الأربعاء 25 حزيران 2025

سوريا/المرحلة الانتقالية: القتل بذريعة الشرف: عنف مستمر وسط غياب الحماية وتحديات الاستجابة القانونية

1. مقدمة:

في خضم التحوّلات التي تشهدها سوريا منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، تتكشّف تحديات عميقة في وجه بناء دولة قانون تحمي الحقوق وتكفل العدالة للجميع. وفيما تحتل الملفات العسكرية، بما فيها قضية المقاتلين الأجانب، والاقتصادية حيزاً مهماً من أجندة المرحلة، تواصل النساء والفتيات السوريات دفع ثمن غياب الحماية القانونية والاجتماعية الفعّالة، في ظل استمرار أنماط العنف القائم على النوع الاجتماعي، وعلى رأسها جرائم القتل بذريعة “الشرف”.

هذه الجرائم، التي غالباً ما تُرتكب في سياق من الصمت والتواطؤ، تكشف عن خلل بنيوي في آليات الوقاية والمساءلة، وتُظهر كيف تُستخدم مفاهيم مجتمعية كـ”العار” و”السمعة” لتبرير العنف، بل والقتل، دون محاسبة حقيقية. ومن بين العديد من الجرائم التي وقعت مؤخراً، تبرز جريمة منبج التي وقعت في نيسان/أبريل الماضي كمثال صارخ على هذا الواقع، حيث قُتلت فتاة شابة أمام الكاميرا، على يد أخيها، من دون أي تدخل أو متابعة من الجهات القضائية أو الأمنية.

يرصد هذا التقرير عدداً من الجرائم التي قُتلت فيها نساء على يد أقاربهن الذكور، والتي وقعت في مناطق مختلفة من سوريا خلال الأشهر الأخيرة الماضية، بعد سقوط نظام الأسد، وتحلّل أوجه القصور في المنظومة القانونية، وتواطؤ البنية المجتمعية، وضعف الاستجابة المؤسسية. كما تقدّم توصيات عاجلة السلطات الانتقالية السورية، بوصفها مسؤولة اليوم عن اتخاذ خطوات جديّة نحو إنهاء الإفلات من العقاب، وضمان حماية النساء والفتيات، كجزء لا يتجزأ من مشروع التحوّل الديمقراطي.

2. منبج: جريمة موثقة بلا محاسبة:

في 6 نيسان/أبريل 2025، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوراً يُظهر رجلاً يطلق النار على فتاة تقف أمامه عاجزة، تتوسّله ألا يقتلها. إلا أنه لم يتردد في استخدام بندقية كلاشينكوف ليردي شقيقته “رهف” قتيلة. وكانت رهف العلوان ثاني ضحية تُقتل في العائلة نفسها خلال أيام، إذ سبقها مقتل شقيقتها مها على يد والدها، بذريعة “غسل العار”، بعد أن تعرضتا للاختطاف على يد مجموعة تتاجر بالمخدرات.

أكّدت إحدى الشاهدات المقربات من العائلة،[1] خلال مقابلة معها، أن الأسرة كانت على علم مسبق بوجود تهديدات جدّية طالت الفتاتين، على خلفية خلاف بين شقيقهما ومجموعة متورطة في تجارة المخدرات، يتعلق بكمية من المواد وسعرها. وذكرت أن العصابة أقدمت على اختطاف الفتاتين للضغط على الأخ. وقالت الشاهدة:

“خلال فترة الخطف، تلقّت العائلة تهديدات باغتصاب الفتاتين. لا يمكنني الجزم إن كان قد تم الاعتداء عليهما فعلاً، لكن ما هو مؤكد أن العائلة كانت على علم بالخطف وبالتهديدات التي وُجّهت إليهما.”

وأضافت أن القاتل نفّذ الجريمة بنفسه، وصوّرها ونشرها، في مشهد بدا وكأنه استعراض متعمّد للقوة وفرض لعقوبة ذاتية. وتابعت:

“المؤلم أن الجريمة وقعت على مرأى الجميع، من دون أي تدخل من الجهات الأمنية أو القضائية. لم يُفتح تحقيق رسمي، ولم يُحاسب الجاني أو يُحتجز، رغم وضوح الجريمة وتوثيقها بالصوت والصورة.”

