الأربعاء, أكتوبر 23, 2024
القسم الثقافي

فايز قزق: المراكز الثقافية معنية بإعادة الهيبة لمفهوم الثقافة وليست مجرد عقارات

برغم العثرات الثقافية التي نعيش تجلياتها المختلفة، على أكثر من صعيد، فإن عرضاً مسرحياً كالذي شاهدناه لطلاب السنة الثالثة في المعهد العالي للفنون المسرحية، يعيد لنا بعضاً من الأمل المُفتَقَد، بأن هناك من مازال يعمل بشغف منقطع النظير ليُحقِّق توازنه الخاص، وتوازن من يُدرِّبهم أكاديمياً، على الفهم الصحيح لشخصياتهم ومجتمعهم ودورهم في تنميته معرفياً وجمالياً، وكأنه تجسيد حقيقي لمقولة ممدوح عدوان «طوبى لمن أتقن أن يتوازن في المشي وكان العالم مقلوباً».
حديثنا هنا عن الفنان «فايز قزق»، الذي لم يكتفِ بوضع الملح على الجرح، فيما يتعلق بما آل إليه المعهد المسرحي، والواقع الثقافي، والدراما التلفزيونية، والمجتمع السوري بشكل عام، بل رسم بكلامه ما يُشبِه خريطة طريق للنهوض من كبواتنا المُتلاحقة الذي لن يتحقق إلا بتحصين أنفسنا بالثقافة، إليكم هذا الحوار:
• أمزجة مختلفة لثمانية نصوص كتبها أربعة كتاب من جغرافيات مختلفة، جمعتها بروح واحدة، حيث ضمَّها عرض طلاب السنة الثالثة في المعهد العالي للفنون المسرحية من دون الإحساس باختلاف الأمزجة والزمن… كيف وحَّدت كيمياءها؟
•• وفق البرنامج الأصلي للمعهد العالي للفنون المسرحية، يتم في السنة الثالثة انتقاء مشاهد مهمة من نصوص عالمية وتقديمها في الاستوديو، وبالنسبة لي قمت بتدريب الطلاب على ذلك أكثر من مرة في حياتي، مرة على نصوص إغريقية ومرة على «شكسبيريات»، وغير ذلك من نصوص عربية كـ«نساء ونوسيات» الذي قُدِّم العام الماضي، بعد ذلك تبدأ مهمتي حيث يبدو ما يقدم ليس مشاهد منفصلة، وإنما تمرين واحد، عبر البحث عن رابط إنساني ووجداني بينها. فكان «تينيسي ويليامز» و«أنطون تشيخوف» و«ستريندبرغ» و«دورفمان» و«إبسن»، بحيث شكَّلت مشاهد أولئك الكتّاب، ذات المستوى العالي، حافزاً لتدريب الطلاب وفق مناهج المعهد، ووفق ما هو منقوص بالنسبة لهم على مستوى الجسد والصوت، والعلاقة بين الطالب والشخصية، الطالب والمجموعة، إلى جانب أمور دقيقة يتمركز حولها عملي مع الطلبة، ثم تم استخدام الباص الذي أصيب بقذيفة هاون، وهو عزيز على قلبي إذ كان ينقلني من برزة إلى دمر كمعيد عام 1982، ثم من بيتي في برزة إلى المعهد في الأمويين، لذا أردت أن يكون ملعباً ومسرحاً للطلاب، ولاسيما أن هذا النمط من التجارب يبقى هاجساً لدي، وهو متابعة لما قدّمته مع الطلبة في حديقة تشرين سابقاً عن نص «حلم ليلة صيف».
