الجمعة, ديسمبر 27, 2024

مشاهير الكرد في التاريخ ( الحلقة الأربعون ) السلطان المعظَّم توران شاه (قتل سنة 648 هـ/1250 م)

د. أحمد الخليل

منحدرات .. وقمم!

ها قد أمضيت نصف قرن من الزمان مع القراءة والمطالعة.

وها قد شرّقت مع المراجع قديمها وحديثها وغرّبت، بل: واستمتعت.

وها أنا ذا أسأل نفسي: من هذه الرحلة الطويلة ماذا استفدت؟ وبماذا خرجت؟

الحق أني استفدت الكثير الكثير، وخرجت بالكثير الكثير.

عرفت أن المرء بالثقافة يهتدي إلى إنسانيته، ويتغلّب على نزعات التوحش.

وبالثقافة يكفّ عن أن يكون عَدَمياً، فيحدّد هويته، ويتحرر من كونه مِسخاً.

وبالثقافة يكفّ عن أن يكون جباناً، فيمتلك شجاعة الدفاع عن وجوده.

وعرفت أيضاً أن الأمم بالثقافة تنتقل من المنحدرات إلى القمم.

وبالثقافة تتغلّب الشعوب على الهزائم وتصنع الانتصارات.

وبالثقافة تتخلص من الضياع، وتصبح في مواقع الريادة.

بل عرفت أكثر…

عرفت أن قراءة التاريخ نصف الثقافة، وأنه لا ثقافة رفيعة من غير قراءة متأنّية للتاريخ؛ فكثيراً ما قرأت الأدب شعراً ونثراً، ولم أدرك حقيقة الأدب إلا بعد قراءة تاريخ الأدب والأدباء. وكثيراً ما قرأت الدين، فلم أفهمه على حقيقته إلا بعد قراءة تاريخ الأديان والدعاة. وكثيراً ما قرأت الفلسفة، فلم أفهمها حق الفهم إلا بعد أن قرأت تاريخ الفلسفة والفلاسفة، وقرأت العلوم فلم أفهمها على نحو صائب إلا بقراءة تاريخ العلم والعلماء؛ وقس على ذلك.

وتبيّن لي بعد هذه التجربة الطويلة أن لقراءة التاريخ أربعة مستويات متكاملة:

  • الأول هو معرفة الأحداث التي تتالت أو تواكبت في مراحل تاريخية معيّنة.
  • والثاني هو ملاحظة الأحداث التي تكررت أو تماثلت في أزمنة وأمكنة مختلفة، وباتت تشكّل ظاهرة معيّنة تلفت الانتباه.
  • والثالث هو القيام بتحليل موضوعي وواقعي شامل لتلك الظاهرة، ودراسة المناخات التي تشكلت فيها؛ سواء أكانت تلك المناخات بيئية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، أم ثقافية، أم سياسية، أم إقليمية، أم عالمية.
  • والرابع هو توظيف نتائج التحليل في توجيه مسيرة الحاضر، وتصحيح مساراته، ووضع البرامج والخطط للمستقبل.

وأعلم يقيناً أن الجمع بين هذه المستويات الأربعة، على الدوام، أمر صعب المنال، لكن كم يكون رائعاً أن نحرص- نحن قرّاء التاريخ- على ذلك قدر المستطاع! بلى، قد نُوفَّق، وقد لا نُوفَّق، ليست تلك هي المشكلة، وإنما المشكلة أن نبقى على الدوام دائرين في فلك المستوى الأول؛ وأراني مضطراً إلى القول بأننا حينئذ نكون هائمين على هامش التاريخ، ليس غير.

لماذا الشمال؟!

ولعلي أشرت، في حلقة سابقة أو أكثر، إلى بعض الظواهر التاريخية في شرقي المتوسط، منها على سبيل المثال أن كل فاتح وغاز قادم من الشرق كان يهمه أن يسيطر على كردستان، ليستطيع الاندفاع بعدئذ نحو آسيا الصغرى غرباً، ونحو بلاد الشام ومصر جنوباً. كما أن كل فاتح وغاز قادم من الغرب كان يهمّه أن يسيطر على كردستان، ليندفع من ثَمّ نحو قلب بلاد فارس، فالهند ووسط آسيا.

وقل الأمر نفسه في حركات الغزو من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، فالغزوات الآشورية قبل الميلاد بعشرة قرون وأكثر اخترقت كردستان، لتصل من بعدُ إلى أرمينيا ومناطق القوقاز الأخرى في الشمال، كما أن الفتوحات العربية الإسلامية، في القرن السابع الميلادي، سارت في الاتجاه نفسه، وعملت بكل وسيلة للهيمنة على كردستان، ولما انحدر السكيث من شمالي البحر الأسود، وغزوا الهضبة الآرياينة حوالي القرن التاسع قبل الميلاد على الأرجح، كان عليهم أن يمروا بكردستان، ويحتلوا أجزاء منها، وهذا ما فعله الملك الأرمني ديگران الثاني (حكم بين سنتي 94 – 69 ق.م)، حينما أنشأ إمبراطورية تمتد من القفقاس شمالاً إلى فينيقيا (لبنان) جنوباً.

وقد يقال: ما السبب في ذلك؟

ها هنا من الحكمة ألا نقع في فخ الغرور، ولا نزعم مثلاً أن كل خيرات العالم كانت متمركزة في كردستان ظهراً وبطناً، وأنه ما كان لجميع هؤلاء أن يستمروا في الحياة إلا بالسيطرة على كردستان، فالسبب الأبرز والأهم هو الجغرافيا السياسية (الجيوپوليتيك) ليس أكثر، وخلاصته أن مواطن الكرد كانت تمتد من نهر الرَّسّ (آراس/ أراكس) على تخوم القوقاز شمالاً، إلى لورستان وجبال بختياري جنوباً؛ أما أمر وجود مواطن الكرد على تخوم القفقاس فهو حقيقة شهد بها أكسنوفان، قائد المرتزقة الإغريق العشرة آلاف سنة (401 ق.م)، وشهدت به أحداث الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي.

ولو نظرنا في خريطة غربي آسيا؛ لاتضح أن مواطن الكرد هذه لا تتاخم البحر الأسود شمالاً، ولا الخليج العربي جنوباً، لكنها تقترب من هذا وذاك، ولتبيّن أنها تمثل ثلاثة أرباع هذه المنطقة الشاسعة، وهذا يعني أن القسم الأعظم من سلاسل جبال زاغروس وجبال طوروس يقع في بلاد الكرد، بل إن هاتين السلسلتين تلتقيان معاً في شمالي كردستان، وفيهما تقع الممرات والمعابر التي تصل غربي آسيا (آسيا الصغرى، وبلاد الشام، وشبه الجزيرة العربية، والعراق) بقلب بلاد فارس، وبما وراء بلاد فارس من شعوب آسيا الوسطى، وشعوب شبه القارة الهندية، وشعوب الشرق الأقصى، من ناحية أخرى.

ذلك هو السبب وراء تلك الظاهرة التاريخية فيما نعلم.