وختمت الشاهدة بأن العائلة لم تلجأ إلى الشرطة نظراً لتورط أحد أبنائها في الخلاف مع المجموعة الخاطفة، وأن تداول خبر الاختطاف والتهديدات في محيط الحي ساهم في التزام الأسرة الصمت.

3. جرائم متكرّرة تكشف خلل الحماية وتواطؤ المجتمع:

لا تُعدّ جريمة منبج استثناءً، بل تأتي في سياق سلسلة طويلة من الجرائم المرتكبة ضد النساء والفتيات تحت ذريعة “الدفاع عن الشرف”، تتفاوت في تفاصيلها لكنها تتشابه في نمطها، ما يكشف خللاً بنيوياً في منظومة الحماية، وتواطؤاً مستمراً من البنى القانونية والمجتمعية.[2]

في 19 كانون الثاني/يناير 2025، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر مقتل الشابة ليليان أبو سرحان على يد والدها في محافظة السويداء، في جريمة أثارت صدمة وغضباً واسعين داخل المحافظة وخارجها، وتبعها تنظيم وقفات احتجاجية للمطالبة بمحاسبة الجاني وإنصاف الضحية.

وبحسب المعلومات التي وثّقتها “سوريون”، أقدم الأب على طعن ابنته ليليان حتى الموت داخل منزل العائلة في قرية لبين بريف السويداء الغربي، ثم طعن زوجته أثناء محاولتها الدفاع عن ابنتها، قبل أن يلوذ بالفرار. نُقلت الأم إلى المستشفى، بينما بقي مصير الجاني مجهولاً لعدة أيام، إلى أن ألقت قوى الأمن العام اللبناني القبض عليه في بلدة “عيحا” بقضاء راشيا بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2025.

وفي شهادتها لـ”سوريون”، قالت إحدى قريبات الضحية:

“كان والد ليليان يعاني من اضطرابات نفسية وسلوكية واضحة منذ سنوات. حاول التحرش بها، لكنها قاومته وصرخت طالبة النجدة. حين تدخلت والدتها، فقد السيطرة على نفسه، أحضر سكيناً من المطبخ، وطعن ليليان طعنات قاتلة، ثم طعن زوجته أيضاً.”

وتابعت:

“نطالب بتحقيق العدالة الكاملة لليليان، وعدم التهاون مع هذه الجرائم التي تُرتكب داخل المنازل، على يد أقرب الناس إلى الضحايا، وتُقابل بصمت المجتمع.”

وفي 2 كانون الثاني/يناير 2025، شهد مخيم اليرموك في دمشق جريمة قتل أثارت غضباً واسعاً بين السكان، حين أقدم شاب على إطلاق النار على خطيبته (ر.م.) داخل منزل عائلتها، ما أدى إلى وفاتها على الفور، كما أصاب والدتها بعيار ناري قبل أن يلوذ بالفرار إلى جهة مجهولة. ورغم تداول الحادثة على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم تنشر أي تفاصيل تتعلق بسبب الجريمة أو بنتيجة التحقيقات فيها.

وفي جريمة أخرى، وقعت في 21 شباط/فبراير 2025، ظهرت صورة للسيدة صفاء رزقو، وقد أُعدمت ميدانياً برصاصتين في الرأس في محيط مخيم القطري بريف حلب الشمالي، على يد شقيقها وابن أخيه، ولم يصدر أي بيان عن الجهات الأمنية في المنطقة حول الحادثة أو ملاحقة الجناة، مما ساهم في طمس تفاصيل القضية وإبقائها ضمن دائرة التكتم.

وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، ما تزال جرائم قتل النساء على يد أزواجهن أو أقاربهن تتكرر وتنتشر في مختلف المناطق السورية، دون أن تتوفر استجابات مؤسسية فعالة تضع حداً لهذا النمط من العنف.

