مغزى تحرك تلك العشائر بعد كلمة حسن نصرالله مباشرة، وتحرّك ميليشيات نواف البشير.
الدافع الثاني، احتواء الاحتجاجات المتصاعدة ضد النظام في الساحل السوري وانتفاضة السويداء، التي طردت قوات النظام ومؤسساته الأمنية من المحافظة، وباتت الآن تحت سيطرة الأهالي المنتفضين. إن اشغال الرأي العام السوري بنزاع عرقي، عربي/ كردي يهدف في هذا السياق إلى التغطية على الانتفاضات الجديدة والمتنامية وصرف الأنظار عنها، وبالتالي إطالة عمر النظام.
الدافع الثالث، صرف أنظار الرأي العام عن عمليات التطبيع المتسارع، السرية والعلنية، بين النظامين التركي والسوري، وإشغال السوريين عن الاهتمام بحملات الترحيل القسرية للسوريين اللاجئين من داخل التركي إلى المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة المرتبطة بتركيا، ناهيكم بحملات الكراهية العنصرية المنظمة التي يتعرض لها السوريون والعرب في الآونة الأخيرة، وشغلت مساحة واسعة من اهتمام الرأي العام.
الدافع الرابع، التخلص بضربة واحدة من الثقل الجيوسياسي للقضية الكردية في سوريا وتصفيتها، عبر حملات من الترهيب والتخويف للشارع الكردي وإرغامه على الإذعان لأجندة النظام السوري وشروطه والارتماء عند أقدامه.
بالطبع هنالك دوافع أخرى، لا يتسع المقام هنا للتفصيل، لكن ما يجدر أن نختتم به القول، يتعلق بالاستيهامات الأيديولوجية، التي تبرر بها قيادة قسد، والرؤوس الساخنة فيها، وجودها في هذه المناطق العربية الخالصة من قبيل (أخوة الشعوب) و(الأمة الديمقراطية)…الخ مثل تلك الشعارات، التي لا يمكن تبريرها والقبول، مهما كانت نبيلة في ظاهرها، فهي لا يمكن أن تخلق تاريخاً حقيقياً وسياسياً للمجتمعات المحلية أو تؤسس لمبدأ التعايش السلمي بينها، كما لا يمكنها بأي حال أن تحقق منجزاً تاريخياً وسياسياً يحسب للقضية الكردية. إنها مجرد يوتوبيا خرجت من رأس رجل حالم، محال التحقق منها واقعياً وعلمياً.
من غير المسوغ أن ترغم إنساناً على دخول الفردوس، مهما كانت دوافعك نبيلة. فمثل هذا الفعل ينطوي على وصاية وازدراء بكرامة الإنسان العقلية وخياراته وهو ما يتنافى مع مبدأ الإقرار بحرية الإنسان وجدارته. فكيف تبرر قيادة قسد لنفسها فرض أيديولوجيتها السياسية على قبائل عربية لاتزال تعيش ضمن منظومة ثقافية واجتماعية منسجمة معها منذ قرون، ويزعم منظرو قسد إنهم يستهدفون تمدّن ودمقرطة تلك القبائل؟ أيّ منطق مضاد للواقع والتاريخ يقبع خلف هذا الادعاء؟ لمَ نمنح الذرائع المجانية لأعداء الكرد من وراء هذا السلوك؟ ولمَ على الشباب الكردي وبناته أن يدفعوا من دمائهم وأرواحهم ضريبة تلك المهمة (الرسولية) المقدسة، التي ندبت قيادة قسد نفسها لأجل خلق مجتمع يوتوبي من العشائر والقبائل؟ أي مبرر لذلك؟
دعوهم وشأنهم، اسحبوا قوات قسد، وكفى هدر مجاني للدماء والأرواح، ثم ليأت من يشاء ليحكمهم أو يختاروا هم من يشاؤون لحكمهم، ليأت حكماء منهم، أو أعوان النظام، أو الإيراني، أو داعش، لتعم الفوضى. أيّاً تكن النتيجة، فهذا شأنهم ولهم الحق في تقرير مصيرهم بأنفسهم وعلينا تقدير خياراتهم، ومن المهم ألّا نكون دريئة لأيّ وهم سياسي أو اختراع أيديولوجي فاشل وغير واقعي.
د. سربست نبي
أستاذ الفلسفة السياسية – جامعة كوي https://koyauniversity.org
المصدر: إيلاف
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=30096