والمعروف أن الدولة الزنكية التركمانية ورثت الدولة السلجوقية التركمانية، وأن الدولة الأيوبية الكردية ورثت الدولة الزنكية، ثم توسّعت في جميع الاتجاهات، ثم أطاح المماليك الأتراك بالأيوبيين، وانتشرت دولتهم تقريباً في الجغرافيا نفسها التي انتشرت فيها الدولة الأيوبية؛ حتى في اليمن، فالدولة الرسولية التي حكمت اليمن بعد الأيوبيين كان مؤسسوها أتراكاً من المماليك الأيوبيين، ثم حلّت دولة المماليك الشراكسة محل دولة المماليك الأتراك، ثم جاء دور الدولة العثمانية التركية.

والظاهرة التي أريد الوقوف عندها تتعلق بكردستان؛ فعلى امتداد ثمانية قرون، بدءاً من دخول السلاجقة إلى بغداد سنة (447 هـ/1055م)، وانتهاء بسقوط الدولة العثمانية حوالي سنة (1922 م)، كان ما يهمّ حكّام هذه الدول الثلاث المتعاقبة على الدوام أمران اثنان:

  • السيطرة غرباً وجنوباً على بلاد الشام مصر.
  • السيطرة شرقاً وشمالاً على كردستان؛ جميعها أو بعضها.

وثمة ظاهرة ثانية تتفرع من الظاهرة السابقة؛ ألا وهي حرص السلاطين الأيوبيين على أن يكون الرجل الثاني في الدولة، على الأغلب، هو الذي يتولّى حكم كردستان شمالاً وشرقاً، في حين كان السلطان نفسه يتنقّل بين القاهرة دمشق جنوباً وغرباً؛ وإليكم الأمثلة: في عهد السلطان صلاح الدين كان أخوه الملك العادل هو حاكم كردستان معظم الأحيان، وظل كذلك في عهد كل من الملك الفاضل والملك العزيز ابني صلاح الدين حينما تنافسا على السلطنة، وفي عهد السلطان العادل نفسه أسند حكم كردستان إلى ابنه ووليّ عهده الملك الكامل، وفي عهد السلطان الكامل أسند حكم كردستان إلى ابنه الملك الصالح، وفي عهد السلطان الصالح أوكل حكم كردستان إلى ابنه الملك المعظّم تَوْران شاه. ومرة أخرى نقول: كانت الجغرافيا السياسية وراء تكرّر هذه الظاهرة، ولا شيء غير ذلك.

ودعونا نتوقف الآن عند المعظّم تَوْران شاه

فماذا عنه؟

ظروف جديدة

كان للسلطان الصالح أربعة أبناء، لم يبق منهم حياً في حياته إلا تَوْران شاه، وهو معروف بلقب الملك المعظَّم غياث الدين، وقد عيّنه السلطان الصالح نائباً عنه في حصن كَيْفا وديار بكر بكردستان، ومرّ في الحلقة السابقة أن السلطان العادل الثاني كان قد تولّى مقاليد السلطة في الدولة الأيوبية بعد وفاة والده السلطان الكامل سنة (635 هـ/1238 م)، لكنه كان غِرّاً طائشاً لاهياً، فأزاحه أخوه الأكبر الصالح نجم الدين سنة (637 هـ)، وتولّى حكم الدولة الأيوبية، وتصدّى في أواخر حياته للحملة الصليبية السابعة، وقد بدأت سنة (647 هـ/1248 م)، وكانت بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع.

ومرّ أيضاً أن السلطان الصالح ظل يدير دفّة القتال ضد الفرنج وهو على فراش الموت، وتوفي ليلة الاثنين نصف شعبان سنة (647 هـ)، ” بعدما عهد لولده الملك المعظّم توران شاه، وحلّف له فخر الدين ابن الشيخ، ومُحسن الطواشي، ومن يثق به، وبعدما علّم قبل موته عشرة آلاف علامة، يُستعان بها في المكاتبات على كتمان موته، حتى يَقدم ابنه توران شاه من حصن كَيْفا ” (المقريزي: السلوك، ج1، ق 2، ص 339).

إذاً لقد تدبّر السلطان الصالح الأمور حتى بعد وفاته، وهيّأ الظروف ليتولّى ابنه الوحيد مقاليد الأمور، فأخذ له البيعة من كبار القادة أولاً، ووقّع عشرة آلاف مرسوم على بياض؛ لاستعمالها عند اللزوم، كي لا يعلم أحد بوفاته، إلى حين قدوم المعظّم من حصن كيفا، وحرصاً على المزيد من الكتمان قام بغسله طبيب كان يتولّى أمر علاجه، وحُمل في تابوت إلى قلعة الروضة في القاهرة، وأُخفي خبر وفاته عن الناس، ونُقل جثمانه بعدئذ إلى تربته بجوار المدارس الصالحية في القاهرة.

وكان السلطان الصالح متعلقاً بزوجته الأثيرة شجر الدُرّ، حسبما يسمّيها المقريزي، وهي تركية، وقيل: أرمنية، ولما توفّي السلطان أحضرت شجر الدرّ الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن، وكان هذا الأخير أقرب الناس إلى السلطان، ويقوم بأمر مماليكه وحاشيته، وأعلمتهما بوفاة السلطان، وأوصتهما بالكتمان خوفاً من الفرنج، واتفق الثلاثة على القيام بتدبير أمور الحكم إلى حين قدوم الملك المعظّم. ولم تكتف شجر الدر بهذه الخطوة، وإنما أحضرت الأمراء الذين في المعسكر، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق 2، ص 343):

” وقالت لهم: إن السلطان قد رسم بأن تحلفوا له، ولابنه الملك المعظّم غياث الدين توران شاه صاحب حصن كيفا أن يكون سلطاناً بعده، وللأمير فخر الدين يوسف شيخ الشيوخ بالتقدمة على العساكر، والقيام بالأتابكية وتدبير المملكة. فقالوا كلهم: سمعاً وطاعة؛ ظناً منهم بأن السلطان حيّ، وحلَفوا بأَسرهم، وحلّفوا سائر الأجناد والمماليك السلطانية “.

وكانت الخطوة الثالثة هي أن القيادة المشتركة- وهي تركية صرف- أحضرت مرسوماً من المراسيم التي سبق للسلطان الصالح أن وقٌعها، وكتبت فيه على لسان السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي الهَذْباني، نائب السلطان على القاهرة، أن يحلّف أكابر الدولة وأجنادها في العاصمة، فأشرف كل من قاضي القضاة بدر الدين يوسف بن الحسن السِّنجاري، والقاضي بهاء الدين زهير كاتب الإنشاء، على تحليف الأعيان، وكانت القيادة المشتركة تصدر المراسيم باسم السلطان، ويكتبها لهم خادم للسلطان اسمه سُهَيل، يشبه خطه خط السلطان، يقول المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 344): ” ومشى هذا على الأمير حسام الدين نائب السلطنة مدة، إلى أن أوقفه بعض أصحابه على اضطراب في العلامة، يخالف علامة السلطان، ففحص عن خبر السلطان من بعض خواصّه الذين بالمعسكر، حتى عرف موته، فاشتد خوفه من الأمير فخر الدين، وخشي أن يتغلّب على المُلك، فاحتاط لنفسه “.

وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الدولة الأيوبية تخرج فيها القيادة العليا عن أيدي الفريق الكردي تماماً، وتستقر بالكلية في أيدي مماليكهم الترك، لذا كان الأمير الكردي حسام الدين مصيباً في خوفه من تسلّط الأمير المملوكي فخر الدين على مقاليد الحكم، وصحيح أنه نائب السلطان على العاصمة، لكنه بعيد عن مركز صنع القرار، كما أن القوة الضاربة هي في أيدي فخر الدين وسائر قادة المماليك.

وراح الأمير فخر الدين يمارس السلطة، فأطلق المسجونين، وتصرّف في إطلاق الأموال، وأهدى الخلع إلى كبار القادة، وأرسلت القيادة المشتركة الفارس أقطاي- وهو قائد المماليك البحرية- لإحضار الملك المعظّم من حصن كيفا في كردستان الشمالية، ولم يقف الأمير حسام الدين مكتوف اليدين، وإنما أرسل مبعوثاً من عنده إلى الملك المعظّم، موضحاً له أن من المصلحة الإسراع إلى مصر لتولّي مقاليد الحكم، ” ومتى تأخّر فات الفوت، وتغلّب الأمير فخر الدين على البلاد “.

وعمد الأمير حسام الدين إلى خطوة احتياطية أخرى؛ فمن ناحية راح يجامل الأمير فخر الدين في مراسلاته، فيكتب إليه فخر الدين بصيغة ” من فخر الدين الخادم يوسف “، فيكتب إليه حسام الدين بصيغة ” المملوك أبو علي “. ومن ناحية أخرى نقل الملك المُغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل من عند عمّات أبيه، من القاهرة، إلى قلعة الجبل، ووكّل به من يحتاط عليه، ولا يسلّمه لأحد، خوفاً من أن يقيمه  الأمير فخر الدين سلطاناً بدلاً من المعظّم، ويستولي على الأمر باسمه.

وهكذا بات واضحاً أن الجناحين الكردي والتركي كانا يخوضان صراعاً خفياً وخطيراً، ولم يكن الجناح الكردي يفتقر إلى العقول الراجحة والقيادات الذكية، لكن ما النفع؟! فقد سبق أن فقد الصالح ثقته في أمراء الكرد، وفي المماليك الصالحية والأسدية، ووضع ثقته في مماليكه الجدد، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 339 – 340):

” فلما استولى [الصالح] على مملكة مصر أكثر من شراء المماليك، وجعلهم معظم عسكره، وقبض على الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه، واعتقلهم، وقطع أخبازهم [رواتبهم]، وأعطى مماليكه الإمريات [المناصب العليا]، فصاروا بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمّاهم البحرية؛ لسكناهم معه في قلعة الروضة على بحر النيل “.

توران شاه سلطاناً

وصل خبر وفاة السلطان الصالح إلى ولده الملك المعظّم في حصن كيفا، فانطلق في خمسين فارساً من حرسه الخاص، منتصف شهر رمضان سنة (647 هـ)، وكان خصومه في الموصل وحلب يتربّصون به، وكمنوا له الكمائن، فانحدر نحو الجنوب، وقطع نهر الفرات عند مدينة عانه ( في شرقي العراق الآن)، وخاطر بنفسه، فسلك طريقاً في الصحراء متوجّهاً إلى دمشق، وكاد يهلك من العطش.

وخلال تلك الفترة كانت القيادة المشتركة تدير الأمور، وتُوهم أمراء الجيش بأن السلطان مريض، وغير مسموح لأحد بالوصول إليه، غير أن الفرنج علموا خبر وفاة السلطان من جواسيسهم، فخرجوا من دمياط فرساناً ورجّالة، وبراً وعبر نهر النيل، للانقضاض على المعسكر الأيوبي في المنصورة، والتوجه من بعد إلى القاهرة.

قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 346 – 347):

” فورد في يوم الجمعة إلى القاهرة من المعسكر كتاب فيه حضّ الناس على الجهاد، أوّله: ( انفْرُوا خِفافاً وِثِقالاً وجاهِدُوا في سبيلِ اللهِ بأموالِكمْ وأنفسِكمْ ذلكمْ خيرٌ لكمْ إنْ كنتمْ تَعْلَمونَ ). وكان كتاباً بليغأً فيه مواعظ جمّة، فقرئ على الناس فوق منبر جامع القاهرة، وحصل عند قراءته من البكاء والنحيب وارتفاع الأصوات بالضجيج ما لا يوصف، وارتجّت القاهرة ومصر؛ لكثرة انزعاج الناس وحركتهم للمسير، فخرج من البلاد والنواحي لجهاد الفرنج عالم عظيم، وقد اشتد كرب الخلائق من تمكّن الفرنج وأخذهم البلاد، مع موت السلطان “.

وكان أفراد البيت الأيوبي في بلاد الشام قد هبّوا كعادتهم لصد الهجوم الفرنجي، ولا سيما أبناء الملك الناصر داود صاحب الكرك، وأخواه الملك القاهر والملك المُغيث، ودارت رحى المعارك بين الجيشين الأيوبي والفرنجي براً وبحراً في النيل وفروعه، وشاركت الجماهير المصرية في الحرب، وصارت تتخطّف الفرنج من كل حدَب وصوب، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 348):

” وكانوا يتحيّلون في خطفهم بكل حيلة، حتى إن شخصاً أخذ بطّيخة أدخل فيها رأسه، وغطس في الماء إلى أن قرب من الفرنج، فظنوه بطّيخة، فما هو إلا أن نزل أحدهم في الماء ليتناولها إذ خطفه المسلم، وعام به حتى قدم به إلى المسلمين “.

على أن فرقة من الفرنج فاجأت المعسكر الأيوبي من جهة غير متوقَّعة، وأخذت الجيش على حين غرة، وكان الأمير فخر الدين في الحمام، فخرج على عجل لينظر ما الذي يجري، وليصدر الأمر إلى الجند بالمواجهة، فحاصره بعض فرسان الفرنج، وانفضّ عنه من معه من حرسه، فدافع عن نفسه، وسقط قتيلاً.

وما إن قُتل الأمير فخر الدين حتى دبّت الفوضى بين الناس، فتفرقوا يميناً وشمالاً، واقتحم الفرنج المنصورة، وكادوا يسيطرون على القصر السلطاني، وسرعان ما شنّ المماليك هجوماً معاكساً بقيادة المملوك بيبرس البُنْدُقَداري- هكذا ضبطه المقريزي- فأزاحوهم عن القصر، وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وقتلوا منهم نحو ألف وخمسمئة من قادتهم وشجعانهم، وحلّت الهزيمة بهم، ووصلت أخبار النصر إلى القاهرة، فانتشرت الزينات والأفراح فيها.

أما الملك المعظّم توران شاه فأفلح في اجتياز بادية الشام، ووصل إلى دمشق، ونزل بقلعتها، وقام نائب دمشق الأمير جمال الدين بن يغمور (تركي) بخدمته، وحلف له الأمراء، وأُعلن سلطاناً، وخلع هو بدوره على الأمراء كما هي العادة، ومنحهم أموالاً جزيلة، إلى درجة أنه أنفق جميع ما كان في قلعة دمشق من المال، وهو ثلاثمئة ألف دينار، واستدعى من قلعة الكرك في الأردنّ مالاً آخر وأنفقه، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 352):

” ولأربع مضين من شوّال سقطت البطائق [الرسائل عن طريق حمام الزاجل] إلى المعسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظّم إلى دمشق، وسلطنته بها، فضربت البشائر بالمعسكر والقاهرة “.