• هل من منهج محدد تتبعه في تدريب الصوت والجسد وفهم الشخصية؟
•• هناك مناهج معروفة لـ«ستانسلافسكي»، «بريخت»، «ميرخولد» وغيرهم، ممن قدموا نظريات على تدريب الممثل، إلى جانب «أكاديميات» كنت في بعضها أستاذاً، وفي بعضها متدرِّباً، وكنت في أماكن فيها المسرح الذي يقدم تجارب جديدة، التقاط كل هذه الأشياء على مدى أربعين عاماً كان بالنسبة لي أمراً مهماً، وشكّل منهاجاً أستطيع من خلاله النفاذ إلى الخزين الحسي لكل طالب وطالبة، والبدء بهدوء من هناك لاستدراج هذا الخزين، وجعل تلك الشخصية المدروسة موطئ قدم للطالب/ الإنسان ليعبر كل واحد منهم عن نفسه، من خلال الأفكار، وأحياناً من خلال مادة الارتجال غير الموجودة في المعهد، لكنني كنت مصرّاً على أن تكون برنامجاً مُستداماً بالنسبة لي، فالارتجال بالمعنى العلمي والمنهجي والأكاديمي مختلف تماماً عما يقصد به من ارتجال بالمعنى العام للكلمة، فهو منهاج صعب ودقيق وخطر وله جوانبه العلمية التي تمتد في التاريخ إلى كوميديا ديلارتي وما قبلها. كل هذه الأشياء توضع ضمن سياق ما يحتاجه الطلاب من أمور على مستوى الصوت وتدريباته، وعلى مستوى الجسد وتجلياته، والعلاقة الحسية بين الطالب وذاته، و الطالب وشخصيته، والطالب وزملائه، وبين الطالب وبيني، كمدرب أحرص شديد الحرص على الابتعاد عن فرض ما يمكن أن يكون عائقاً أمام حرية هذا الطالب/ الإنسان على خشبة المسرح.
• كيف تعاطيت مع اختلاف مستوى الطلبة؟
•• المنهجية في العمل، وطريقة التدريب يوماً بيوم، وأسبوعاً بأسبوع، توصل في نهاية المطاف إلى رصد نقاط الضعف عند كل طالب، وتتم معالجة المسائل ذات الطابع الفردي بشكل سريع ومنظم، حيث لا تتبدى الفوارق كبيرة بين الطلاب، خصوصاً عندما تبدأ عملية البحث النفسي، سواء للشخصية التي سيقدمها الطالب، أو للبحث النفسي في ذاته وخزينه، وثقافته، إنها عملية معقدة، لكن يمكن دائماً اقتفاء المتاهة الخاصة للوصول إلى مكمن الضعف عند هذا الإنسان والبدء بِرَتْيِهِ، وإصلاحه عبر التدريب الشائق والمجدي الذي يعطي أملاً بإمكانية أن تتطور هذه البقاع الغامضة أو الضعيفة عند الطالب على مستوى الصوت والجسد وعلى مستوى حس المغامرة، فالفن يحتاج مغامرة الإنسان مع ذاته وأدواته وروحه، واختبارها، من هنا ننطلق للبحث في كل شيء ابتداءً من الكلمة وجغرافيتها، والجملة وما تحتويه من إمكانات ضخمة لتحويلها لوسيلة تعبير حسية لا تلحظ بها كلغة عربية فصيحة، وبالنسبة للعامية عليها أن تكون منتقاة بعناية كي لا تتبدى قمامةً لغوية «شارعية» أو «زقاقية» لا فائدة منها، على العكس تماماً تختبر الكلمات والجمل ثم الأجساد والإشارات والإيماءات والعوامل الحسية الموصوفة من قبل الكاتب وقيمتها، خاصة إن كانت بعيدة عنا، كشكسبير وتشيخوف وبيرانديلو… وعندما نتناول إحدى هذه المسرحيات نأخذ بالحسبان ظروف كتابتها المناخية والاجتماعية والسياسية ونحاول أن تكون ملائمة لنا.
