د. أحمد الخليل
دِينَوَر Dinewer ، هذا هو اسمها المشهور، ويقال لها: (دَيْنَوَر) أيضاً، وتسميها المصادر السريانية (ديِنهور)، وهي من أهم مدن إقليم الجبال في كردستان الشرقية (غربي إيران)، تقع غربي هَمَذان، وشمالي كرمنشاه (قَرْمِيسين) وترتفع عن سطح البحر بنحو خمسة آلاف قدم، وتقع إلى جانب الطرف الشمالي الشرقي لواد خصيب، يرويه نهر (آب دينور). قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان، ج2، ص 616):
” دِينَوَر مدينة من أعمال الجبل، قرب قَرْميسين، ينسب إليها خلق كثير، وبين الدينور وهمذان نيّف وعشرون فرسخاً، ومن الدينور إلى شهرزور أربع مراحـل، والدينور بمقدار ثلثي هَمَذان، وهي كثيرة الثمار والزروع، ولها مياه ومستشرف، وأهلها أجود طبعاً من أهل همذان، ويُنسب إلى الدينور جماعة كثيرة من أهل العلم والأدب، منهم: عبد الله بن محمد بن وهب أبو محمد الدينوري الحافظ، … روى عنه جعفر بن محمد الفريابي الحافظ “.
وقال ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض، ص 308 – 309) متحدثاً عن مدن (إقليم الجبال):
” … والدينور فإنها كثلثي هَمَذان، وهي مدينة أيضاً كثيرة الثمار والزروع خصبة، وأهلها أحسن طبعاً من أهل همذان، وفيها مياه ومستشرف [متنزَّه] وإن قلت إها تزيد على همذان من جهة آداب أهلها وتصرفهم في العلم واشتهارهم به صدقت “.
وكانت دينور في عهد الخليفة عمر بن الخطاب أكبر مدن إقليم همذان عمارة، وقد سلّمها الوالي الفارسي للعرب المسلمين عقب موقعة نهاوند الحاسمة حوالي سنة (21 هـ / 642 م)، وعرفت في عهد معاوية بن أبي سفيان بالاسم الجديد (ماه الكوفة) – كلمة (ماه) فارسية، تعني (قصبة = مقاطعة = ولاية) – لأن الضرائب المتحصلة منها كانت تنفق في مصالح أهل الكوفة عامة، وفي دفع رواتب جنودها خاصة.
وقد ازدهرت دينور في العهدين الأيوبي والعباسي، وسكنها بعض الفرس والعرب، لكن الغالب على أهلها هم الكرد، باعتبارها تقع أصلاً في المنطقة التي ينتشر فيها الكرد صيفاً وشتاء، حسبما ورد في خريطة إقليم الجبال التي رسمها ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض). وكانت قبيلة الشوهجان (الشاهجان) الكردية الرعوية هي الأكثر ارتياداً للأراضي المحيطة بها.
وبما أن دينور مدينة كردية بشكل عام، وتقع في منطقة يسكنها الكرد على الغالب، فقد استقلّ بحكمها الأمير الكردي حسنويه ( ت 369 هـ / 931 م )، واحتفظ بها مدة خمسين سنة، وظلت دينور مدينة عامرة إلى أن راحت ضحية الغزو المغولي في القرن السادس الهجري.
أصله ونشأته
هو أبو حنيفة أحمد بن داود بن وَنَنْد الدينوري، ولد في العقد الأول من القرن الثالث الهجري بمدينة دينور، وإليها يُنسَب أجداده الأقربون، والحقيقة أن المصادر الإسلامية لم تذكر نسبته إلى الكرد، وإنما نسبته إلى (أسرة فارسية).
وهذا جزء من الحيف الذي وقع على الكرد عامة، وعلى أعلام الكرد خاصة، فقد نُسبوا إلى الفرس تارة، وسمّوا (عجماً) تارة أخرى، لأن الكرد كانوا تابعين للدولة الساسانية الفارسية قبل الإسلام، ووصل العرب الفاتحون إلى كردستان وهي على تلك الحال، فنسب المؤرخون والجغرافيون الشعب الكردي إلى الفرس والعجم، ولا سيما أن السياسات الفارسية المتعاقبة – بدءاً من حكم الأخمين حوالي سنة (550 ق.م)، وانتهاء بالحكم الساساني الذي سقط في القرن السابع الميلادي- حرصت على تغييب الهوية الكردية، وعلى إحلال الهوية الفارسية محلها في المجتمع الكردي.
لكننا نرجح أن أبا حنيفة كردي لأسباب ثلاثة:
– أولاً: إن دينور كانت تقع جغرافياً في قلب منطقة كانت مصايف ومشاتي للكرد؛ أي أن المنطقة كانت مسكونة بالكرد على الدوام، وهذا واضح في الخريطة التي رسمها ابن حوقل.
– ثانياً: إن المنطقة التي كانت تقع فيه دينور هي جزء من منطقة غربي إيران حالياً، وتسمى في خريطة دولة إيران المعاصرة باسم (كردستان)، وعاصمتها الحالية هي مدينة كرمنشاه (قَرْميسين قديماً).