وأقرّ السلطان المعظّم الأمير جمال الدين على نيابة السلطنة في دمشق، واتجه إلى مصر، فخرج قاضي القضاة بدر الدين السِّنجاري إلى غزة لاستقباله، ووفد معه إلى مصر، كما خرج الأمير حسام الدين يتلقّاه في الصالحية، ونزل المعظّم في قصر أبيه، ومن يومئذ أُعلنت وفاة السلطان الصالح، ولم يكن أحد قبل ذلك اليوم يتحدّث عن وفاته. وتسلّم المعظّم مملكة مصر، وخلع على الأمير حسام الدين خلعة سنيّة، وأهداه مِنطقة (نطاق للفروسية) وسيفاً وثلاثة آلاف دينار مصرية.

ثم توجّه المعظّم من الصالحية إلى المنصورة، حيث قيادة الجيش الأيوبي، وتلقّاه الأمراء المماليك، ” فنزل في قصر جده وأبيه، يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة، فأول ما بدأ به أن أخذ مماليك الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار، وكثيراً من مخَلَّفه، بدون القيمة، ولم يعط ورثته شيئاً، وكان ذلك بنحو الخمسة عشرة ألف دينار، وأخذ يسبّ فخر الدين “، ويندّد بالإجراءات التي اتخذها، ومنها إطلاق المحابيس، وإنفاق الأموال، ويقول: ” أيش ترك لي “؟! (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 353).

إن موقف المعظّم من فخر الدين وورثته وتصرفاته يؤكد أنه كان غاضباً عليه، وأن بعض المخلصين له- ولعل منهم الأمير حسام الدين وقاضي القضاة السنجاري- كانوا يطلعونه على نوايا فخر الدين، وينقلون إليه الصورة الكاملة لما عليه المماليك من تحكّم في مقاليد الأمور، وتهميش للفريق الكردي، ولعلهم شجّعوه على تصحيح الأمور، وقطع الطريق على الطموحات المملوكية.

موقف صعب

إذاً وجد المعظّم نفسه في موقف صعب؛ وكان عليه أن يخوض معركتين خطيرتين معاً: الأولى حرب خارجية ضد الفرنج الطامعين في السيطرة على مصر. والثانية معركة داخلية، تتعلق بكبح جماح زوجة أبيه شجر الدر، وتخليص المناصب القيادية العليا من أيدي المماليك البحرية خاصة، وظل يدير الأمور، ويصدر الأوامر، ويستقبل العلماء والفقهاء، ومنهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وسراج الدين الأُرْمَوي (نسبة إلى مدينة أُورمية)، ويجلس معهم ويناظرهم.

وبعد الهزيمة التي حلّت بالفرنج، في هجومهم على المنصورة، جزع الملك لويس التاسع، لكنه تمالك، وراح الفرنج يعّززون مواقعهم، ويتزوّدون بمزيد من القوات والإمدادات، إلا أن القيادة الأيوبية طوّرت بدورها طرائق المواجهة؛ إذ أمر توران شاه ببناء عدد من المراكب، وحُملت مفصّـلة على الجمال إلى بحر المحلّة، ثم أُنزلت في الماء، وشُحنت بالمقاتلين، ولم تلبث تلك المراكب أن انقضّت على المراكب الفرنجية وأخذتها أخذاً وبيلاً، وذكر المؤرخون أن السفن الأيوبية استولت على اثنتين وخمسين سفينة للفرنج كانت محملّة بالميرة والمؤن، وبذلك تمّ قطع الطريق على السفن الفرنجية، وحيل بينهم وبين قاعدتهم في دمياط، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 354):

” فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم،وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب، واستضرى المسلمون عليهم، وطمعوا فيهم “.

وفي سنة (648 هـ) اضطر الفرنج إلى التراجع نحو دمياط، ” فركب المسلمون أقفيتهم ” كما قال المقريزي، وأنزلوا بهم الخسائر الفادحة قتلاً وأسراً، فبلغ عدد القتلى عشرة آلاف في قول المقلّ، وثلاثين ألفاً في قول المكثر، وبلغ عدد الأسرى، من الفرسان والرجّالة والصنّاع والسُّوقة، مئة ألف إنسان، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى، في حين كانت خسائر المسلمين نحو مئة رجل.

لويس التاسع أسـيراً

وفي سنة (648 هـ) لم يبق أمام لويس التاسع سوى أن يرجع برجاله من حيث أتى، وشرع الفرنج يستعدّون للانسحاب، فأحرقوا ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم، ليفرّوا إلى دمياط، لكن عملية الانسحاب لم تكن سهلة، وأدرك لويس التاسع أن جيشه سيتعرّض لمطاردة قاسية من الجيش الأيوبي، لذلك لجأ قبل الانسحاب إلى فتح باب المفاوضات، على أن يترك للجانب الأيوبي دمياط مقابل أخذ بيت المقدس، لكن توران شاه رفض العرض رفضاً مطلقاً؛ وكان يعرف ما يعانيه الفرنج من ضعف وعناء ونقص في الأقوات والذخائر.

وشرع الفرنج في التراجع نحو دمياط، وحُمل المرضى منهم في السفن، ولم تكن هذه عملية انسحاب، وإنما كانت عملية هروب كما سمّاها ابن واصل، وكان الجيش الأيوبي يسير في أعقابهم، ويهاجمهم من كل ناحية، ولم تكد مقدمة الجيش الفرنسي تصل إلى فارِسْكُور حتى غلب المرض على لويس التاسع ومعظم رجال جيشه، وكان المسلمون حينذاك يحيطون بهم، ويتخطّفونهم طوال الطريق قتلاً وأسراً.

وبعد أن تأكد للمسلمين سوء حال الفرنج قرروا أن يشنّوا عليهم هجوماً عاماً عند فارس كور، وكان الإعياء قد اشتد بالملك لويس التاسع وكذلك المرض، فلم يستطع القتال، وقاده أحد رجاله ليستريح في (مِنْية أبي عبد الله)، وهي إحدى قرى شَرِمْساح، وانقضّ الجيش الأيوبي على الفرنج عند فارسكُور، فحلّت الهزيمة الساحقة بالجيش الفرنجي، ووقع بأجمعه تقريباً بين قتلى وأسرى، ووقع لويس التاسع نفسه في الأسر، فسيق مكبّلاً بالأغلال إلى المنصورة، وسجن في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان، وعهد بحراسته إلى الطواشي صَبِيح المعـظَّمي، وذكر الصاحب جمال الدين مطروح أسر الملك لويس في قصيدة له، جاء فيها:

قل للفرنسيس إذا جئـــــته

مقــالَ نُصحٍ من قؤول نصيحْ

دارُ ابن لقمـــانَ على حالها

والقيـدُ باق، والطواشي صَبيحْ

ولم ينصبّ اهتمام المسلمين على استرداد دمياط وحدها، بل طمحوا إلى الاستيلاء على جميع الممتلكات الفرنجية في بلاد الشام، عن طريق الضغط على لويس التاسع، وحاول توران شاه تهديده لانتزاع الاعتراف منه، لكن لويس التاسع أصرّ على أنه لا سلطة له على الفرنج وممتلكاتهم في بلاد الشام.

