سوريا الجديدة بين إرث الماضي وخطر التطرف القادم
د. محمود عباس
جدلية التوافق وضياع الأحلام بين ثقافة النظام الحالي والشعوب السورية
الأنظمة القمعية التي سادت المنطقة لم تكتفِ بتدمير ثقافات الشعوب التي احتلتها، بل شوهت أيضًا ثقافتها الذاتية. فقد عملت هذه الأنظمة على ترسيخ مفاهيم العداء المتبادل والإقصاء بين شعوب المنطقة، وبينها وبين الشعوب الأخرى. وبهذا، خلقت بيئة ملائمة لإعادة إنتاج أنظمة مشابهة لها في الغايات والنتائج، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها. معظم هذه الأنظمة كانت في جوهرها معادية لشعوبها حتى الموت.
لا يمكن استبعاد أن تسلك الحكومة السورية الحالية أو المقبلة النهج ذاته، وإن اتخذت دروبًا وأشكالًا مختلفة، قد تبدو أكثر حداثة أو “مزركشة”. الأخطر من ذلك هو عندما يتم تسخير الدين كأداة، بحيث يُصور العداء لأعمال النظام على أنه عداء للدين ذاته. هذا الاستخدام للدين كغطاء للقمع يمثل كارثة حقيقية، حيث تتحول المعارضة المشروعة إلى جرم يُدان باسم المقدسات، مما يؤدي إلى تقييد الحريات وقمع الأصوات المعارضة تحت غطاء ديني لا يمكن المساس به.
وكما أشار الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد.” هذا القول يصف حال منطقتنا بدقة، حيث تعيش الشعوب بين أنقاض الماضي وأوهام المستقبل. وهو ما يثير القلق بشأن النظام السوري الحالي أو ذلك المتوقع تكوينه، والذي يهيمن عليه منظمة هيئة تحرير الشام أو النصرة سابقاً، مع الأمل بأن يتحرر من إرث الماضي المقيت، وألا يعيد إنتاج أساليب النظام البائد بأشكال مختلفة ومزيفة.
ما نتوجسه يظهر بوضوح في سياسات الدول الإقليمية وأنظمتها. تركيا، على سبيل المثال، لعبت دورًا سلبيًا للغاية في تأجيج الصراعات بين مكونات الشعب السوري، وزرعت الكراهية تجاه الكورد. ورغم تقديم نفسها كنظام إسلامي ليبرالي، كانت واحدة من أكثر الدول التي ساهمت في دعم المنظمات الإسلامية المتطرفة والإرهابية. استخدمت هذه الجماعات كأداة لمحاربة كل من يعارض سياساتها، وعلى وجه الخصوص الحراك الكوردي.
من خلال تدخلاتها العسكرية والاقتصادية ودعمها للميليشيات السورية المتطرفة، رغم زوال نظام الأسد المجرم، تسعى تركيا إلى تحقيق أهداف قومية طورانية، مستغلة البعد الإسلامي كغطاء لإضفاء شرعية على سياساتها التوسعية. هذه التدخلات لا تسعى فقط إلى قمع الحقوق القومية للكورد، بل تهدف أيضًا إلى إعادة صياغة المنطقة بما يخدم المصالح التركية دون اعتبار للتنوع العرقي والمذهبي أو الثقافي لمكوناتها.
هذا الدور المدمر لم يكن مقتصرًا على فترة النظام المجرم السابق، بل يستمر بمحاولات تكريسه في ظل النظام الجديد. الإملاءات التركية على هذا النظام الناشئ تهدد باستمرار تعميق الشرخ بين المكونات العرقية والإثنية. إذا لم يتم التصدي لهذه التدخلات والسياسات المدمرة، فإن النتيجة ستكون استدامة الصراعات والانقسامات، بدلًا من بناء مستقبل قائم على التعايش والسلام.
بالإضافة إلى تركيا، تلعب دول إقليمية أخرى، مثل إيران، دورًا مشابهًا في تأجيج الصراعات الداخلية على الأسس الدينية لخدمة القومية، لا سيما تلك المتعلقة بالشعب الكوردي وحراكه، وأيضًا في خلق التوترات المذهبية بين الشعوب المحيطة بها.