في 4 حزيران/يونيو 2025، أفاد مركز إعلام السويداء عن جريمة وقعت أمام مبنى قصر العدل في مدينة السويداء، حيث أقدم رجل من قرية سهوة البلاطة جنوب السويداء، على إطلاق النار على زوجته أسيل أبو عساف، وهي أم لطفل عمره 7 سنوات، قبل أن يُقدم على قتل نفسه.

وفي اليوم نفسه، شهدت قرية جلمة (celemê) التابعة لناحية جنديرس بريف عفرين جريمة مشابهة، حيث أقدم رجل على قتل زوجته جيهان مصطفى أيوب أثناء عملها في الأراضي الزراعية، مستخدماً سلاح كلاشينكوف، ثم انتحر فوراً. وبحسب ما توفر من معلومات، فإن الزوجين هما والدان لستة أطفال.

ولا تزال تفاصيل الجريمتين قيد المتابعة، دون صدور نتائج رسمية حول الدوافع أو مجريات التحقيق حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.

4. الخوف من الفضيحة والقتل… قوة تُرغم النساء على الصمت:

في العديد من الحالات، لا تبدأ جرائم “الشرف” بالفعل الدموي نفسه، بل بسلسلة من الانتهاكات المسبقة التي تُرتكب في الخفاء، وتصمت عنها الضحايا قسراً. فالخوف من الوصمة، والتهديد المجتمعي، وتواطؤ أفراد الأسرة، يدفع كثيراً من النساء والفتيات إلى التزام الصمت حيال ما يتعرضن له من عنف جنسي أو تهديدات، خشية أن يكون التبليغ بذاته شرارة تفضي إلى قتلهن.

في شهادة وثّقتها “سوريون”، روت السيدة (ا.ع.) من الحسكة أنها تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل أحد أقارب زوجها، لكنها لم تتجرأ على تقديم بلاغ رسمي. وقالت:

“كنت على وشك الإبلاغ، لكني تراجعت خوفاً من وصمة المجتمع، وخشية أن يلحق الرجل الأذى ببناتي، كما كنت أخشى رد فعل زوجي إن علم بالأمر.”

وتضيف:

“ما زال المعتدي يتجول بحرية في الحي، وأنا أعيش في خوف دائم. خوفٌ من الاعتداء عليّ وعلى بناتي، أو من الانتقام.”

تُظهر هذه الشهادة، وغيرها، كيف يمكن أن يتحول السعي إلى النجاة إلى دائرة رعب مغلقة، تُجبر فيها الضحايا على الصمت ليس حمايةً لأنفسهن فحسب، بل تفادياً لعقوبة أشد: القتل بذريعة “الشرف”. ففي مثل هذه السياقات، لا يُنظر إلى الاعتداء الجنسي كجريمة يجب التصدي لها، بل كعار يُلقى على الضحية، فتُترك وحدها لتواجه تداعياته من دون حماية أو عدالة.

5. فتح السجون والهروب من العدالة:

مع سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وما تبعه من فتح السجون وإطلاق سراح مئات المعتقلين، رُحّب بهذه الخطوة على نطاق واسع، لما تمثله من استحقاق طال انتظاره للمعتقلين/ات السياسيين/ات والمعارضين/ات الذين سُجنوا ظلماً، وغُيّبوا لسنوات دون تهم واضحة أو محاكمات عادلة. إلا أن هذا الإجراء، الذي كان يفترض أن يكرّس مبدأ سيادة القانون، كشف في المقابل عن ثغرات خطيرة، تمثّلت بخروج عدد من المحكومين بجرائم جنائية جسيمة، من بينها القتل تحت ذريعة “الشرف” والاعتداءات الجنسية، دون استكمال إجراءات المحاسبة القانونية، مما أعاد تهديد الضحايا والناجيات إلى الواجهة، وكرّس شعوراً عميقاً بانعدام الحماية واستمرار الإفلات من العقاب.