واغتاظ توران شاه من موقف لويس فصمّم على غزو مناطق الفرنج في بلاد الشام، وغالى في شروط الصلح مع الفرنج، وطالب بمبلغ ضخم من المال مقابل فداء الجيش الفرنسي، على أن يكون تسليم دمياط ثمناً لفداء الملك الفرنسي نفسه، ووافق الملك لويس التاسع على تلك الشروط، وأُبرمت معاهدة بينه وبين توران شاه على أن يستمرّ الصلح بين الفريقين لمدة عشر سنوات.

مقدّمات الانهيار

بعد تحقيق النصر على الفرنج رحل السلطان المعظّم من المنصورة، ونزل بفارس كور، وضرب بها الدهليز السلطاني، وعمل فيه برجاً من الخشب، وفي الوقت نفسه كانت الخلافات بينه وبين المماليك بدأت تظهر على السطح، وكان انشغال الفريقين بأحداث المعارك ضد الفرنج يغطيها، وشرع كل فريق يتربّص بالآخر، ويعمل لإزاحته جانباً؛ تطبيقاً لمقولة: ” تعشّ به قبل أن يتغدّى بك “.

ويبدو أن الفريق الكردي كان قد انتعش بوصول توران شاه إلى السلطة، وبات يستجمع قواه كي يتصدّى للفريق المملوكي التركي، وأفهم هذا من خبر ساقه المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 358 – 359)، فقد ذكر:

 ” أن السلطان المعظّم أعرض عن مماليك أبيه الذين كانوا عنده لمهمّاته، واطّّرح الأمراء والأكابر أهل الحلّ والعَقد، وأبعد غلمان أبيه وترابيه [لعل المراد: من اقتناهم الصالح من المماليك وربّاهم]، واختص بجماعته الذين قدموا معه، وولاّهم الوظائف السلطانية، وقدّم الأراذل، وجعل الطواشي مسروراً- وهو خادمه- أستادار السطان [مستشاره ومتولّي أموره]، وأقام صبيحاً- وكان عبداً حبشياً فحلاً- أمير جاندار [حارس خاص]، وأنعم عليه بأموال كثيرة وإقطاعات جليلة، وأمر أن يُصاغ له عصا من ذهب، وأساء السلطان إلى المماليك وتوعّدهم، وصار إذا سكر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع، وضرب رؤوسها بالسيف حتى تتقطّع، ويقول: هكذا أفعل بالبحرية. ويسمّي كل واحد باسمه، مع الانهماك على الفساد بمماليك أبيه، ولم يكونوا يألفون هذا الفعل من أبيه، وكذلك فعل بحظايا أبيه “.

وقال المقريزي في هذا الصدد أيضاً (السلوك، ج1، ق2، ص 359):

” وصار مع هذا أهل الحلّ والعقد، والأمر والنهي، لأصحابه الذين قدموا معه؛ فنفرت قلوب البحرية، واتفقوا على قتله “.

فمن هم هؤلاء الذين سمّاهم المقريزي (جماعته) تارة، و(أصحابه الذين قدموا معه) تارة أخرى؟! ولماذا لا يصرّح هو، أو المصدر الذي نقل منه، بهوية تلك الجماعة؟! الأرجح أن جماعة توران شاه وأصحابه الذين قدموا معه من حصن كيفا كانوا من الكرد، ويستفاد من سير الأحداث أن الفريق الكردي، بقيادة توران شاه، كان عازماً على القيام بانقلاب جذري في قمة هرم السلطة، وإعادة النفوذ الكردي إلى سابق عهده في الدولة، وأنهم وصلوا في القرار إلى نقطة اللاعودة، ويستفاد أيضاً أن الفريق المملوكي كان يحصي على الفريق الكردي أنفاسه، وكان جواسيسهم من الخدم والحشم ينقلون إليهم تفاصيل ما يتفوّه به المعظّم وأنصاره في جلساتهم الخاصة.

والمهم أن الفريق الكردي كان يخوض معركة خاسرة من جميع الأوجه.

وإليكم الأسباب فيما أعتقد.

  • أولاً: لأن عدد الفريق الكردي كان قليلاً جداً، فقد مرّ أن الذين قدموا مع المعظّم من حصن كيفا كانوا خمسين فقط، ولنفترض أن كرداً آخرين انضموا إليه من أمثال الأمير حسام الدين وغيره، ومع ذلك يبقى العدد ضئيلاً إزاء آلاف المماليك؛ والعدد مهمّ جداً في هذه الأحوال، ثم إن هذا الفريق مع قلّته لم يكن متجانساً، ففيهم الطواشي من أمثال مسرور، والعبد من أمثال صبيح، كما أنه لم يكن متكاتفاً متضامناً؛ والدليل أنه لما هاجم المماليك المعظّم بقي وحيداً.
  • ثانياً: كان الكامل والصالح قد فكّكا القوة الكردية في الجهازين القيادي والإداري بمصر خاصة، وأبعدا الكرد عن مراكز صنع القرار، وأحلاّ محلهم المماليك، فتسلّم هؤلاء المناصب العليا، ورتّبوا أتباعهم في المناصب الوسطى والدنيا، وصنعوا قاعدة عريضة مناصرة لهم على الصعيدين العسكري والإداري، وهذا أمر كان يفتقر إليه الفريق الكردي منذ عقود.
  • ثالثاً:  كان الفريق الكردي يفتقر إلى قيادة واعية ناضجة، فالمعظّم شاب شجاع ومقدام، لكنه غرّ، وغير خبير بإدارة الصراعات السياسية الداخلية، كما أنه يفتقر إلى الحنكة والدهاء، ليس هذا فحسب؛ وإنما كان متهوّراً، يرتجل قرارات طائشة، ويبوح بالأمور الخطيرة أما الخدم والحشم، ويبدو أنه كان مستبداً في اتخاذ الإجراءات الانقلابية، إذ لا نجد للأمير حسام الدين الهَذْباني مثلاُ موقعاً عملياًً في هذه الخطة، وهو الرجل الحكيم وصاحب الخبرة الطويلة في التعامل مع المماليك؛ وبعبارة أخرى : لم يقم المعظم بتشكيل غرفة عمليات لإدارة الأزمة، كما يقال في اللغة السياسية المعاصرة؛ هذا في حين كان قادة المماليك قد رصّوا صفوفهم، وشكّلوا قيادة عليا (لجنة مركزية بلغة عصرنا)، وكانت تلك القيادة تتألف من: عزّ الدين اََيبَك، وفارس الدين أَقْطاي، وبيبرس البندقداري، وقُطْز.
  • رابعاً: اتخذ المعظّم تدابير طائشة، وقام بسياسات قاصرة، فازداد موقفه ضعفاً، وأوجد مناخات معادية تماماً له، منها على سبيل المثال أنه نفّر منه أبرز أركان الفريق الكردي، وفي مقدمتهم كبار البيت الأيوبي، فأخرج ابن أخيه الملك المُغيث عمر ابن العادل من قلعة الجبل في القاهرة إلى قلعة الشُّوبَك في الأردن، واعتقله بها، وأبعد عمّه الملك السعيد فخر الدين من مصر إلى دمشق، وأمر نائبه جمال الدين باعتقاله هناك، ولا ريب أنه خسر بهذه التدابير تعاطف البيت الأيوبي وأنصارهم، بل حوّلهم إلى ناقمين وأعداء؛ وهذا ما لا يفعله عاقل، دعك من حكيم، في أوقات المحن.
  • خامساً: أمر المعظّم الأمير حسام الدين، نائبه في القاهرة، بالحضور إلى المعسكر في فارس كور كور، وعزله، وأقام بدلاً منه جمال الدين أقوش، وهو مملوك تركي، والأرجح أنه كان من المماليك الصلاحية أو الأسدية الذين أزاحهم السلطان الصالح، ومؤكد أنه لم يكن من البحرية، وأحسب أن هذا الإجراء كان من أكثر تدابير المعظّم طيشاً، وأخطر ما في الأمر أنه خسر قدرات الأمير حسام الدين وخبراته بكواليس السياسة في مصر حينذاك، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 358): ” ووصل الأمير أبو علي إلى المعسكر، فنزل به مُطَّرَح الجانب، بعدما كان عُدّة الملك الصالح وعمدته “.
  • سادساً: أعلن المعظّم الخصومة مع شجر الدر، زوجة أبيه، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 358): ” وبعث المعظّم إلى شجر الدرّ يتهدّدها، ويطالبها بمال أبيه وما تحت يدها من الجواهر. فداخلها خوف كبير، لما بدا منه الهوج والخفّة، وكاتبت المماليك البحرية بما فعلته في حقه، من تمهيد الدولة، وضبط الأمور حتى حضر تسلّم المملكة، وما جازاها به من التهديد والمطالبة بما ليس عندها، فأنفوا [غضبوا] لها، وحنقوا من أفعال السلطان“. وكانت الحكمة تقتضي عدم إثارة المواجهة ضد شجر الدر، وكسبها إلى جانبه، ولا سيما أنها أخلصت في تنفيذ وصية زوجها السلطان الصالح بتولية المعظم الحكم، وقامت بتدابير تدل على الذكاء والحزم، وكان من الممكن للمعظم الإفادة من قدراتها وخبرتها بدل تحويلها إلى خصم.
  • سابعاً: قيام المعظّم بتبذير الأموال، وهذا أمر عهدناه فيه منذ أن وصل إلى دمشق، وكان في ذلك مخالفاً تماماً للسياسات الاقتصادية التي اتبعها كل من والده الصالح، وجده الكامل، والجد الكبير السلطان العادل. ومعلوم أن المال قوة، بل هو قوة شديدة الأهمية، وينبغي أن يكون الحاكم حريصاً عليه، عارفاً بكيفية إنفاقه على الوجه الصائب.