أنا كممثل ومخرج محترف أتخذ من النصوص مداساً لي للوصول إلى متاهتي، وهي طريقة أشير إليها للطلاب، ألا نكون عبيداً للنصوص بين أيدينا، كائناً من كان كاتبه، فلدينا حاجات: أولاها التدريبية، ثانيتها الإنسانية الوجدانية التي نعيشها، على كل هذه الأشياء أن تلتقي عند نقطة خلاقة وجذابة وتعني من سيرى هذا التمرين.
• ما تتكلم عنه بحاجة لجهود كبيرة، وأنت تُدرِّب دفعتي السنة الثالثة والرابعة، أي إنك تتحمل هذا الجهد أكثر من عشر ساعات في اليوم مدة سنة أو سنتين، ومن دون مقابل مادي لائق، كيف سيستمر المعهد من دون أساتذة، ومنهج حقيقي، وبلا تطوير في النظام الداخلي؟
•• قبل الحرب بسنوات، طرحت مسائل تطوير مناهج المعهد عبر لجان متخصصة اختبَرَت المسرح في العالم، تدريباً وتمثيلاً وإخراجاً، واختبرت أيضاً مسألة نمو العالم كرؤى، ونموه كتكنولوجيا ووسائل تدريب، لا أعني «الكمبيوتر»، وإنما كل ما يفيد الإنسان على خشبة المسرح الجدير بأن تبذل في سبيله كل الجهود والإمكانات. طرحت هذه المسائل عدة مرات، وكانت الاستجابة من قبل وزارة الثقافة باردة، أو فاترة، حسب الوزير وحسب عميد المعهد. أحياناً تكون هناك إيماءات أنه بالإمكان تطوير النظم الداخلية للمعهد، لكن الأمور تجري بشكل كارثي، كل عميد جديد يحاول أن يترك لنفسه بصمة في المكان، فيؤسس قسماً ثم يمضي، من دون أي شكل من أشكال التنظيم الأكاديمي أو الرؤى العلمية لتدريب الطلاب، وبلا توفير احتياجات كل قسم مستحدث، ولا تحديد عدد طلابه، وما الدول التي ينبغي أن نبتعث إليها أساتذة جدداً؟ وما الحيز المكاني الذي يتطلبه هذا القسم؟ ولم يفكر أي منهم كيف نعالج العلاقة بين طلبة السينوغرافيا مثلاً وطلبة التمثيل والرقص والتقنيات… فكانت الكوارث تتلاحق حتى وصل الأمر إلى حالة الاختناق الحالية في المعهد، حيث إن كماً كبيراً من الطلاب لا يأخذون حقهم الأكاديمي والعلمي والتدريبي ليكونوا ما هو منوط بهم في المستقبل ضمن المسارح وغيرها، وبات المعهد شبه خالٍ من الصفة الأكاديمية، وكلامي غير مقصود به شخص بذاته، لا عميد ولا مسؤول ولا وزير، المعهد وصل لمرحلة الاختناق، ويبدو أن هناك قراراً بتحويله إلى مكان يشبه المفرخة للإنتاجات التلفزيونية، ما إن تتخرج دفعة حتى يندفع معظمهما للتلفزيون وشركات الإنتاج التي تعاملهم في بعض الأحيان من زاوية الجهل التي فيهم، وأحياناً بنظرة دونية، ما يضع الخريجين في حالة حرجة، خاصة أنه لا خطة على الإطلاق لاستيعاب هؤلاء في المراكز الثقافية كفرق محترفة تشكل نواةً لنموٍّ مستدامٍ بدعم غير محدود لإنشاء العروض المسرحية بكل أصنافها، وأنواعها، أو لإعادة افتتاح المسرح الجامعي، ومسرح المرأة، ومسرح الطفل كمؤسسات وليس كعروض عابرة سبيل، تُقَدَّم لذرِّ الرماد في العيون، فهذا عيب، ولاسيما أن على مؤسسة مسرح الطفل أن تتضمن من يدرس نفسية الأطفال، وطبيعة الاقتصاد الذي أتوا منه، والكيفية الفنية التي تضمن مشاركتهم مشاركة فعالة، لتكون النتيجة مجتمعاً متماسكاً. المسألة صعبة على مستوى التمثيل والإخراج.