إن هذه الممارسات لا تسهم فقط في إضعاف فرص التقارب بين شعوب المنطقة، بل تُرسخ ثقافة الحقد والكراهية، مما يجعل تحقيق التعايش السلمي أكثر تعقيدًا.
بالنظر إلى الوضع السوري العام حتى الآن، وحتى لو تمكنت الحكومة المقبلة من إزالة الكوارث التي خلفها نظام الأسد، فإن المؤشرات الحالية لا تبشر بالخير. فالحكومة تبدو أسيرة إملاءات قوى مذهبية إسلامية متطرفة خارجية متعددة، على سبيل المثال، لا تزال تتحفظ في معالجة القضية الكوردية إلا من منظور القوى الإقليمية ومصالحها. بالإضافة إلى ذلك، هناك محاولات لفرض مفاهيم إسلامية متشددة وشاذة تعكس نفوذ التيارات الراديكالية المتطرفة داخل هيكلية هيئة تحرير الشام ومدى سيطرتها خلف الكواليس.
هذه التوجهات تظهر بشكل واضح في قضايا داخلية مستعصية، مثل التغاضي عن التجاوزات ضد المكونات الإثنية غير الإسلامية، وفرض رؤى دينية متطرفة بين المجتمع. ورغم أن بعض الحوادث قد تبدو فردية، إلا أنها تعكس اتجاهاً عاماً خطيراً، خاصة عندما تمر دون معاقبة أو حتى الحد منها. مثال على ذلك، السماح لأحد المتطرفين بالتجول في أحد أحياء دمشق ذات الأغلبية المسيحية والدعوة إلى الإسلام بأسلوب استفزازي، إلى جانب تصرفات شاذة أخرى تزيد من الاحتقان الاجتماعي.
من المؤشرات الأخرى، التي نعتمد عليها في أحكامنا هذه، ولقياس تحضر أي مجتمع هو وضع المرأة فيه. فما يتبين من تصرفات وأحكام أعضاء الحكومة الانتقالية الحالية أنها تتجه نحو الأنظمة التي لا تزال تحصر دور المرأة تحت قوانين بالية ومفاهيم مشوهة تساهم في تدمير المجتمع ككل. وكما قالت سيمون دي بوفوار: “لا يولد الإنسان امرأة، بل يصبح كذلك.” إذاً، تمكين المرأة ليس مجرد مطلب حقوقي، بل ضرورة لبناء مجتمع متماسك وديمقراطي مزدهر.
إذا استمرت هذه السياسات، سنشهد إعادة إنتاج لمنهجية الإقصاء وتوسيع الشرخ بين مكونات المجتمع السوري، مع تدمير القيم الحضارية التي ميزت سوريا تاريخيًا.
ولخلق مرحلة تمهيدية لبناء الثقة بين شعوب المنطقة، قبل الحديث عن الثقة بين الشعوب والأنظمة، فإن الحاجة ماسة إلى نظام سوري لا مركزي فيدرالي يحترم حقوق جميع المكونات. هذا النظام يضمن حقوق القومية الكوردية والإثنيات الأخرى، ويعمل على تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية التي تُبنى عليها أي دولة ديمقراطية حقيقية.
التحديات التي نواجهها ليست مستحيلة، لكنها تتطلب منا إعادة النظر في جذور أزمتنا. علينا أن نرفض ثقافة الإقصاء التي فرضت علينا. وأن نعيد بناء أنفسنا وفقًا لقيمنا الأصيلة التي تقوم على الديمقراطية واحترام الآخر. نظام فيدرالي لا مركزي هو السبيل الأمثل لإعادة سوريا إلى مسارها الحضاري، وتحقيق العدالة لجميع مكوناتها، وضمان حقوق القومية الكوردية وباقي الإثنيات. فقط من خلال هذا النهج يمكننا تحقيق السلام الداخلي والتقدم المشترك، دون الحاجة إلى الإذعان لقوة خارجية.
الولايات المتحدة الأمريكية
17/1/2025
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=60671