مقتل توران شاه

إذا جمعنا هذه الأسباب بعضها إلى بعض اتضح أن المعظم ومن معه كانوا يسيرون نحو النهاية بخطا سريعة جداً، وأن الفريق المملوكي كان يمتلك الكثير من عوامل الانتصار، لذلك بادر هذا الفريق إلى التحرك بسرعة، وكانت ساعة الصفر في يوم الاثنين، السادس عشر من شهر المحرّم، سنة (648 هـ /1250م)، وكانت العادة أن يُمدّ السماط السلطاني كل يوم، ويحضر كبار الأمراء والقادة لتناول الطعام معه، ولندع المقريزي يصف المشهد (السلوك، ج1، ق2، ص 359 – 360):

” وما هو إلا أن مُدّ السماط، بعد نزوله بفارس كور، في يوم الاثنين سادس عشر المحرّم، وجلس السلطان على عادته، تقدّم إليه أحد من البحرية، وهو بيبرس البندقداري، الذي صار إليه مُلك مصر، وضربه بالسيف، فتلقّاه المعظّم بيده، فبانت أصابعه، والتجأ إلى البرج الخشب الذي نُصب له بفارس كور، وهو يصيح: من جرحني؟ قالوا: الحشيشة [الحشّاشون]. فقال: لا والله، إلا البحرية! والله لا أبقيتُ منهم بقيّة! واستدعى المزيّن [لعله الممرّض] ليداوي يده. فقال البحرية بعضهم لبعض: تمّموه، وإلا أبادكم. فدخلوا عليه بالسيوف، ففر المعظّم إلى أعلى البرج، وأغلق بابه، والدم يسيل من يده. فأضرموا النار في البرج، ورموه بالنشاب، فألقى نفسه من البرج، وتعلّق بأذيال الفارس أقطاي [كبير قادة البحرية]، واستجار به، فلم يُجِره. ومرّ المعظّم هارباً إلى البحر [النيل]، وهو يقول: ما أريد مُلكاً! دعوني أرجع إلى الحصن [حصن كيفا]! يا مسلمين! ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟! هذا وجميع العسكر واقفون، فلم يجبه أحد، والنشاب يأخذه من كل ناحية، وسبحوا خلفه في الماء، وقطّعوه بالسيوف قطعاً، حتى مات جريحاً حريقاً غريقاً، وفرّ أصحابه واختفوا. وتُرك المعظّم على جانب البحر ثلاثة أيام، لا يقدر أحد أن يتجاسر على دفنه، إلى أن شفع فيه رسول الخليفة [المستعصم بالله]، فحُمل إلى ذلك الجانب ودُفن، فكانت مدة ملكه أحداً وسبعين يوماً “.

إذاً فالخطّة كانت مدبّرة، وكان المماليك قد اتخذوا القرار، ودفع توران شاه ثمن تدابيره غير الحكيمة، وثمن هوجه وسياساته المتسرّعة ، ويصحّ فيه وفي أمثاله قولُ الشاعر ابن زُرَيْق البغدادي:

أُعطيتَ مُلْكاً، فلم تُحسِنْ سياستَه

وكلُّ من لا يسوسُ المُلْك يُحرَمُهُ

إضاءة هامة

ولعل ما أورده المقريزي حول شخصية المعظم يترك لدينا انطباعاً بأن الرجل كان رديئاً بصورة فظيعة، فقد ذكر المقريزي أن السلطان الصالح لم يكن على وفاق مع ابنه المعظّم، وما كان يراه أهلاً للحكم أصلاً، وقال بهذا الصدد (السلوك، ج1، ق1، ص 342):

” وقيل: إنه لم يعهد إلى أحد بالمُلك، بل قال للأمير حسام الدين بن أبي علي [الهذباني]: إذا متّ لا تسلّم البلاد إلا للخليفة المستعصم بالله، ليرى فيها رأيه؛ فإنه [الصالح] كان يعرف ما في ولده المعظَّم توران شاه من الهوج “.

وها هنا لا بد من أن نكون على حذر من كلمة (قيل!)، فهي تعني على أقل تقدير أن الخبر نوع من الإشاعة، وليس موثوقاً منه، وذكر المقريزي تحت لواء (قيل!) أيضاً أن الأمير حسام الدين ألحّ على السلطان الصالح أن يستقدم المعظّم من حصن كيفا، ليتولّى القيام بأمور الحكم، لكن الصالح رفض، وقال: إذا جاء قتلته.