في محافظة السويداء، وثّقت منظمة “بلدي”، المعنية بحقوق المرأة، مقتل خمس نساء خلال عام 2024 على يد أقاربهن، بذريعة “غسل العار”، باستخدام وسائل قاسية شملت الخنق، والذبح، وإطلاق النار. ووفقاً لإحدى العاملات في منظمة بلدي، السيدة (و.ا)، فإن جميع هذه الجرائم لم تُقابل بأي شكل من أشكال المساءلة الجديّة، وبقي مرتكبوها طلقاء، حتى بعد سقوط النظام.

في أيلول/سبتمبر من العام نفسه، أثارت جريمة مقتل الطفلة جلنار عزقول على يد والدها موجة غضب عارمة على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية. وفي مقابلة مع “سوريون”، استعرضت السيدة (و.ا) تفاصيل الجريمة التي هزّت الرأي العام:

“كانت جلنار تعيش في أسرة تتسم بالقسوة، وكانت تتعرض للتعنيف المستمر من والدها. وبعد أن تواصلت مع شاب عبر الإنترنت، خرجت للقائه في إحدى الحدائق العامة. في طريق عودتها، شاهدت والدها صدفة على الطريق، فهربت خوفاً من بطشه، واتصلت بالشاب، فلجأت إلى منزل عائلته، حيث بقيت هناك خمسة أيام دون علم أهلها.”

وتتابع:

“خلال تلك الفترة، أصبحت جلنار هدفاً لحملة تحريض علنية من شرائح واسعة في المجتمع المحلي، حيث وُصمت علناً، ودُعي صراحة إلى قتلها وقتل الشاب. رغم ذلك، حاول الأخير معالجة الوضع بشكل رسمي، فتوجه إلى منزل عائلتها لخطبتها، لكن والدها أطلق النار عليه وقتله بدعوى ‘غسل العار’.”

وقد وثّق موقع “درج ميديا” تفاصيل مقتل الشاب، مشيراً إلى أنه أُعدم ميدانياً بينما كان جاثياً على ركبتيه، وقد بدت عليه علامات الإنهاك الشديد. وبحسب التقرير، اعترف الشاب بأنه “خطف الفتاة”، إلا أن عائلته أكدت، في بيان لاحق، أن الاعتراف انتُزع منه تحت التعذيب والإكراه، وأنه لم يرتكب أي جرم. وقد بدت عليه آثار واضحة لسوء المعاملة لحظة مقتله.

تستكمل الشاهدة سرد القصة قائلة:

 “بعد عدة أيام، خرجت جلنار من منزل عائلة الشاب برفقة والده، الذي سلّمها إلى عدد من رجال الدين ووجهاء المنطقة. وبعد وساطات، طُلب من والدها التوقيع على تعهّد خطي بعدم التعرض لها. إلا أنه، بعد عودتهم إلى المنزل، خالف التعهّد وأقدم على قتلها.”

قام الجاني بتسليم نفسه للسلطات المختصة. وتشير السيدة (و.ا) إلى أن فتح السجون في كانون الأول/ديسمبر 2024 حرره حيث خرج دون أن يُحاكم أو يخضع للمحاسبة. وأضافت:

“فوضى السلاح وغياب الرادع القانوني فاقما خطر هذه الجرائم، وسمحا بتكرارها في أشكال متعددة. كثير من الجرائم التي تُرتكب بحق القاصرات تُسجَّل على أنها ‘انتحار’، بينما تمرّ الانتهاكات الجنسية، من تحرش واغتصاب، في صمت تام، خوفاً من الوصمة أو من العنف أو حتى القتل.”

وختمت بالقول:

“ما تزال ظاهرة ‘الوصاية القاتلة’ قائمة، حيث لا توجد أي آليات فعالة تحمي الفتيات من ذويهن، حتى عندما يكون هؤلاء هم مصدر التهديد المباشر لحياتهن.”

