شوقٌ عميقٌ يجرفُني إلى أشهى جموحاتِ الحرفِ

صبري يوسف (أديب وتشكيلي سوري)_

لا أرتوي من الكتابةِ، لديَّ شهيَّةٌ عميقةٌ أنْ أكتبَ وأكتبَ، وأكتبَ، شهيّتي مفتوحةٌ على الكتابةِ برغبةٍ مُبهجةٍ للروحِ، والقلبِ، وآفاقِ الخيالِ، توهُّجاتٌ في غايةِ الانسيابيّةِ تتهاطلُ في فضاءِ الكتابةِ بمفازاتها، تنهمرُ عليَّ هذهِ التّهاطلاتُ مثلَ شلَّالٍ متدفِّقٍ من أعالي الجبالِ، لا أستطيعُ مقاومةَ جموحاتِ الانبعاثِ، لما فيها من متعةٍ غيرِ مسبوقةٍ في انبلاجِ الحرفِ.

لا أعلمُ عن أيِّ موضوعٍ أكتبُ، لكنَّ الَّذي أعلمُهُ أنَّ هناكَ شغفاً عميقاً للكتابةِ يُهيمنُ على عوالمي برحابِها الشيقة، أشعرُ في مثلِ هذه الأحوالِ أنَّ الكتابةَ حالةٌ إنسانيَّةٌ، لا تُضاهَى، ولا تُقاوَمُ، أشبه ما تكونُ حلماً يتراقصُ في مروجِ الخياِل، حلماً يهدهدُ خيوطَ الحنينِ المبلَّلةَ بندى الصَّباحِ، الكتابةُ هبةٌ من الأعالي، نعمةُ النِّعمِ، هي الوجودُ بعينِهِ، تترجمُ ما يتلألأُ في رحابِ الذَّاكرةِ والحلمِ، وأشهى ما يتلألأُ في مروجِ الخيالِ، وهي شاهدٌ على التَّاريخِ البشريِّ، ولولا الكتابة لما عرفنا ثقافة التدوين البشري والإنساني بمختلفِ الحضاراتِ والثَّقافاتِ، منذُ أنْ ظهرَ الحرفُ، والتَّدوينُ على وجهِ الدُّنيا حتّى الوقتِ الحاضرِ.

الكتابةُ هي شاهدٌ على إبداعِ حضارةِ الإنسانِ منذُ أن خطَّ حرفَهُ الأوَّل على جدرانِ الكهوفِ، والطِّينِ.

الكتابةُ سحرٌ خفيٌّ غافٍ في كينونةِ الرُّوحِ، تنبلجُ في لجينِ الخيالِ، تمنحُ الأزاهيرَ شذىً، وتعانقُ الموجوداتِ بأجنحةِ المحبّةِ، فهي مكلَّلةٌ بتيجانٍ ممهورةٍ بصفاءِ زرقةِ السَّماءِ، الكتابةُ تحملُ بينَ حناياها شهيقَ الوجودِ، تُغدِقُ فوقَ هاماتِ البحارِ أسرارَ لألأة النُّجومِ، تحملُ في آفاقِ مراميها نسغَ القلبِ الجامحِ إلى معانقةِ اخضرارِ الكونِ، تُوشِّحُ كينونةَ الإنسانِ بوهجِ الأملِ، وتسربلُ قممَ الجبالِ شموخاً، الكتابةُ لغز لغةُ الأكوانِ المنبثقةِ من عقل الإنسان ومن لسان الأديب، الكتابةُ شهيقُ السَّماءِ على الأرضِ، نسيمٌ عابرُ القارَّاتِ، أسرارٌ ممهورةٌ بديمومةِ الوجودِ ورحابِ الخلودِ، تهدهدُ هدوءَ اللَّيلِ وتناغي أجرامَ السّماءِ، تنثرُ فوقَ هضابِ الصَّحارى هديلَ الوئامِ، وتزرعُ في ظلالِ الرِّوحِ بُشرى الخلاصِ، الكتابةُ لغةُ العبورِ إلى أقصى أقاصي السَّماءِ!

يغمرُني عطشٌ مفتوحٌ إلى مروجِ الذَّاكرةِ، إلى الماضي البعيدِ، وحدَها الكتابةُ قادرةٌ أن تلملمَ كلَّ ما تناثرَ في محطّاتِ العمرِ، وتفرشَ فوقَ دروبِ العمرِ بهجةَ الحياةِ، شوقٌ عميقُ الغورِ يجرفُني إلى ربوعِ ديريكَ، إلى سهول القمحِ، وإلى دالياتي المعرِّشةِ في حبورِ الذَّاكرةِ، إلى أزقَّتي الّتي ترعرعْتُ فيها، إلى طفولتي، إلى والدي وأمِّي، إلى الموتى! أجل إلى الموتى، أشعرُ وكأنَّ الموتى أحياءٌ، يبتسمونَ لي ابتسامةً وديعةً، أسمعُ حنينَ أصواتِهم، ولا أشعرُ بحنانِ الكثيرِينَ مِنَ الأحياءِ.

هلْ تغيَّرَتْ معادلاتُ الحياةِ، فأصبحَ الأحياءُ موتى وأصبحَ الموتى أحياء؟ أسئلةٌ لا تحصى ترفرفُ في آفاقِ الحنينِ!