إذاً تنبغي إعادة النظر بهيكلية المعهد بشكل كامل، من حيث المكان الذي بات خانقاً، ولا يمكن على الإطلاق أن يكون مناسباً لما يقدم من خلال هذا المعهد، وإعادة هيكلة النظام الداخلي، فلا يوجد متخصصون حقيقيون جدد، بل اعتماد على أساتذة كانوا فيما مضى طلاباً وتخرجوا من فترات بعيدة، إلى جانب بعض المخرجين، أو بعض الفنانين الذين جاؤوا لتقديم بعض العروض مساهمة منهم في انتشال هذا المعهد من أزماته المتفاقمة، أو أحياناً من عابري السبيل الذين يرون في المعهد حالة «بريستيجية»، لكن هذا سيكون على حساب الطلاب وتدريبهم وتعليمهم، وخلق حس المغامرة لديهم في المستقبل.
أتوجه لوزارة الثقافة بالمناشدة أن تكون هناك ورشة عمل مستدامة على مدى سنة أو سنتين لإنقاذ المعهد، عدا ذلك لن يكون هناك سوى مكان خالٍ من أي نوع من أنواع الحس العلمي الممنهَجْ القادر على إدامة الممثل السوري سواء في المسرح أو السينما أو حتى في التلفزيون، لكن يبدو أنه حتى هذه اللحظة، لا إشارة إلى ضرورة ابتعاث بعثات، وتجديد النظام الداخلي للمعهد الذي وضع عام 1977، إلى تجديد مكانه وفصله عن المعهد الموسيقي ومدرسة الباليه وغيرها من المؤسسات التي لم يعد لها مكانها ولا تأخذ حصتها من الزمن، نحن نشتبك مع بعض في عجينة حولت المعهد إلى ما يشبه روضة أطفال، فيها الصراخ والعويل وكل ما يمكن أن يشير إلى أن هناك فوضى عارمة، البعض قد تعنيهم هذه الفوضى، أما بالنسبة لي فلا تعنيني على الإطلاق، وهو أمر محزن، أحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وولائي لهذا المعهد مطلق. ولدت ودرست فيه وابتعثني، ولا أستطيع أن أرى نفسي بعيداً عنه في أي يوم من أيامي.
• هل تشير إلى ضرورة ربط الخريجين بالمراكز الثقافية؟
•• يجب السماح لخريجي المعهد بالدخول إلى المراكز الثقافية، والبدء بمنهج عمل يوضع على مدى سنة إلى سنتين لكيفية إدارة الفرق المسرحية ضمن المراكز التي عليها أن تضم إلى جانب الكتاب، السينما والمسرح لجمع الناس، عدا ذلك تصبح أماكن للعبث من قبل أشخاص لا همّ لهم بالثقافة، بمعنى ألا تكون مجرد عقارات تخلو من أي نوع من أنواع التشويق المسرحي والسينمائي لكمّ هائل من السوريين يتوقون لأن يروا هذه المراكز وقد بدأت بالإشعاع. فالمراكز معنية بجمع الناس وإعادة الهيبة لمفهوم الثقافة وإلا سنبقى في مرحلة «الخرافة».
• قلت مرة إن هناك من يريد أن يبقينا وحيدين في البيت، وأن يكون الاجتماع الوحيد لنا في أماكن العبادة.