في حادثة أخرى، أُطلِق سراح مدرس سابق من سجن السويداء، رغم كونه مداناً بالاعتداء الجنسي على فتاتين قاصرتين (7 و9 سنوات). تقول محامية الضحيتين، أن الملف كان لا يزال قيد النظر في محكمة النقض عندما أُفرج عن المتهم، لتجد العائلة نفسها من جديد في مواجهة الخطر، دون حماية أو تعويض، بعد أن كانت قد لجأت إلى القضاء ودفعت تكاليف باهظة في سبيل العدالة. ورغم أن الجريمة لم تصل إلى حد القتل، فإن الاعتداء الجنسي على طفلتين في هذا العمر يُعدّ بحد ذاته انتهاكاً بالغ الخطورة، ولا يمكن التقليل من شأن الآثار النفسية والاجتماعية التي يمكن أن يكون قد خلّفها الاعتداء الجنسي عليهما في سن مبكرة، خاصة في حال عدم محاسبة الجاني. فالإفلات من العقاب لا يفاقم شعور الضحايا بالظلم فحسب، بل يعزز خطر تكرار الجريمة بحق فتيات أخريات، ويُبقي عائلة الضحيتين في دائرة الخوف من احتمال تعرّضها للانتقام بسبب التبليغ.

6. مسؤولية مضاعفة على السلطات الانتقالية:

مع بدء المرحلة الانتقالية في سوريا، تواجه الحكومة الجديدة تركة ثقيلة من الانتهاكات البنيوية التي طالت النساء لعقود، وعلى رأسها العنف القائم على النوع الاجتماعي. وتُعدّ جرائم القتل بذريعة “الشرف” أحد أبرز المؤشرات على استمرار منظومة العنف والتمييز، والتي لن تُكسر إلا بإجراءات حازمة على مستوى التشريع، والمؤسسات، والمجتمع.

إن إسقاط النظام السابق، لا يؤدي بحد ذاته إلى تحقيق العدالة أو إلى إنهاء أنماط العنف والانتهاكات المتجذّرة، ومن بينها جرائم القتل المرتبطة بما يُسمى “الشرف”، التي استمرت بعد انتقال السيطرة إلى السلطات الجديدة، مما يحمّل هذه السلطات مسؤولية مضاعفة في التصدي لها ومنع تكرارها، فهي لا تُحاسب فقط على أفعالها، بل أيضاً على صمتها أو فشلها في التصدي لإرث متجذّر من العنف والإفلات من العقاب. إن أي تأخير في معالجة هذه الظاهرة بحزم قد يقوّض الثقة بالحكومة الانتقالية، ويمكن أن يعيد إنتاج مناخ الخوف والتمييز الذي ثار السوريون/ات ضده.

ورغم أن الحكومة الانتقالية تواجه تحديات كبيرة على مستوى الأمن، وإعادة هيكلة المؤسسات، والاستجابة للأزمات الإنسانية، وغيرها، إلا أن معالجة جرائم الشرف لا يستلزم بالضرورة موارد ضخمة، بل يتطلب في المقام الأول إرادة سياسية واضحة، وإجراءات ملموسة تعيد الثقة في مؤسسات الدولة، لا سيما لدى النساء والفتيات اللواتي طالهن تهميش مزدوج: من السلطة، ومن الأسرة.

وفي ظل غياب مبادرات تشريعية أو بيانات رسمية تندّد بهذه الجرائم أو تعلن عن خطط لمحاسبة مرتكبيها، يبقى التساؤل مشروعاً: هل ستتخذ الحكومة الانتقالية موقفاً واضحاً تجاه هذه الجرائم، وتضع حداً للإفلات من العقاب؟ أم ستبقى صامتة، منشغلة بملفات تراها أكثر إلحاحاً، على حساب قضايا حماية النساء وحقوقهن الأساسية؟

7. رأي قانوني:

على الرغم من إلغاء نص المادة 548 من قانون العقوبات السوري رقم 148 لعام 1949،[3] بموجب القانون رقم 2 لعام 2020، لا تزال جرائم القتل المرتكبة بذريعة “الشرف” أو “غسل العار” تُرتكب بشكل متكرر، في ظل استمرار ثقافة تبرير العنف ضد النساء، وضعف أدوات الردع القانونية والقضائية. فقد كانت المادة 548 تعفي القاتل من العقوبة إذا فاجأ زوجته أو قريبته في “حالة الزنا المشهود”، ثم عُدّلت لتمنح عذراً مخففاً بدلاً من الإعفاء الكامل قبل عملية الإلغاء. وقد أدّى هذا النص، بتطبيقه لعقود، إلى ترسيخ مناخ يسمح بالإفلات من العقاب على جرائم العنف ضد النساء.

