السبت, يوليو 27, 2024

نُشر في: 7 مارس، 2024

آراء

شورش درويش: عن مأساة السوريين وأزمتهم “المستمرة”

يمكن لأزمة، أو لحرب أهلية، أن تستمر لسنوات أو عقودٍ طويلة، لكن المحقق والأكيد أنه لا يمكن لثورة شعبية أن تستمر لثلاثة عشر عاماً أو أكثر كما هو الحال في سوريا، لاسيما أن الأمور انزاحت سريعاً من احتجاجات شعبية عارمة إلى حرب أهلية بمضامين طائفيّة، ونفاذ دولي وإقليمي إلى داخل المعادلة السورية وربط استراتيجيات الدول المتدخلة باستمرار الحرب، لذا يبقى تعبير “الأزمة المستمرة” أكثر دقة، رغم تفهّم موقف القائلين بـ”الثورة المستمرة” سواء كانوا مستفيدين من إطلاق هكذا توصيف، أو كانوا مجرّد حالمين محكومين بنوستالجيا التظاهرات الأولى.

كما إن القول باستمرارية الثورة (إذا سلّمنا جدلاً بأنها كانت ثورة لها أدبياتها وأفكارها العمومية خارج اللافتات والهتافات)، يحتّم علينا أن نذهب إلى القوى الشعبية التي أسست لحركة الاحتجاجات، وأين هي الآن وما هي تطلّعاتها بعد كل هذا الخراب والدمار الماديّ والمعنوي. ومن المفيد التذكير أن وجود كتلة بشرية معارضة لنظام الأسد لا يعني بالضرورة أنها تمثّل حالة ثورية قائمة، فالجماهير، تبعاً للمفكّر السوري إلياس مرقص، هي “كتل بشرية كبرى زائد فكرة التقدّم”، والحال أن الكتل البشرية الكبرى في سوريا مذ بدأ الاحتكام للسلاح غدت معادية لفكرة التقدّم أو طوّعتها القوى الرجعية، فأمست متحاجزة لصالح طوائفها وإثنياتها، وحتى لمناطقها فيما بعد مع تنامي الثقافة الجهوية.

لا يمكن التفاؤل بانقضاء الكارثة في المدى المنظور، فالتفاؤل غدا ضرباً من الجنون في بلد مقسّم دخل متاهة الحرب الأهلية ولا يملك خريطة طريق تدله على الخروج منها، وفي بلدٍ بات أمره كله في يد دول إقليمية وكبرى، وتتناهبه النزاعات حتى داخل دويلات الأمر الواقع نفسها؛ وإذا كان بث التفاؤل سمة المشتغلين بالسياسة لأغراض مرتبطة بتحفيز الرأي العام، فإن انكفاء السوريين عن ممارسة الفعل السياسي، بما هو انتظام ومناقشات وبرامج، يشي بعمق الأزمة وفقدان الأمل بالقدرة الذاتية للسوريين في اجتراح حلول خارج مصالح الدول الضالعة في الحرب على السوريين.

يتناوب سوريون، على ضفتي المعارضة والنظام، تبادل الاتهامات الممزوجة بالسخرية فيما خص تبعية كل طرف لـ”مشغّل خارجي”، وكلاهما على حق، إذ إن النظام المتماسك القائم على العصبيّة الأمنيّة بات أسير النفوذين الإيراني والروسي. فيما تتحكم تركيا بكل ما يتصل بالمعارضة الائتلافية الهرمة والمتآكلة، وتحول دون تشكيل أُطر معارضة خارجة عن طاعتها، وقد تدرج أنقرة أي تيار معارض لا يخضع لها في منزلة العدوّ أو الطرف المضرّ بمصالحها في سوريا، وبالتالي من المفيد لدورها التسلّطي هذا أن تلتقي مع النظام في فكرة محاربة أيّة تيارات معارضة تزعم التمسك بالقرار المستقل. بهذا المعنى فإن طول عمر الأزمة جعل من سوريا بلداً بلا نظام ولا معارضة، والأمرّ من ذلك أنه بلد بلا مجتمع.

أيضاً، مع تهافت مسار جنيف، وخواء سلال ديمستورا الأربع، وجعل قرار مجلس الأمن 2254 مجرّد لافتة أو شعار غير قابل للتجسيد، فإن لقاءات أستانا، التي أُعلنت نهايتها العام الفائت، عادت لتتجدّد، إذ لا بديل عن تحاور الدول المتدخلة، روسيا وإيران وتركيا، فحيث سعى النظام والمعارضة المسلّحة إلى الاستقواء بالخارج، فإن الخارج الذي تمكّن من كل تفاصيل المشهد السوري بات هو الذي يستعين بالداخل السوري ليوسّع مساحة حضوره، والطبيعي أن فكرة الاستقواء الطفولية هذه جعلت من النظام والمعارضة مؤتمرين لسياسات الدول المتدخلة بدرجة مُسحت معها ملامح الطرفين، إذ لم يعد في سوريا نظام ولا معارضة يمكن مخاطبتهما بعيداً عن الدول التي تتولّى الإشراف عليهم.

والحال، أن سوريا تدخل العام الرابع عشر من عمر أزمتها مع إمكانيات قوية بتجدد المعارك بين النظام والمعارضة بشقيها الموالي لتركيا أو الجهاديّ، واحتمالية ازدياد وتيرة الفشل في ضبط الأمن والاستقرار في مناطق سيطرة النظام والمعارضة وتنامي الانتهاكات، وبقاء احتجاجات السويداء كجزء من حركة اعتراض مستمرة جهوية وضعيفة الأثر وغير قادرة على انتاج حلّ محليّ/ذاتيّ، فضلاً عن بقاء الاستهدافات التركية لمناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتغوّل المليشيات الإيرانية والمتعاونين العشائريين معها داخل المجتمعات المنهكة في المنطقة الحدودية مع العراق. ولا يغيب إلى ذلك التذكير بتواصل الأزمة المعيشية وتفاقمها.

لا ترتبط الأزمة السورية بعدّاد زمني، أو لحظة يُقال فيها أنه آن لها أن تنتهي، ذلك أن سوريا وشعبها باتا خارج الاهتمام الدولي، وأمست سوريا مجرّد مجالٍ حيويّ للدول الإقليمية وروسيا، فيما بعض جغرافيتها تحوّل إلى مساحة لتعزيز الأمن القومي الأميركي سواء بمواصلة محاربة داعش أو لتطويق التمدد الإيرانيّ.

كان صادق جلال العظم قد ميّز في إحدى كتاباته بين المحنة والمأساة، فإذا كانت الأولى مؤقتة بمعنى أن لها بداية ونهاية، فإن الثانية تبدأ لكنها لا تنتهي، وهو ما ينطبق على حال السوريين إذ إن ما كان محنةً بدأ على شكل تمرّد مسلّح وانشقاقات عسكرية في مواجهة قمع السلطة العنيف، ونزوح ولجوء مؤقّت إلى دول الجوار، أصبح مأساةً مستمرة بدأت في آذار 2011 ولا يمكن استشراف نهايتها.

المصدر: نورث برس

شارك هذا الموضوع على