د. مهيب صالحة: منطقة آمنة أم منطقة احتلال، شروط تركيا المرفوضة

منذ إعلان دونالد ترامب انسحاب القوات الأمريكية من شمال سورية ، يتجدد طلب تركيا إقامة منطقة أمنة على طول حدودها مع سورية شرقي الفرات بعمق ٣٢ كم داخل الأراضي السورية وعلى مسافة ٤٦٠ كم . وتصر تركيا أن تكون إدارة المنطقة الآمنة بيدها وحدها بحجة أنها تمتلك كل المؤهلات لذلك ، وأنها نجحت غربي الفرات بإقامة منطقة خفض تصعيد خالية من الإرهابيين ، وبالتالي نقل تجربة غربي الفرات إلى شرقي الفرات ، من وجهة نظر تركيا ، سيحافظ على وحدة أراضي الدولة السورية ، ويمنع الكورد من انشاء أي كيان لهم هناك ، ويقضي على من تسميهم الكورد الإرهابيين من حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتبع حزب العمال الكوردستاني المصنف إرهابياً في تركيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية . إن تركيا تلعب مع الإدارة الأمريكية ، منذ إعلان ترامب ، لعبة القط والفأر من بوابة الاتفاق على تصنيف حزب العمال الكوردستاني في قائمة المنظمات الإرهابية . ولكن جناحه السوري لم يتورط قط بعمليات عسكرية ضد تركيا ، وفي الوقت ذاته اعتمدت عليه الولايات المتحدة للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة مهمة شمال شرقي سورية على الحدود مع تركيا في إطار قوات سورية الديمقراطية ( قسد ) . وفي هذا السياق فإن حزب الاتحاد الديمقراطي السوري يستطيع سحب ذرائع تركيا ، وتبديد مخاوفها ، وتجنب ارتكابها حماقة ، يدفع ثمنها الكورد كما دفعوا ثمن احتلال عفرين ، وذلك بفك ارتباطه بحزب العمال الكوردستاني التركي لأن قضية الكورد السوريين قضية وطنية بامتياز ، وهي جزء مهم من قضية الشعب السوري الوطنية المتمثلة بالخلاص من الاستبداد والانتقال إلى دولة علمانية ديمقراطية ، مع لامركزية إدارية بوحدات موسعة تنمي روح المواطنة وتوفر ظروف التنمية المستدامة ، ويتساوى فيها جميع الأفراد والمكونات بالحقوق والواجبات . إن القضية الكوردية ، ككل قضايا المنطقة ، لا تحل بالجملة ، انما تحل في الأطر الوطنية لكل الدول الخمس التي تتقاسمها وفق ظروف القضية وظروف كل دولة التي تختلف من دولة إلى أخرى . ويستطيع عندئذِِ مجلس سورية الديمقراطية ( مسد ) باعتباره يمثل الإدارة الذاتية بجميع مكوناتها اجراء مفاوضات مع تركيا برعاية أمريكية لتجنيب المنطقة المزيد من التعقيدات ريثما يتفق الفاعلون في المسألة السورية على خارطة طريق لحلها .
ليس من قبيل الصدفة أن تتجاذب الإدارتان الأمريكية والتركية فكرة المنطقة الآمنة ، دونما بلوغ نقطة تسوية أو اتفاق بينهما . فتركيا تصر على تفردها بإدارة المنطقة الآمنة ، وترفض ضمنياً وجود أية قوات أممية أو غربية ، وأمريكا تصر على أن يكون لحلفائها الأوربيين دور فيها ، وتهدد تركيا بعقوبات اقتصادية شديدة إذا تعرضت لحليفها الكوردي في سوريا ، بينما يرفض الكورد المنطقة الآمنة بإدارة تركيا لأنها طرف في الصراع غير مستقل ، ولأنها تدعم الإرهاب في سورية ، وتحتل جزءاً من أراضيها .