وبطبيعة الحال لا أزعم أن المعظّم كان مبرّأ من العيوب، أو أنه كان في مستوى والده الصالح وجده الكامل من حيث الكفاءة والحنكة، وما سردناه من التدابير التي اتخذها دليل على أنه كان يتصرف بحماقة أحياناً، ومع ذلك ثمة أمور أربعة تقوّي عندي أن الرجل تعرّض لحملة تشويه شنعاء ومنظّمة، وخاصة بعد مقتله.

  • الأول: أن السلطان الصالح، قبيل وفاته، عهد بالسلطنة إلى المعظّم، وطلب من كبار قادة المماليك وغيرهم أن يحلفوا على ذلك، وأنه وقّع عشرة آلاف مرسوم على بياض، لتتدبّر حاشيته أمور الدولة إلى حين قدوم المعظم من حصن كيفا، مع الانتباه إلى أن المقريزي أورد هذا الخبر من غير أن يبدأها بالكلمة التشكيكية (قيل!)؛ وهذا كله يتناقض مع ما (قيل) حول عدم رغبة الصالح في توريث ابنه أمر السلطنة، وأنه أوكل الأمر إلى المستعصم بالله.
  • والثاني: أنه سبق أن قال المقريزي في توران شاه (السلوك، ج1، ق2، ص 353)، حينما قدم إلى مصر: ” وجرت بين يديه مباحثات ومناظرات في أنواع العلوم، وكان السلطان المعظم قد مهر في العلوم، وعرف الخلاف والفقه والأصول، وكان جدّه الملك الكامل يحبه لميله إلى العلم، ويلقي عليه من صغره المسائل المشكلة، ويأمره بعرضها وامتحان الفقهاء بها في مجلسه، ولازم المعظّم الاشتغال إلى أن برع، إلا أنه فيه هوج وخفّة، مع غرامه بمجالسة أهل العلم من الفقهاء والشعراء “. ومن يكون هذا شأنه مع العلم والعلماء لا يكون امرأ رديئاً إلى الدرجة التي قد نظنها.
  • والثالث: أن المقريزي عاش بين سنتي (766 – 845 هـ / 1365 – 1442 م)؛ وهذا يعني أنه عاش شطراً من حياته في عهد الدولة المملوكية التركية (648 – 783 هـ / 1250 – 1381 م)، وعاش الشطر الآخر من عمره في عهد الدولة المملوكية الشركسية (784 – 922 هـ / 1382 – 1516 م)، التي قضى عليها السلطان العثماني سليم الأول، وكان السلاطين الشراكسة في الأصل مماليك لسلاطين المماليك الأتراك، أي أنهم كانوا امتداداً ثقافياً لهم، وإذا أخذنا في الحسبان أن مقتل توران شاه كان سنة (648 هـ / 1250 م)، فذلك يعني أن بين كتابات المقريزي وبين الأحداث التي يرويها ما يزيد على قرن من الزمان، وأنه كان يستقي معلوماته مما روّجته وأشاعته الدولة المملوكية الأولى على الأقل.
  • والرابع: إذا أخذنا في الحسبان أن توران شاه كان خصماً شرساً وعنيداً للمماليك، وأنهم قتلوه بكيفية لا تخلو من حقد شديد، ومن قسوة بالغة كما مرّ، فمن الطبيعي أن تعمد الآلة الإعلامية المملوكية إلى تسويد سيرة توران شاه، وإلى الإشادة بسيرة الحكام الجدد، وهذا واضح في الكيفية التي يورد بها المقريزي، أو من نقل عنهم، أخبار كل من توران شاه والمماليك، فهو إزاء الأول لا يخلو من تحامل، وإزاء الآخرين لا يخلو من مجاملة.

وللتأكد من أمر التحامل والمجاملة يكفي أن نستعرض الأخبار التي أوردها المقريزي نفسه حول غدر المماليك فيما بينهم، وفتك بعضهم ببعض الآخر بطرائق دنيئة وممجوجة، وخذ على سبيل المثال مقتل عز الدين أَيبك بأمر من زوجته شجر الدر في الحمّام، إذ أخذ بعض رجالها بخناقه، وآخر بخصيتيه، إلى أن قتلوه (المقريزي: السلوك، ج1،2، ص 403).

ومنها أن الملك المنصور ابن المعز- وقد تولّى الحكم بعد أبيه- نقل شجر الدر إلى أمه زوجة أيبك السابقة، ” فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، ثم ألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام؛ وقد نتنت وحُملت في قفّة ” (المقريزي: السلوك، ج1،2، ص 404).

ولاحظوا أن المقريزي سريع إلى وصف أولئك العامة بالأراذل، في حين لا ينطق ببنت شفة إزاء زوجة المعز وابنه ومماليكه الذي فعلوا بشجر الدر تلك الأفاعيل البشعة؛ وهناك كثير من الأمثلة على هذه السلوكيات السادية الغريبة، ولو نبشنا تاريخ الأيوبيين نبشاً لما وجدنا فيه ما يقاربها، وليس ما يماثلها بأي شكل من الأشكال.

محاولة يائسة

بعد مقتل توران شاه اختار المماليك شجر الدر سلطانة لحكم البلاد، وبما أنها امرأة كان عليها أن تتزوج من المملوك عز الدين أيبك التركماني، وبما أن المسلمين لم يألفوا أن تحكمهم امرأة فقد أعلن أيبك نفسه سلطاناً سنة (648 هـ/1250م).

وها قدر ربح المماليك النصر في المعركة الداخلية ضد الأيوبيين، وبقي عليهم أن يقطفوا ثمار الانتصار في المعركة الخارجية ضد الفرنج، لذا بدأوا المفاوضات من جديد مع الفرنج، وناب عنهم الأمير الكردي حسام الدين الهَذْباني لرجاحة عقله، ووافق المماليك أخيراً على إطلاق سراح الملك لويس التاسع وأمرائه مقابل جلاء الفرنج عن دمياط، وفكّ أسر من لديهم من المسلمين، بشرط ألا يقصدوا سواحل الإسلام مرة أخرى، وتعهّد المماليك من جانبهم بإطلاق سراح الأسرى الفرنج، وكان عددهم (12110) أسيراً، وحُدّد أجل الصلح بعشر سنوات، وفي صفر سنة (648 هـ/مايو- أيار 1250م) تسلّم المسلمون دمياط، وأُطلق سراح الملك لويس التاسع، بعد دفع مقدّم الفدية المتّفق عليها،

وكان من الطبيعي أن تثور ثائرة الملوك الأيوبيين في بلاد الشام، وأن يغضب مؤيدوهم من الأمراء القًيْمَرية الكرد في دمشق، وقام الجميع بمحاولة يائسة لاسترداد المُلك المسلوب، وكانت المحاولة بقيادة صاحب حلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن العزيز محمد ابن الظاهر غازي ابن السلطان صـلاح الدين بن أيوب، ومعه الملك المغيث صاحب الكرك والشوبك، والملك السعيد صاحب غزّة، بل وقف مع الأيوبيين قليل من المماليك المنافسين للبحرية، ولا ريب في أنهم كانوا من المماليك الصلاحية والأسدية الذين خسروا نفوذهم في عهد السلطان الصالح أولاً، وبعد استئثار البحرية بالسلطة ثانياً.