•• تماماً، هناك من لا يريدنا أن نتحاور، في المعابد أنت تذهب كمؤمن وتصمت، لأن هناك من يقول لك ما قيل، وليس بمقدورك أن تناقش، إذاً اللسان مقطوع، لديك أذنان وعليك أن تتلقى. في التلفزيون أيضاً عليك أن تتلقى وتصمت في بيتك، وإن كان في المعابد شيءٌ من الجمع المقدس، فإنك في بيتك وحيد يلفك الصمت، وتحتقن من الداخل، لأمر قد لا تستسيغه على الشاشة، لكنك تصمت، إذاً الاحتقان موجود، وجاء الإنترنت لتعزيز هذه الحالة، الإنسان وحيد في هذه الكرة الأرضية، وإن عرف أياً من البشر فسيعرفهم كصور، وإشارات لا علاقة لها بالإنسان، الضحك نرسله بصيغة «هههههههه»، هل هذه هي الضحكة؟ في حين إننا لا نلقي النكتة ولا نضحك عليها إلا للتعبير عن إنسانيتنا، الضحك هو السمة التي يتفرد بها الإنسان عن بقية المخلوقات، إذاً نحن في حالة خديعة كبرى، عندما يقال لنا بإننا نعيش في قرية صغيرة، لا.. في اعتقادي ثمة ستة مليارات قرية متسرطنة لا علاقة بين بعضها بعضاً، هي عدد الناس الذين يمسكون الكمبيوتر وأجهزة الموبايل. نحن نتصل لكننا لا نتواصل، وخطأ مصطلح «التواصل الاجتماعي»، فما يحدث هو اتصال وليس تواصلاً كما يحدث بيني وبينك الآن. نتائجها تنعكس على الأفراد بشكل كارثي، ويكسب منها فقط صاحب القمر الصناعي، أو منتج القمر الصناعي. فعندما أحيلت الشعوب العربية إلى الفضائيات التي برمجت من أجلها، بات الملايين في البيوت، وتم تقديس المسلسلات والبرامج من خلال ربط كل هذه الأشياء إلى رمضان، نحن لدينا «دراما رمضانية» لا سورية ولا عراقية ولا مصرية ولا شيء، أي الدراما قُدِّسَت وبات من الممنوع الحديث إلا بحدود قدسية الشهر الفضيل. لا تستطيع الحديث عن السياسة ولا الجنس ولا الأديان ومدى فقدان القيم الروحانية لها، وتالياً اندراجنا ضمن تربية دينية فضائية، المختلفة عن التربية الدينية المنزلية لإنسان عاقل، مدرسة عاقلة، جامعة عاقلة، كلية شريعة وحقوق عاقلة.
هناك مخططات لإخضاع مجتمعات بأكملها، وأعتقد أن ما جرى في «الربيع» المرقط من نتائج قد تكون درساً لمن يريد أن يفهم ويصحو، شعوب محالة إلى تلفزيونات منقطعة عن أي نوع من أنواع الثقافة التي تجمع الإنسان إلى الإنسان: دور السينما في دمشق تغلق بكل قسوة وعناد، والمسارح تُتْرَك لتموت شيئاً فشيئاً، من دون برامج معتمدة بشكل حقيقي موالية لثقافة الشعب السوري وجمهور دمشق المسرحي، هذا يعني بالتحديد إعطاء الحق للمربين الفضائيين بأن يربوا الشعب السوري على هواهم، من دون أي فيصل عقلي، أو خمائر ثقافية لهم. لا أقول إن كل سكان دمشق عليهم أن يأتوا إلى السينما أو المسرح أو أن يقرؤوا الرواية، بل 10 بالألف لكل من هذه الفنون والآداب كافية لجعل الخميرة الثقافية قادرة على توجيه جزء من الشعب باتجاه إيجابي فيما هو مرتبط بحياتهم اليومية، وأصول الحوار في مشكلاتهم، وإعطائهم الملمح الحقيقي والدقيق لما يمكن أن يكون حلاً لمشكلاتهم، أما عندما تنقطع هذه الاجتماعات ولا يسمح للناس بالاجتماع بشكل حقيقي ومستدام، فلن يجدوا سوى التمترس في بيوتهم وإغلاق النوافذ والإقلاع عن زراعة الورد على الشرفات، أو الذهاب إلى الاجتماعات المتاحة في المعابد والأحزاب، وفي كلا المكانين لا حق لك بأن تحاور أو تناقش.