وفي كل مرة تجدد تركيا مطالبتها بالمنطقة الآمنة يعود الحديث إلى نقطة البداية دونما أي تقدم بسبب فقدان الثقة بين جميع الأطراف ، سواء بين تركيا وأمريكا ، أو بين أطراف أستانا ( روسيا وايران وتركيا ) ، أو بين الأطراف السورية الداخلية وخاصة بين الإدارة الذاتية والنظام والمعارضة . ويعتبر تمسك أمريكا بحليفها الكوردي في سورية العقبة الكأداء أمام طموحات تركيا التي يفسرها بعض المراقبين أطماع قديمة لها في شمال سورية ، تثير مخاوف جميع الأطراف الأخرى . ومن جهة أخرى تدفع روسيا باتجاه فتح قنوات اتصال بين الحكومة التركية وحكومة دمشق من أجل تفعيل اتفاق أضنة ١٩٩٨ الذي يسمح لتركيا ملاحقة من تسميهم بالإرهابيين الكورد حتى عمق ٥ كم داخل الأراضي سورية بديلاً عن المنطقة الآمنة ، التي تطالب بها منذ سنوات ، ولا تتحقق . إن الاقتراح الروسي ، بدون أدنى شك ، يسعى إلى تشكيل كتلة صراع من أطراف أستانا التي تحتضن أطراف الصراع الداخليين باستثناء الكورد ، لأن قيام أي كيان كوردي شمال سورية ، وتحت أي مسمى ، يضاف إلى إقليم كوردستان العراق سوف يثير قلق دول أستانا جميعاً . وربما تدرك الإدارة الأمريكية ذلك مما يجعلها تعارض مواقف تركيا وشركائها في أستانا حيال الكورد ، وتترك قضيتهم دائماً مادة للبحث والمزايدة السياسية . إن الولايات المتحدة الأمريكية تدار بالمصالح والمكاسب وليس بالمبادئ ، وطالما مصالحها والمكاسب التي تحصل عليها في سورية أكبر مع الكورد فإنها تدعم توجههم حيال المنطقة الآمنة ، وغيرها من الموضوعات كموضوع التفاوض مع حكومة دمشق والاعتراف بالإدارة الذاتية شرقي الفرات . وفي اللحظة التي تتغير فيها مصالح ومكاسب أمريكا تتغير معها سياساتها ـ لنتذكر موقفها من الاستفتاء الذي أجرته حكومة البرزاني في إقليم كوردستان العراق ـ لذلك ليس من المتوقع أن تبقى سياسات الدول الفاعلة حيال المنطقة الآمنة شمال سورية كما هي الآن ، إذ لربما تتغير مع أي تغير بالمعطيات والوقائع والتقديمات .
إن تجربة الاحتلال التركي لمناطق سورية غربي الفرات منطقة ( الباب ـ اعزاز ـ عفرين ـ جرابلس ) لا تدعو للاطمئنان من جهة السوريين إذ أن تركيا تجري هناك تغييرات ديمغرافية عرقية وتطمس المعالم السورية لهذه المنطقة ، وحلفاؤها من الجماعات المسلحة المعارضة هم ممن ينتمون للإخوان المسلمين واشتقاقاتهم ، وهؤلاء يقدمون انتماءهم الديني إلى حكومة أردوغان الإسلامية على أي انتماء وطني . ونقل هذه التجربة إلى شرقي الفرات يعني المزيد من تعقيدات المسألة السورية ، وتعقيدات الحل السياسي ، وزيادة الفرقة بين مكونات الشعب السوري ، كما يكرس تقسيم البلاد إلى كونتونات أثنية وطائفية . وتفيد تجارب سابقة في مناطق كثيرة من العالم أن تدخل دول الجوار بمناطق النزاع ، بمسميات مختلفة ، يخفي غير ما يظهر ، فيتحول التدخل إلى احتلال غاشم .
إن تركيا لم تلتزم بتعهداتها في استانا حيال المنطقة معزولة السلاح ، وجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة ، في إدلب . وهي تؤجل أي حل مع شركائها روسيا وايران ، والسبب هو أطماع تركيا التي لا تنتهي في عموم الشمال السوري مستغلة تناقضات السياسة الدولية تجاه المسألة السورية ، وعلاقاتها بجميع أطراف الصراع الدوليين والاقليميين في سورية . ولكن هذه الأسباب هي نفسها التي تحول دون قبول أطراف الصراع للمنطقة الآمنة بمقاييس ومواصفات وشروط تركيا . لقد أدار الجميع ظهره لمطالب تركيا في المنطقة الآمنة ، ولا يعني تجدد المطالبة التركية بين الفينة والأخرى أن أطراف الصراع ، وخاصة الولايات المتحدة ، التي تتذرع تركيا كل مرة بالتفاهم معها حول المنطقة الآمنة ، قد أداروا لها صدورهم ، لأن شروط تركيا لا تعني منطقة آمنة بقدر ما تعني منطقة احتلال .
د . مهيب صالحة / السويداء / نيسان ٢٠١٩
كاتب وأكاديمي سوري
دكتوراة في الاقتصاد وعميد سابق كلية إدارة الأعمال، الجامعة العربية الدولية، سوريا aiu.edu.sy

خاص تموز نت

أضف تعليق