الحياةُ لغزٌ مجنّحٌ إلى ذروةِ تجلّياتِ الخيالِ، وحدَها الكلمةُ تبقى ساطعةً على وجنةِ الحياةِ، نحنُ البشرُ مجرَّدُ كلماتٍ متناثرةٍ على وجهِ الدُّنيا، وحدَها الكتابةُ لها قيمتُها وحضورُها، وجبروتُها، وكينونتُها إلى أمدٍ طويلٍ، لا بقاءَ على وجهِ الدّنيا، نحنُ نسمةٌ عابرةٌ فوقَ خصوبةِ الأرضِ، حلمٌ خاطفٌ في مهبِّ الاشتعالِ، تجلِّياتُ حلمٍ معشَّشٍ في خبايا الحرفِ. رحلةٌ عاصفةٌ مثلَ هبوبِ الرِّيحِ، لا نتركُ خلفنا إلَّا حرفاً، أثراً ما، رؤيةً، موقفاً، ثم نعبرُ ضيافةَ الأعالي. وحدَها الكلمةُ تبقى ساطعةً فوقَ طينِ الحياةِ، تهمسُ لكلِّ الأجيالِ القادمةِ همسةَ حبِّ، وتطرحُ تساؤلاتٍ مفتوحةً، تعانقُها الأجيالُ بكلِّ محبَّةٍ، وصفاءٍ وتستوحي منها ما ظلَّ معلَّقاً وسابحاً في بحارِ الحرفِ.

يحملُ الإنسانُ فوقَ أجنحتِهِ أسراراً مخفية، عجباً كيفَ يتحمَّلُ الإنسانُ آلاماً تزلزلُ الجبالِ؟ يبدو أنَّ الإنسانَ يحملُ بينَ جناحيهِ طاقةً خلَّاقةً، يستطيعُ عبرَها أنْ يمحقَ الألم. فهو يقفزُ فوقَ مآسيهِ، من خلالِ نعمةِ النّسيانِ.

تثيرُني الكتابةُ يوماً بعدَ يومٍ إلى درجةٍ أشعرُ ألّا رصيدَ لي على وجهِ الدُّنيا، ولا لأيِّ إنسانٍ تناثرَ فوقَ وجهِ البسيطةِ، سوى الأيامِ والشُّهورِ والسِّنينَ الّتي نعيشُها، فقط نمتلكُ هذهِ المساحةَ المتاحةَ لنا في رحلةِ الحياةِ، وكلُّ ما عداها هي قبضُ ريحٍ، سرابٌ في مهبِّ الاندثارِ، فلِمَ لا نكتبُ رؤانا قبلَ أنْ نعبرَ ضيافةَ الأعالي؟!

كلّما قرأْتُ نصوصي، كتاباتي، أشعاري، قصصي، رواياتي، حواري مع الذِّاتِ، طفحَتْ دمعتي تنسابُ بدفءٍ نحوَ سهولِ القلبِ، شعورٌ عميقٌ ينتابُني بعبثيَّةِ الحياةِ، بسرابيّة الوجودِ، باغترابِ الإنسانِ، هناكَ اغترابٌ مريرٌ يكتسحُ هذا الزَّمانَ، يكتسحُ علاقاتِ البشرِ معَ بعضهم، حماقةٌ مريعةٌ تزدادُ تفشِّياً على آفاقِ الدُّنيا، انحدارٌ مرعبٌ في عجلةِ الانحدارِ نحوَ دهاليزِ الغدرِ، نحوَ ظلمةٍ حالكةٍ. ما كنتُ أتصوَّرُ يوماً أن يصلَ الإنسانُ إلى هذا الدَّركِ الأسودِ من القبحِ، والغدرِ، والظّلمِ، فإلى متى سيبقى ضالَّاً عن أسمى ما في جوهرِ الوجودِ؟!

أزدادُ دهشةً يوماً بعدَ يومٍ، كيف لم يستفدِ الإنسانُ منِ الحضاراتِ، الَّتي مرّتْ على تاريخِ البشريّةِ، ومن كلِّ أخلاقيَّاتِ الأديانِ، والفلسفاتِ، والقصصِ، والأساطيرِ، والثّقافاتِ الكونيّةِ، وبقيَ متقوقعاً في خانةِ الشَّراهاتِ، والأنانيّةِ، والبغضِ، والانغلاقِ على الذَّاتِ، متمسِّكاً بكلِّ ما لهُ علاقةٍ بالتَّملكِ الأهوجِ، والتَّسُلُّطِ الأعمى على بني جنسِهِ، غارقاً في متاهاتِ غيِّهِ، لا يتّعظُ من كلِّ ما رأته عيناهُ خلالَ رحلتِهِ في الحياةِ، وكأنَّهُ في رحلةِ ضلالٍ، بعيدٌ عن جوهرِ الحياةِ، إلى متى سيبقى الإنسانُ بعيداً عن ضياءِ نورِ الحرفِ وحكمةِ الحياةِ؟!

​الثقافة – صحيفة روناهي

رابط مختصر للمقالة: http://kurd.ws/15zwk

تابعنا على أخبار جوجل

متابعة
Generated by Feedzy