• إذا،ً الحل بجذب الجمهور إلى المسرح والسينما، لكن ما يحصل في كثير من نتاجات كلا الفنين أن هناك ما يشبه السعي لتطفيش الجمهور بدل استقطابه، بالتنافس على تقديم الأسوأ والأردأ.
•• الجمهور المسرحي اختفى من دمشق في معظمه، وتم القضاء عليه بالتدريج عبر سنوات من تجفيف المسرح وإفساد مؤسسته إلى أن باتت محصورة في عدد ضئيل من الناس، يقولون ما يجب أن يكون، ويقولون ما يجب ألا يكون، ليس هناك مخرجون جدد مبتعثون منذ ما قبل الحرب، وخلالها، لم يُعَد النظر في مأسسة المسرح ولا دور السينما، ولا برامج إنتاج الفن السابع، فبقي الأمر على حاله، وعندما يبقى الأمر على حاله طوال أربعين عاماً من دون متخصصين جدد، ودم جديد، ورؤى جديدة، وثقافة مجتمعية سينمائية ومسرحية، من البدهي أن نصل إلى الحد الذي وصلنا إليه الآن، وهو دخول أي كان إلى المسرح لتشييد عرض مسرحي، فقط للقول إن لدينا موسماً مسرحياً، لا، ليس لدينا مواسم مسرحية، وإنما «فبركات» مواسم مسرحية، لدينا ما يمكن أن يكون اعتباطياً، المهم أن نقول إن هناك فواتير للمسرح وإننا قدمنا كذا وكذا وصرفنا كذا وكذا، لكن ليذهب الصحفيون ويستمزجوا العروض سواء لجهة الجمهور أو لجهة من يصنعها، هناك شباب لديهم الرغبة لأن يعملوا في المسرح وفي السينما، لكن طبيعة الأداء الإداري والمالي، وطبيعة الأشخاص في أعماق وزارة الثقافة تمنعهم، أعتقد أن هؤلاء لا يعنيهم على الإطلاق حتى الكلام الذي أقوله الآن، لا يعنيهم المسرح ولا السينما، في حين إنهم يتخذون قرارات خطرة بحقها ، لا يعنيهم أن يروا ما رأيته أنت في المعهد، تعنيهم زخرفة الأشياء إذا أرادوا، لكن هذا الأمر لا يعني الشعب السوري وليس مفيداً له، الشعب السوري بحاجة إلى مجمعات تقدم سينما حقيقية باستدامة، لا بشكل نزيزي ومحصورة بمخرجَين أو ثلاثة، وهم بحاجة إلى مجمعات مسرحية جديدة وليست بالضرورة أن تكون ضخمة وتصرف فيها الملايين، لا على الإطلاق، فالمسرح بدأ من الهواء الطلق، وعرض طلاب السنة الثالثة كان كذلك، لكن على ما يبدو ثمة قصدية في عدم فهم متطلبات الشعب السوري، لذلك لن يكون مِنْ كل ما تحدثنا عنه وطالبنا به أي شيء، لأن هناك قساوة في الرد والاستجابة.
• هل يندرج ضمن عدم الفهم ذاك رفضهم إخراجك نص «رجل برجل» لبرتولد بريخت، هل تعلم لماذا رُفض؟
•• ثمة من ينقل كلمات هنا وهناك، يراقب فينقل، وهذه العقلية موجودة، تراقب تتجسس تتآمر، ولا ثقافة حقيقية لها، ولا قدرة لها على فعل أي شيء، لكنها مزروعة بيننا. هذه المزروعات فطرية وتشبه الفيروسات التي تدخل إلى الدماغ، فتؤثر في عمله عبر إيقاف هذه النقطة من العمل، أو إخفاء هذه الأداة من العمل، وأحياناً سرقتها، كل هذه الفيروسات قد تؤثر وأثرت في كثير من المخرجين المسرحيين والسينمائيين أيضاً، فـ«طَفَّشَتْهُم» أو منعت عملهم. هم يعتقدون أنهم انتصروا عندما يوقفون مسرحية، أقول لهم: لا على الإطلاق هذا ليس انتصاراً.