وإزاء هذه الأخطار لجأ المماليك إلى مناورة سياسية بارعة، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 369): ” فلما كان بعد ذلك تجمّع الأمراء، وقالوا: لا بد من إقامة شخص من بيت المُلْك مع المعز أيبك، ليجتمع الكل على طاعته، ويطيعه الملوك من أهله “. واتفقوا على إقامة الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل بن الملك العادل سلطاناً، وله من العمر ست سنين، على أن يقوم بتدبير الدولة الملك المعز أَيْبَك. قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 369) معلّقاً على هذه المناورة السياسية قائلاً: ” إلا أن الأشرف ليس له سوى الاسم في الشركة، لا غير ذلك، وجميع الأمور بيد المعز أيبك “.

والحق أن تنصيب الملك الأشرف سلطاناً لم يكن- بالنسبة إلى المماليك- إلا حصان طروادة سياسي، وحققوا بتنصيبه أموراً أربعة:

  • الأول: إجهاض حملة البيت الأيوبي بقيادة الملك الناصر، وتمزيق الصف الأيوبي نفسه، والحد من التفاف المؤيّدين حولهم.
  • الثاني: الاحتماء بغطاء سياسي شرعي، باعتبار أن الملك الأشرف من البيت الأيوبي، ولا داعي إلى مناهضته، بل إن مناهضته تعني الخروج على السلطة الشرعية.
  • الثالث: استغلال صغر الملك الأشرف لتمرير سياساتهم الخاصة باسمه، ولتقوية مركزهم، وترسيخ نفوذهم.
  • الرابع: إمكانية التخلص منه بسهولة بمجرّد القضاء على الحملة الأيوبية المناهضة لهم (انظر أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 305).

وعمد المماليك إلى مناورة سياسية أخرى، وعلى مستوى أوسع وأهمّ، ألا وهي الاحتماء بغطاء الخلافة، واستمداد الشرعية منها، وذكر المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 368)  أنه لما ورد الخبر بانضمام بعض المماليك، وعلى رأسهم الأمير ركن الدين خاص تُرك، إلى الصف الأيوبي، ” نودي في القاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم بالله العباسي، وأن الملك المعز أيبك نائبه بها “.

الغدر ثانية!

قرر ملوك بني أيوب القيام بالخطوة الحاسمة، واسترداد الملك المسلوب، وتوجّه الملك الناصر إلى مصر بجيش كبير، ومعه من زعماء الأسرة الأيوبية: الملك الصالح عمـاد الدين إسماعيل بن الملك العـادل، والملك الأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن شيرگوه، والملك شادي بن الناصر داود، وأخوه الملك الأمجـد حسن، والملك الأمجد تقيّ الدين عباس بن العـادل، وملوك آخرون، إلى جانب عدد آخر من كبار القادة الكرد، وفي مقدّمتهم الأمير شمس الدين الحميدي، والأمير بدر الدين الزَّرْزاري، والأمير ضياء الدين القَيْمَري.

وعلى الجانب المملوكي دبّ الاضطراب، وقُبض على جـماعة من الأمراء المتهمين بالميل إلى الملك الناصر، وتجـاوز الناصر غزّة، ووصل إلى التخوم الفاصلة بين الشام ومصر، وخرج إليه الملك المعز أيبَك بقواته، والملاحظ هنا أن الأمـير الكردي حسام الدين الهذباني كان من أبرز قوّاده، وكان قائداً على ميسرة العسكر المملوكي، والتقى الجيشان قرب (العبّاسة)، وكانت الجولة الأولى للجند الأيوبي على الجند المملوكي، لكن العصبية التركية لعبت دورها في أشد لحظات القتال حرجاً، يقول المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 374) موضحاً ذلك:

” وكان في ظن كل أحد أن النصرة إنما تكون للملك الناصر على البحرية، لكثرة عساكره، ولميل أكثر عسكر مصر إليه، فاتفق أنه كان مع الناصر جمع كبير من مماليك أبيه الملك العزيز، وهم أتراك يميلون إلى البحرية لعلّة الجنسية … “.

وأضاف المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 375) يقول:

” ووقف الناصر في جمع من العزيزية [مماليك والده الملك العزيز، وهم ترك]، وغيرهم تحت سناجقه [راياته]، وقد اطمأنّ، فخرج عليهم المعزّ ومعه الفارس أَقْطاي، في ثلاثمائة من البحرية، وقرب منه، فخامر [تآمر] عدّة ممن كان مع الناصر عليه، ومالوا مع المعز والبحرية، فولّى الناصر فاراً، يريد الشام في خاصته وغلمانه، واستولى البحرية على سناجقه، وكسروا صناديقه، ونهبوا أمواله “.

إذاً خسر الأيوبيون المعركة لأن المماليك الترك الذين كانوا في صفوفهم انحازوا إلى أبناء جنسهم، وغدروا بالأيوبيين، وكانوا قوة قتالية هامة، بدليل كونهم في القلب مع الملك الناصر، وكانت النتيجة وقوع ملوك البيت الأيوبي وقادة الكرد في الأسر، ومقتل بعضهم. ولا ننس في الوقت نفسه وقوف الأمير الكردي حسام الدين ضد بني جنسه، فقد عرف المماليك البحرية كيف يستقطبونه، عبر إطماعه في منصب رفيع، والإفادة من قدراته القيادة.

إن موقف الأمير حسام الدين يذكّرني بموقف شبيه حدث في التاريخ الكردي حوالي سنة (550 ق.م)، فحينذاك وقف القائد الميدي هارباك ضد أستياگز (أستياجس) آخر ملوك ميديا، وانحاز إلى جانب الملك الأخميني قورش الثاني، وجرّ معه كثيرين من كبار القيادات الميدية، وكانت النتيجة سقوط الدولة الميدية، وحلول الدولة الأخمينية محلها؛ وها قد زالت الدولة الأيوبية أيضاً؛ وبطريقة جدّ مشابهة لسقوط الدولة الميدية، لكن بعد أن سطرت صفحات مجيدة في تاريخ غربي آسيا.

المراجع

  1. الدكتور أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.
  2. ابن سباط: تاريخ ابن سباط، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار جروس برس، طرابلس، الطبعة الأولى، 1993م، الجزء الأول.
  1. ستيفن رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الدكتور السيد الباز العريني، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، الجزء الثالث.
  2. الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2006 م..
  3. عبد الباسط بن خليل بن شاهين الملطي: نزهة الأساطين في من ولي مصر من السلاطين، تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987م.
  4. الدكتور عبد العظيم رمضان: الصراع بين العرب وأوربا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية، دار المعارف، القاهرة، 1983م.
  5. الدكتور عبد المنعم ماجد: الدولة الأيوبية في تاريخ مصر الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997م.
  6. المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1971م. الجزء الأول، القسم الثاني.

ـــــــــــــ

تنويه: [ القراء الأفاضل، سأتوقف حوالي شهرين، ونتيجة ظروف خاصة، عن متابعة كتابة حلقات هذه السلسلة، ولنا – بإذن الله – عودة إلى استكمال المسيرة مع التاريخ ].

د. أحمد الخليل   في 20 – 5 – 2007

شارك هذه المقالة على المنصات التالية