وبما أن القوانين السورية لا تزال نافذة استناداً إلى المادة 51 من الإعلان الدستوري الصادر في آذار/مارس 2025، فإن الجرائم المشار إليها في هذا التقرير تُعدّ، وفقاً للقانون، إما قتلاً “عمداً” إذا ما ارتكبت بناء على تخطيط وتفكير مسبقين، أو “قصداً” إذا كان فعل القتل وليد اللحظة، وذلك استناداً إلى المواد من 533 حتى 535 من قانون العقوبات السوري. وتنص الفقرة الثالثة من المادة 535 صراحةً على أن القتل العمد المرتكب بحق أحد الأصول أو الفروع يُعاقب عليه بالإعدام، ما يعكس إدراك المشرّع لجسامة هذا النوع من الجرائم. ورغم أن “سوريون” تُعارض تطبيق عقوبة الإعدام باعتبارها انتهاكاً للحق في الحياة، إلا أن النص يُبرز خطورة هذه الأفعال، ويؤكد ضرورة إخضاع مرتكبيها لأقصى العقوبات القانونية.

ومع ذلك، لا يزال قانون العقوبات السوري يفتح منفذاً خطيراً لتبرير هذه الجرائم عبر المادة 192 التي تتيح تخفيف العقوبة عند توافر “الدافع الشريف”، والذي عرّفته محكمة النقض بأنه “عاطفة نفسية جامحة تسوق الفاعل إلى ارتكاب جريمته تحت تأثير فكرة مقدسة لديه”.[4] وهو تعريف غامض وفضفاض، يُعطي هامشاً واسعاً للتقدير القضائي، ما يسمح بإضفاء شرعية ضمنية على أعمال العنف والانتقام باسم “الشرف”.

دولياً، تمثّل هذه الجرائم انتهاكاً صارخاً للحق في الحياة المنصوص عليه في المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما تشكّل شكلاً من العنف القائم على النوع الاجتماعي المحظور بموجب اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تُلزم الدول الأطراف، ومنها سوريا، باتخاذ تدابير تشريعية وعملية للقضاء على هذا العنف، وضمان تمتع المرأة بحقوقها على قدم المساواة مع الرجل. كذلك، تتعارض هذه الجرائم مع إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة لعام 1993، الذي أكّد على وجوب حماية النساء من العنف، وضمان حقهن في الحياة والكرامة والمساواة.

8. التوصيات:

انطلاقاً من مسؤولية الدولة في ضمان الحق في الحياة، ومكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وحماية الفئات الأكثر عرضة للخطر، تدعو “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” الحكومة السورية الانتقالية إلى اتخاذ الإجراءات التالية:

