قيل أن الخليفة العباسي هارون الرشيد طلب من الشاعر أبي نواس أن يأتيه بعذر أقبح من ذنب .
وذات مرة مرَّ الخليفة من جانب أبي نواس فبادره الأخير ( ببعصة ) على دُبْره. صرخ هارون في وجه أبي نواس : ويحك يا هذا ماذا فعلت ؟!
أطرق أبو النواس وجهه خجلاً وقال : عذراً يا مولاي لقد ظننتك مولاتي السيدة زبيدة (زوجة هارون وابنة عمه).
ضحك هارون ضحكة فيها الكثير من المرح وروح الدعابة، وربت على كتف أبي نواس مردداً : هذا عذر أقبح من ذنب ..
إن صدقت صحة الرواية، فإنها تحمل في داخلها معنى عميقاً ، يشير إلى شفافية أبي نواس (المثقف)، وسعة صدر هارون (الحاكم)، وإلى عبارة بسيطة لكنها غنية بدلالاتها، صارت في الوعي الجمعي العربي لا تقل شأناً وخطورة عن شعرة معاوية التي توازن علاقة الحاكم بالمحكوم لإدامة الحكم، فهي تفتح نافذة لن تغلق، ربما لعقود أو لقرون، طالما الدولة العربية ترزح تحت نير الجهل والظلم والقهر والاستبداد.
وهذه النافذة لا تمرر رياح التغيير، ولا نور الحقيقة، إنما تورد من خلالها الأعذار الأشد قبحاً من ذنوب تقود إلى فشل ذريع تلو الفشل. فسوق الأعذار القبيحة يحجب الحقيقة عن الشعوب التي تتخوزق بالذنوب القبيحة، فالأعذار هنا تساق للتغطية على الذنوب. وفي الوقت ذاته يتلطى الحاكم والمثقف والسياسي خلفها هرباً من مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية، وحتى لا يُحملوا نفسهم عناء البحث في الأسباب والمقدمات والوسائل والأدوات والسياسات والاستراتيجيات والنتائج والقرارات الرشيدة، إما لجهل أو لمصلحة. وفي الحالتين فإن جميع الأعذار التي تساق هي أقبح بكثير من الذنوب، والذنب والعذر، هنا، سيان في زعم كل من الحاكم والمثقف والسياسي.
أما الشعوب فبعضها ينساق كالقطيع خلف قبح الذنوب والأعذار، ولا يكلف نفسه عناء التفكر بترهات الحاكم والمثقف والسياسي ولا بضلالاتهم وخداعهم لأنهم، منفردين أو مجتمعين ، صنع منهم أصناماً يتعبدها ، ويطيعها دونما خجل أو تأنيب من ضمير. وبعضها لا يكترث لمسألة ولا يمتعض من تجربة مريرة، وكل همه حياة هادئة لا يعكر صفوها دخيل أو متربص أو فضولي. وتبقى قلة قليلة مسكونة بهواجس الجمال، يأبى ضميرها الحي إلا أن يأخذها دائماً في مجرى سيرورة الثورة على القبح، ريثما يصحو الوعي الجمعي من غفوته المشحونة عبر التاريخ بشعرة معاوية الأموي وعبارة هارون العباسي . وكلاهما ، الشعرة والعبارة ، تفضحان زيف كل حاكم ومثقف وسياسي يستخدمهما للتضليل، وتستخفان بعقل الذين ينطلي عليهم هذا الزيف.
ثمة ذنوب تغتفر، من قبيل زلة لسان أو زلة ضمير أو زلة سلوك ، إذا كان تأثيرها محدود وعلى نطاق ضيق. وتزداد فرصتها بالغفران إذا الحاكم أو المثقف أو السياسي اعترف وأقر بالذنب وتراجع عنه ، فهذا يفتح النافذة إلى الداخل ليعبر من خلالها النور إلى الوعي الجمعي ، ويمهد الطريق للتغيير، لكنه تغيير جزئي محدود وبطيء. أما الذنوب القبيحة في الفكر والضمير والسلوك فلا دواء لها سوى التغيير الثوري الشامل، وتصبح الأعذار القبيحة التي تساق لتغطيتها جريمة وطنية ببعديها التاريخي والأخلاقي لأنها لا تؤجل التغيير فحسب بل تقضي على أية فرصة محتملة له. ويزداد الطين بلة إذا تحولت الأعذار القبيحة إلى أيقونات مقدسة تتعلق على رقاب العامة فتخنقها ببطء شديد ، وتخنق معها الحوامل الميكانيكية الجمعية للتغيير، وفي الوقت نفسه تعطل الحوامل الديناميكية للتغيير التي لا تتجمع بسهولة ويكون تراكمها ، في الأعم الأغلب، بطيئاً ومتقطعاً ومتشرذماً . وفي جميع الحالات يقع اللوم على الشعرة الأموية والعبارة العباسية ، اللتين تشكلان الإطار العام لسيرورات التغيير المتكاسلة. فمنذ تجربة محمد علي في مصر ـ وربما قبلها بكثير مذ قسم هارون الدولة بين ولديه الأمين والمأمون، بين العرب والعجم، بين السنة والشيعة، بعذر الحفاظ على الملك ـ وحتى هذه الآونة ، تساق عند كل فشل أو محنة نظرية المؤامرة كعذر أقبح من ذنب في الوقت الذي كل أنظمة الحكم التي تواترت على المنطقة حافظت على شعرة معاوية كوسيلة فعالة تستخدم في مقاومة التغيير.
ولم يكن سقوط مشروع محمد علي بفعل مؤامرة خارجية ـ فالدول تبحث عن مصالحها في جميع الأوقات والأحداث ـ بل لأنه بدأ من حيث انتهت أوروبا دون مراعاة الخصوصية المصرية والبناء عليها . فبناء صناعات كبيرة على أنقاض الإنتاج الصغير والإنتاج الحرفي، الذي كان مهماً آنذاك لاقتصاد مصر ، لم يكن خطوة موفقة بقدر ما غدا حجر عثرة في ظل التمسك بأنماط الإنتاج التقليدية في الريف المصري، وعدم نضوج مشروع سياسي وطني حاضن . وفي السياق ذاته لم يكن سوق نظرية المؤامرة لتبرير سقوط المشروع القومي العربي ( الناصري والبعثي ) أو المشروع الاشتراكي على الطريقة السوڤيتية أقل قبحاً من ذنوبِ لا تغتفر ارتكبت بحق الدولة ومؤسساتها وبحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية في كل من مصر وسورية والعراق وليبيا والجزائر واليمن الديمقراطي . كما لم تكن الأعذار التي دائماً تساق في الهزائم أو التفريط بالحقوق الوطنية ، أو إهمال قضايا الناس والمساس بحقوقهم ومكتسباتهم … أقل قبحاً من هذه الذنوب . ولكن يبقى الأقبح منها كلها الحاكم والمثقف والسياسي الذي ينساق في مجاريها التي تزكم الأنوف وتصيب الرؤوس بالدوار.
د . مهيب صالحة / السويداء / أيار ٢٠١٩
كاتب وأكاديمي سوري
دكتوراة في الاقتصاد وعميد سابق كلية إدارة الأعمال، الجامعة العربية الدولية، سوريا aiu.edu.sy
تموز نت
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=50219
اترك تعليقاً