– ثالثاً: وصف اليعقوبي (ت 284 هـ) في كتابه (البلدان، ص 6) بلاد الجبل (إقليم الجبال) بأنها ” دار الأكراد “، وتقع دينور في قلب إقليم الجبال.
– رابعاً: كانت دينور عاصمة الدولة الحَسْنَوَيْهية الكردية (344 – 406 هـ / 955 – 1015 م)، وكانت منطقة نفوذ هذه الدولة تمتد من نهر الزاب الصغير في كردستان الجنوبية (إقليم كردستان- العراق) غرباً، إلى همذان شرقاً، ومن حدود الأهواز (خوزستان) جنوباً إلى حدود أذربيجان شمالاً، ثم صارت بعدئذ تابعة للدولة العنازية الكردية (406 – 500 هـ / 1015 – 1107 م).
ونخرج مما سبق بالنتيجة الآتية:
إن أبا حنيفة ليس بعربي، وهذا أمر لا جدال فيه.
وبقي أن يكون فارسياً أو كردياً.
وبما أن دينور كانت تقع جغرافياً وديموغرافياً، في قلب منطقة كانت معروفة بأنها ” دار الأكراد ” حسبما ذكر اليعقوبي، وما زالت كذلك، فأيهما أقرب إلى الصحة: أن يكون أبو حنيفة منسوباً إلى الغالبية العظمى من سكان المنطقة- نقصد الكرد- أم أن يكون من الجالية الفارسية التي كانت تقيم في ينور؟
ثم إن المؤرخ الكردي الأستاذ عبد الرقيب يوسف نص في كتابه (حدود كردستان الجنوبية تاريخياً وجغرافياً خلال خمسة آلاف عام، ص 97)، على أن أبا حنيفة عالم كردي، ونحن نثق بما ينص عليه، فهو باحث محقق، كما أنه يجيد اللغة الفارسية، وخبير بجغرافيا الكرد وتاريخهم في كل من العراق وإيران.
وقد عاش أبو حنيفة معظم حياته في دينور، ودرس فقه اللغة على اللغوي الشهير ابن السِّكِّيت، كما درس معارف كثيرة، وكان متفنّناً في علوم النحو، واللغة، والهندسة، والهيئة، والحساب. وتجمع المصادر أنه كان نحوياً، لغوياً، مهندساً، منجّماً، حاسباً، راوية ثقة، قورن في النبوغ بالجاحظ.
مسيرته الثقافية
قام أبو حنيفة في شبابه برحلات طويلة طلباً للعلم، كما كانت عادة طلبة العلم في عصره، إنه توجّه إلى العراق مركز الحضارة والثقافة والسياسة حينذاك، حيث العلماء والأدباء والمكتبات والمؤسسات الثقافية الأخرى، ثم توجّه إلى المدينة المنوّرة، وانطلق بعدئذ شمالاً نحو فلسطين، كما عاش بعض الوقت في سواحل الخليج العربي.
ويبدو أنه أسس نفسه علمياً وثقافياً بشكل عام خلال زيارته إلى العراق، فقد أخذ العلم عن البصريين والكوفيين، وتتلمذ في فقه اللغة على والد النحوي الكوفي الشهير ابن السِّكِّيت، وعلى ابن السكِّيت نفسه. وانتقل أبو حنيفة إلى أصفهان سنة (235 هـ)، وعاش فيها مدة، واشتغل هناك برصد الكواكب، وتسجيل نتائج الأرصاد التي كان يقوم بها، وقد شاهد الفلكي المشهور عبد الرحمن الصوفي (ت 376 هـ) المنزل الذي كان أبو حنيفة اتخذه موقعاً للدراسات الفلكية.
مكانته العلمية
قال القِفْطي (ت 624 هـ) في كتابه (إنباه الرواة، ج1، ص 76):
” … وكان متفنناً في علوم كثيرة، منها النحو واللغة والهندسة والهيئة والحساب، ثقة فيما يَرويه ويُمليه، معروفاً بالصدق “.
وقال السيوطي (ت 911 هـ) في (بغية الوعاة، ج1، ص 306):
” كان نحوياً لغوياً مع الهندسة والحساب، راويةً ثقةً ورِعاً زاهداً، أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر عن ابن السكِّيت. … وكان من نوادر الرجال، ممن جمع بين آداب العرب وحكمة الفلاسفة “.
وقال الزركلي في (الأعلام، ج1، ص 123):
” جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، وله تصانيف نافعة،… وللمؤرخين ثناء كبير عليه “.
وروى القِفْطي موقفاً يدل على سعة علم أبي حنيفة، وهو الآتي:
ورد أبو العباس المبرِّد (ت 286 هـ) مدينة دينور زائراً لعيسى بن ماهان، فأول ما دخل إليه، وقضى سلامه، دار الحوار الآتي:
– عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المُجثَّمة التي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أكل لحمها؟
– المبرّد: هي الشاة القليلة اللبن مثل اللَّجْبة.