8.1. أولاً: على المستوى التشريعي:
  • تعديل قانون العقوبات لإدراج نص صريح يُجرّم القتل بدافع “الشرف”، ويُصنّفه كجريمة مشددة لا تقبل الأعذار المخففة أو التبريرات الأسرية أو المجتمعية، مع تعديل المادة 192 من القانون بما يمنع استخدامها كمسوّغ لتخفيف العقوبة في مثل هذه الجرائم.
  • مراجعة شاملة للتشريعات السارية، ولا سيما قانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية، بهدف إلغاء أو تعديل الأحكام التي تُقيّد حرية النساء والفتيات، أو تُجرّم حمايتهن خارج إطار الأسرة، وبما يضمن مواءمتها مع مبدأ المساواة وعدم التمييز، وتعزيز الحماية القانونية للفئات الأكثر هشاشة.
8.2. ثانياً: على المستوى القضائي والإجرائي:
  • التأكيد على عدم شمول مرتكبي جرائم “الشرف” بأي عفو عام أو إطلاق سراح إداري دون محاكمة عادلة، وضمان استمرار ملاحقتهم وفق القانون، دون استثناءات تمييزية.
  • ضمان مراعاة كل الإجراءات للحساسية الجندرية في التشريع، والتنفيذ، والتعامل مع الضحايا، لضمان استجابة عادلة ومنصفة.
8.3. ثالثاً: على المستوى المؤسسي:
  • إنشاء دُور حماية آمنة ومتخصصة للنساء والفتيات المعرضات لخطر العنف الأسري أو المجتمعي.
  • إنشاء خط ساخن وطني مجاني وآمن لتلقّي بلاغات التهديد والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وتشكيل وحدات متخصصة من الشرطة والنيابة العامة للتعامل مع هذه القضايا بفعالية، وتعيين عاملات نساء مؤهلات في مراكز الشرطة، النيابة، ودُور الحماية، بما يوفر بيئة آمنة وموثوقة للنساء والفتيات ويشجّعهن على الإبلاغ.
  • توفير مساعدة قانونية مجانية للناجيات والناجيات المحتملات من العنف، من خلال مراكز حكومية أو بشراكة مع منظمات مستقلة مختصة.
8.4. رابعاً: على المستوى المجتمعي والتربوي:
  • تنفيذ حملات توعية وطنية تهدف إلى تفكيك خطاب “الشرف” المرتبط بالنساء، بالتعاون مع الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والقيادات الدينية والاجتماعية.
  • إدماج مفاهيم المساواة وحقوق الإنسان في المناهج التربوية والتعليمية، مع التركيز على مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتكريس قيم احترام الكرامة الإنسانية.
8.5. خامساً: على الصعيد الدولي:
  • تفعيل التعاون مع الآليات الأممية المعنية بحقوق النساء ومكافحة العنف، بما في ذلك تقديم التقارير الوطنية الدورية، والاستجابة لتوصيات الهيئات المعنية.
  • إدماج التوصيات الدولية، ولا سيما أحكام اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، في السياسات والتشريعات الوطنية، والعمل على رفع التحفظات السورية عن الاتفاقية، خصوصاً تلك المتعلقة بالمساواة أمام القانون وفي نطاق الأسرة، بما يعكس التزاماً فعلياً بحقوق الإنسان.

[1] تتحفظ “سوريون” عن ذكر أسماء الشهود الذين قابلتهم خلال إعداد هذا التقرير لأجل سلامتهم وأمنهم.

[2] نشرت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” العديد من التقارير التي توثق حالات القتل بذريعة “الشرف”. أنظر مثلاً: سوريا: 185 جريمة قتل بحجة الدفاع عن الشرف منذ 2019. 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. اختفاء شابّة في الجنوب السوري وسط أنباء عن مقتلهابذريعة الشرف. 25 آب/أغسطس 2021. بذريعةالشرف”: جرائم مستمرة بحق النساء في مناطق سورية مختلفة. 5 أيار/مايو 2021. عشر جرائمبدافع الشرففي الحسكة والسويداء منذ مطلع 2019. 8 آب/أغسطس 2019. سوريا: مقتل طفلة وامرأتين بجرائم منفصلةبدافع الشرف. 5 تموز/يوليو 2019.

[3] نصت المادة 548 بداية على ما يلي: “يستفيد من العذر المحلّ من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنى المشهود أو في صلات جنسية فاحشة فأقدم على قتل أحدهم أو إيذائه بغير عمد.” ثم عدّلت المادة لاحقاً لتصبح: “يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة الزنى أو في صلة جنسية غير مشروعة فأقدم على قتل أحدهم أو إيذائه.” وأخيراً، تم إلغاء المادة نهائياً بموجب القانون رقم 2 لعام 2020، المنشور في الجريدة الرسمية في 12 آذار/مارس 2020، والذي نصّ على إلغاء المادة بالكامل دون استبدالها.

[4] نقض سوري 1983 مجلة المحامون الإصدار 1-2 .

المصدر: سوريون من أجل الحقيقة والعدالة

مقتل سيدتين بذريعة ما يسمى بـ”حماية الشرف” في منبج بعد تعرضهما للاختطاف والابتزاز