وزارة الثقافة في العالم تعد سيادية، لأن ثقافة أي شعب هي عنوان سلوكه، ومستقبله، وعنوان التربية الحديثة المتجددة لأبنائه، إذاً نحن نبني من خلال الثقافة بعد التربية والتعليم وفي جديلة معهما، نبني الإنسان المستقبلي. عندما تفتقد الثقافة ويفتقد التعليم الجدي الحديث والتربية الحديثة، ينكفئ الإنسان إلى ماضوياته ويصبح نسخة متهتكة عن جَدِّهِ، وجَدِّ جَدِّهِ، في وقت كان يحتاج المجتمع إنساناً قادراً على فهم ما ينتج عند الآخرين بعقليات علمية حديثة جداً على المستويات كلها. هذا الإنسان القادر على بناء مدينة مثل شنغهاي أو طوكيو ونيويورك وباريس وموسكو وجوهانسبرغ وغيرها من المدن المهمة التي لا يمكن أن نصل إلى مثيلها إلا ببناء ثقافة مكينة، من خلال قص شريط حريري هنا، أو وضع حجر أساس هناك، لمسألةٍ عابرةِ سبيل أو نقطة من بحر مما نحن نحتاج إليه، أو من خلال تكريم يُطنطن له، في حين أن بناء الثقافة لا يحتاج الطبول والزمور وإنما القواعد العلمية ذات الطابع المستقبلي، وهذا يقتضي بالضرورة إزالة كل العوائق أمام نمو العقل من مكامنه في الدماغ، وإزالة كل خطاب ماضوي سرى فينا، وتمجيد الخطاب المستقبلي، وهذا يحتاج كامل المجتمع أن يؤمن به في كل مجالات الأنشطة الإنسانية، وإلى قرار حاسم باتجاه وجود ثقافة مستقبلية لا ثقافة ماضوية تطحن العقل في مكامنه في الدماغ، وتطلق للنقل ما نراه في بلداننا العربية الآن من تهتيك للمستقبل في مهده.
• من أين يأتيك كل هذا الحماس للعمل في المسرح برغم كل ما ذكرته من عوائق؟
•• المسرح توازن جبار، دواءٌ للروح، أقولها بعيداً عن إحساسي بالشعر. إذا أراد شعب أن يتوازن فعليه أن يمتلك أدوات تثقيفه وثقافته وحواره الحضاري، المسرح إحدى تلك الأدوات، الرواية أيضاً والسينما، لا يمكن لأي مجتمع أن يتماسك ويتوازن من دون رواية حقيقية تقول ما هو جارٍ في هذه المحافظة أو تلك، في هذا المجتمع أو ذاك، عندما تطبع 20 ألف نسخة من رواية حقيقية جدية جاءت كنسولٍ من حنا مينة وعبد السلام العجيلي ونجيب محفوظ تُقرأ من خلال 20 ألف إنسان في مدينة سورية… عندها تتآخى الألسن، وتصبح هناك قدرة على التفاهم بين الأدمغة، تماماً كما كان الأمر في الماضي عندما ننزل إلى أماكن عملنا، من مدن صغيرة حول دمشق في باصات خضراء، كنا نسمع جميعنا فيروز ونصل إلى أماكن العمل وفيروز ما زالت تصدح، إذاً للجميع أغنية واحدة، موزونة لا علاقة لها بالتهتك التلفزيوني الضارب في أدمغتنا حد النخاع، فكنا نتوازن ونستطيع أن ننظر في عيون بعضنا بعضاً ونضحك في وجه بعضنا بعضاً، لكن عندما أصبحت لكل إنسان أغنية، وافتقدنا الثقافة التي يمكن أن تكون تحصيناً لقتال كان بالإمكان أن