– عيسى: هل من شاهد؟
– المبرّد: نعم، قول الراجز:
لم يَبْقَ من آلِ الجُعَيْدِ نَسَمَهْ إلا عُنَيْزٌ لَجْبـَةٌ مُجَثَّمــهْ
وبينما الحوار دائر بين عيسى والمبرّد إذا بالحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فأذن له عيسى، فلما دخل سأله عيسى بن ماهان:
– عيسى: ما الشاة المجثّمة التي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أكلها؟
– أبو حنيفة: هي التي جُثِّمت على رُكُباتها، ونُحِرت من قفاها.
– عيسى: كيف تقول وهذا شيخ العراق- يعني أبا العباس المبرّد- يقول هي مثل اللَّجْبة، وهي القليلة اللبن، وأنشد البيتين [جعلهما بيتين لأنهما من مشطور الرجز].
– أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة إن كان هذا الشيخ سمع هذا التفسير، وإن كان البيتان إلا لساعتهما هذه.
– المبرّد: صدق الشيخ أبو حنيفة، أَنِفت أن أرِد عليك من العراق، وذِكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه.
فاستحسن عيسى منه هذا الإقرار وترْك الكذب.
شهادات أخرى
وحسبنا أن نستشهد بما أورده الأديب الموسوعي أبو حيّان التوحيدي بشأن أبي حنيفة في كتاب للتوحيدي عنوانه (تقريظ الجاحظ)، قال التوحيدي:
” قلت لأبي محمد الأندلسي – وكان من أصحاب السِّيرافي- قد اختلف أصحابنا، في مجلس أبي سعيد السيرافي، في بلاغة الجاحظ وأبي حنيفة، ووقع الرضا بحكمك، فما قولك؟ فقال: أنا أحقر نفسي عن الحكم لهما أو عليهما. فقال: لا بد من قول. قال: ” أبو حنيفة أكثر نداوة، وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة [ لصيقة ] بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب، وأدخل في أساليب العرب “.
ثم أضاف التوحيدي قائلاً:
” والذي أقول وأعتقده، وآخذ به، وأُستهام عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر إلا ثلاثة: لو اجتمع الثَّقَلان على تقريظهم ومدحهم، ونشر فضائلهم وأخلاقهم، وعلمهم ومصنّفاتهم ووسائلهم مدى الدنيا، إلى أن يأذن الله بزوالها، ما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم “.
والثلاثة- حسب رأي التوحيدي هم: الجاحظ، وأبو حنيفة، وزيد البَلْخي.
وقال التوحيدي في ذلك:
” والثاني أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة، وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورُواء وحِكم، وهذا كتابه في الأنواء يدل على حظ وافر من علم النجوم وأسرار الفلك، فأما كتابه في النبات فكلامه فيه في عروض كلام أَبَدي بدويّ، وعلى طباع أفصح عربي “.
وقال الأستاذ عبد المنعم عامر، محقق كتاب (الأخبار الطوال) لأبي حنيفة:
” نعم لقد كان أبو حنيفة الدينوري عالماً بحق في شتى العلوم والمعارف، حَباه الله بعقلية واسعة، استوعبت معارف كثرة، وانفرد بها عن علماء تلك الفترة وما تلاها ممن كان لهم شأن في تاريخ الأدب العربي، وعلوم اللغة، فلقد كان أبو حنيفة عالماً في كثير من فروع العلوم، وكان دائماً مجدداً، وظل مع كل هذا مبدعاً “.
مؤلفــاته
حظيت مؤلفات أبي حنيفة باهتمام رجال التراجم قديماً وحديثاً، وقد بلغت حوالي عشرين كتاباً، أوردها القفطي في (إنباه الرواة)، وحققها المستشرق فلوجل Flugel، من أبرزها:
كتاب (تفسير القرآن) في ثلاثة عشر مجلداً، وكتاب (الوصايا) في أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية، وكتاب (الشعر والشعراء)، وكتاب (ما تلحن فيه العامة)، وكتاب (إصلاح المنطق)، وكتاب (النبات)، وكتاب (البيان)، وكتاب (رسالة في الطب)، وكتاب (الجبر والمقابلة)، وكتاب (البلدان)، وكتاب (الأنواء) وكتاب (الأخبار الطوال) وهو كتاب تاريخي هام.
وتوفي أبو حنيفة سنة 281، أو 282، وقيل سنة 290 هـ.
المصــادر
1- أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، مكتبة المثنى، بغداد، 1970 م.
2- ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.
3- الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.
4- السيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1964.
5- عبد الرقيب يوسف: حدود كردستان الجنوبية تاريخياً وجغرافياً خلال خمسة آلاف عام، دار شفان، السليمانية، إقليم كردستان، الطبعة الأولى، 2005 م.
6- القِفْطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1950م.
7- ياقوت الحموي: معجم الأدباء (إرشاد الأديب إلى معرفة الأريب)، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993 م.
8- اليعقوبي: البلدان، ضمن كتاب الأعلاق النفيسة لابن رُسْته، مطبعة بريل، ليدن، 1891 م.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والعشرين.
د. أحمد الخليل في 1 – 8 – 2006
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35195