نتفاداه بدأنا بالقتال فعلاً، إذاً المسرح بالنسبة لي ليس أباً للفنون أو أخاً لها، بل حالة وجدية كأي فن آخر، تماماً كذاك النحات الذي يزيل الزوائد في الصخرة عن إنسان أسيرٍ فيها، فيحرره، هذا الفعل يُشْعِرُ النحات بالاسترخاء والراحة النفسية العميقة، عندما لا يتحرر إنسان كامن فيّ من خلال عمل مسرحي أشعر بالانزعاج، وأبدأ بالتأمل في كيفية التعبير عن المسجون فيّ، وعن إمكانية أن أُشظّي ما هو زائد من الروح عن إنسان متألق كامن عبر المسرح، تدريباً أو تمثيلاً أو إخراجاً…
إذا استمررنا بهذا الشكل من دون مسرح وسينما ورواية، وكل ما تقتضيه المدينة الحديثة للنهوض، سنندثر، ليس هناك ابتكار في التلفزيون، وإنما في الفنون، والآداب، وفي العمارة الموجودة ضمن الفنون، الابتكار في كل أنواع الزخرفات والتزويقات الحقيقية للإنسان، والبحث في مشكلاته وهمومه، موجودة في المسرح ودور السينما التي تقدم المهم من الأفلام لا التي يمكن أن ترمى علينا كسينما أمريكية منضَّبة كما هو الأمر في mbc ودبي وما شابههما، هذا قصف سينمائي أمريكي منضب، وهي أفلام قمامة شاهدها النيويوركي ومن هو في واشنطن، وبعد أربعين عاماً رميت إلينا لنتسلى بها، وما زلنا حتى الآن نندهش بهذا الأمر، لأننا افتقدنا الفيصل السينمائي في مجتمعاتنا والفيصل المسرحي، فنحن مندهشون مما يقدم لنا من قمامات على الشاشات الخليجية. لماذا لا نحمي شعبنا بقامات سينمائية تتجدد وببعثات سينمائية ومسرحية كما كان في الماضي، جاء وقت كان لدينا في المسرح أكاديميون عظام «سعد الله ونوس، فواز الساجر، ممدوح عدوان، فؤاد الراشد، د.نبيل الحفار، د.شريف شاكر، أكرم خزام، نائلة الأطرش، حسن عويتي، وليد إخلاصي»، وعدد كبير من الفرق المسرحية في حمص وحلب واللاذقية ودمشق ودير الزور والفرق الشعبية الراقصة المهمة جداً، لا ذاك التهتك الذي نراه الآن، تلك الفترة كان بالإمكان أن تنهض سورية بثقافتها وتصدر للعالم المسرح والسينما، لا أن تستورد عبر الفضائيات ما يصيب أدمغتنا بالتقيح، ولا نستطيع الفكاك منه، السر أننا لا نمتلك الثقافة، بعدما فقدنا الستينيات والسبعينيات وجزءاً كبيراً من الثمانينيات، كحالات ثقافية لم تُمَأْسَس ولم تستدرك في تلك اللحظة. اليوم لا نستطيع إلا أن نقول يجب أن نبدأ من جديد، وعلى القانون أن يحاسب من يقف في طريق إعادة مأسسة الثقافة السورية من الصفر احتراماً للمستقبل.
بهذا النمط من التفكير وهذه العقلية لا أستطيع الابتعاد عن المسرح، فهو عامل توازن لي وينبغي أن يكون الشيء ذاته لجزء كبير من عقل المدن السورية.

بديع منير صنيج

“تشرين” السورية

الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *