في مثل هذا اليوم، 24 حزيران/يونيو من عام 1974، أصدرت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي القرار رقم (521)، مُعلنةً بدء تنفيذ ما يُعرف بمشروع “الحزام العربي”؛ أحد أكثر السياسات التمييزية الممنهجة في تاريخ سوريا المعاصر، والتي استهدفت تغيير التركيبة الديمغرافية للمناطق ذات الغالبية الكُردية شمال شرق البلاد، وفصل الكُرد السوريين/ات عن امتدادهم/ن الجغرافي والثقافي في تركيا والعراق.
لقد مثّل المشروع ذروة التصعيد في سياسات التهميش والتمييز الممنهج ضد المواطنين/ات الكُرد في سوريا، وامتداداً لنهج “تعريب” المنطقة، عبر تهجير السكان الكُرد من قراهم وأراضيهم، وتشجيع واستقدام آلاف الأسر العربية التي غمرت “بحيرة الأسد” أراضيهم، ثم توطينهم فيما سُميت لاحقاً بـ”قرى نموذجية” بُنيت على الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها في السنوات السابقة للمشروع بموجب “قوانين الإصلاح الزراعي”.
جاء هذا المشروع تتويجاً لسلسلة من السياسات والممارسات الهادفة لقمع وإلغاء الوجود الكُردي في سوريا، أبرزها الإحصاء الاستثنائي عام 1962 في محافظة الحسكة، والذي نزع الجنسية عن أكثر من 120 ألف كُردي/ة، ليصبحوا وأحفادهم لاحقاً –أكثر من 500 ألف شخص– من عديمي الجنسية، ما جعلهم/ن محرومين/ات من الحقوق المدنية والسياسية لعقود.
خلفية المشروع: عندما يتحول القانون إلى أداة للتمييز والإقصاء
عقب بناء سد الطبقة وتشكّل بحيرة الأسد، غمرت المياه مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي كان يقطنها مزارعون عرب في ريف الرقة. وبدلاً من معالجة أوضاعهم بعدالة، وظّفت الحكومة السورية تلك الكارثة البيئية لتنفيذ خطة هندسة ديمغرافية تعود جذورها إلى عام 1965، عندما اقترحت السلطات آنذاك “خلق شريط عربي” بعمق 10-15 كم، يمتد بطول الحدود السورية-التركية، ويمر بالمناطق الكُردية في الجزيرة السورية، من المالكية/ديريك حتى رأس العين/سري كانيه.
وبينما قدّمت السلطات السورية المشروع كجزء من “الإصلاح الزراعي”، إلا أنّ الوثائق الرسمية والتقارير الحقوقية، وفي مقدمتها تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الغرض الحقيقي كان منع تشكّل تواصل جغرافي كُردي عبر الحدود، عبر تهجير السكان الكُرد وتوطين عائلات عربية مكانهم، بما يخدم سياسات الإنكار والتهميش.
وقد أُُسّست “قرى نموذجية” ضمن ما سُمّي لاحقاً بـ”مزارع الدولة”، بُنيت على أراضٍ صودرت من الكُرد وآخرون من سكان المنطقة، إما بحجّة الإصلاح الزراعي أو لأن أصحابها حُرموا من الجنسية بموجب الإحصاء الاستثنائي. وفي عام 1975، جرى توطين ما يناهز 4000 عائلة عربية في 41 قرية نموذجية، بينما مُنع الكُرد من العودة إلى أراضيهم، في خرق واضح لمبدأ المساواة وحق الملكية.
السياق التاريخي والسياسي: إرث طويل من الإنكار
لم يكن مشروع “الحزام العربي” وليد لحظة واحدة أو إجراءً منعزلاً عن سياق تاريخي، بل جاء تتويجاً لمسار طويل من السياسات التمييزية الممنهجة بحق الكُرد في سوريا، تعود جذوره إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حين بدأت السلطات السورية بالترويج لخطط تهدف إلى تهجير الكُرد من مناطقهم، ضمن رؤى قومية ضيقة تبنتها الحكومات المتعاقبة، انطلاقاً من قناعتها بأن الوجود الكُردي يشكل تهديداً لوحدة سوريا العربية[1].
وفي هذا الإطار، نفذت الحكومة السورية في عام 1962 ما عُرف بـ “الإحصاء الاستثنائي” في محافظة الحسكة، وكان على الكُرد أن يثبتوا أنهم يعيشون في سوريا منذ عام 1945 على الأقل وإلا فقدوا جنسيتهم السورية، وبالتالي كل حقوقهم الأساسية. وبحسب تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الصادر في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، تحت عنوان “إنكار الوجود: قمع الحقوق السياسية والثقافية للأكراد في سوريا“:
“أجرت الحكومة الإحصاء في يوم واحد، ولم تمنح السكان ما يكفي من وقت أو معلومات عن العملية. وبالنتيجة، نزعت السلطات الجنسية عن نحو 120 ألف كُردي، وتركتهم بلا جنسية في مواجهة مختلف أنواع المشكلات، من الحصول على الوظائف إلى الحصول على خدمات الدولة[2]. نما عدد الأكراد عديمي الجنسية في سوريا تزايد منذ ذلك التاريخ كي يبلغ نحو ثلاثمائة ألف، لأن أبناء عديمي الجنسية يعتبرون هم أنفسهم بلا جنسية بدورهم“.
وبعد استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، تواصلت هذه السياسات القمعية، فجرى تعميق إنكار الهوية الكُردية تحت غطاء تعزيز “القومية العربية”. ووفقاً لـ”هيومن رايتس ووتش”، شكل إنشاء “حزام عربي” يفصل الكُرد السوريين/ات عن نظرائهم/ن في تركيا والعراق، عنصراً محورياً في هذه السياسة:
“أعدت الحكومة خطة لـ “الحزام العربي” في عام 1965 وكان المخطط يشمل تشكيل حزام بعمق 15 كيلومتراً (نحو 9 أميال) على امتداد مساحة 280 كيلومتراً (174 ميلاً) بطول الحدود مع تركيا. وكانت الخطة تشمل أيضا ترحيل الأكراد المقيمين في قرى تدخل في نطاق هذا الحزام في المناطق السورية“.[3]
وبحلول أوائل السبعينيات، بدأت الحكومة بتنفيذ هذه الخطة عملياً، وفقاً لهيومن رايتس ووتش، لكن تحت مسمى مُغاير: “خطة إنشاء مزارع نموذجية للدولة في محافظة الجزيرة”. وقد أنشأت “قرى زراعية نموذجية” في المناطق ذات الغالبية الكُردية، وجُهّزت لتُسكنها أسر عربية تم تهجيرها قسرياً من أراضيها التي غمرتها مياه سد الفرات. تمّت مصادرة أراضي الكُرد التي شُيدت عليها هذه القرى إما بذريعة “الإصلاح الزراعي” أو بذريعة أن ملاكها كانوا من عديمي الجنسية بسبب إحصاء عام 1962.
وفي عام 1975، أعيد توطين قرابة 4,000 أسرة عربية في 41 قرية نموذجية في قلب المنطقة الكُردية. وقبل تنفيذ هذا التوطين فعلياً، أُنشئت ما سُمّيت بـ”لجنة الغمر”، التي أوكل إليها إقناع أبناء العشائر العربية بترك أراضيهم المتضررة بفعل السد، والانتقال إلى الأراضي المصادرة من الكُرد. وكان الإيعاز إلى الجهات التنفيذية والأمنية في محافظة الحسكة بتهيئة الأرضية لإتمام الخطة، ونظمت السلطات زيارات على مدى عام كامل للممثلين عن تلك العشائر لاطلاعهم على المناطق المزمع توطينهم فيها والأراضي التي سيستثمرونها، رغم رفض جزء من السكان العرب آنذاك المشاركة في المشروع لأسباب أخلاقية ودينية.[4]
ورغم أن الحكومة السورية أوقفت تنفيذ المشروع رسمياً عام 1976، إلا أنها لم تلغِ نتائجه، كما فإن تداعياته لا تزال قائمة حتى اليوم. فقد احتُفظ بالقرى النموذجية، ولم تُعد الأراضي المصادرة لأصحابها الشرعيين، ولم تُلغَ البنى التحتية التي أُنشئت خصيصاً لتنفيذ المشروع. وهكذا، استمر “الحزام العربي” كرمز حيّ للتمييز البنيوي الذي طال الكُرد لعقود.
أثر المشروع على الهوية والسلم المجتمعي
من المهم الإشارة إلى أن كثيراً من العائلات العربية التي نُقلت إلى القرى النموذجية لم تكن شريكة في هذا المشروع التمييزي بإرادتها، بل كانت ضحية أخرى للاستغلال السياسي، إذ أُجبرت على ترك أراضيها الأصلية التي غمرها السد، لتُزجّ في مشروع تحكمه الأجندات القومية الضيقة. كما وُثّقت شهادات من أبناء هذه العائلات رفض بعضهم دفن موتاهم في القرى الجديدة، أو بناء مساجد دون إذن أصحاب الأرض الأصليين، أو حتى أداء مناسك الحج من واردات أراضٍ صودرت من الكُرد وغيرهم، وهو ما يدلّ على بُعد أخلاقي وإنساني في موقفهم، يستحق الاحترام والتوثيق.[5]
لم يقتصر ضرر مشروع “الحزام العربي” على انتهاك الحقوق العقارية، بل ضرب النسيج الاجتماعي، وكرّس الانقسام الإثني، وزرع بذور الشك والعداء بين مكونات سكنية تعايشت لعقود في الجزيرة السورية. كما ساهم في تعزيز شعور التهميش لدى الكُرد السوريين/ات، وزاد من حدة القطيعة بين الدولة وشريحة واسعة من مواطنيها.
إن هذا المشروع، بما خلّفه من آثار طويلة الأمد، لا يمكن فصله عن السياق العام للتمييز البنيوي الذي عانى منه الكُرد في سوريا لعقود، بدءاً من تجريدهم/ن من الجنسية، ومنع تعليم اللغة الكُردية، وقمع النشاط الثقافي، وصولاً إلى الإقصاء السياسي.
مخالفة للدستور السوري والقانون الدولي
لاشك أن مشروع “الحزام العربي”، رغم غاياته السياسية الواضحة والآثار الكارثية التي خلّفها (خاصة الاجتماعية منها)، فهو يشكّل أيضاً خرقاً فاضحاً للقوانين السورية ذاتها، فالدستور السوري الدائم لعام 1973، وهو الدستور الذي تمّ في ظله تنفيذ الجزء الأكبر من المشروع، تنص المادة 15 منه على أنه “لا يجوز نزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل“، وهما شرطان لم يتوفرا في تنفيذ المشروع، إذ لم تكن هناك منفعة عامة، بل عملية إحلال وتوطين لصالح فئة معينة من المواطنين على حساب فئة أخرى، بناءً على الانتماء القومي.
كما يشكّل المشروع انتهاكاً واضحاً لمبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، المنصوص عليه في المادة 25 من الدستور ذاته، ويخالف المادة 771 من القانون المدني السوري (المرسوم التشريعي رقم 84 لعام 1949)، التي أكّدت على أنه “لا يجوز أن يُحرم أحد من ملكه إلا في الأحوال التي يقرّرها القانون، وعلى أن يكون ذلك مقابل تعويض عادل“.
هذه الانتهاكات لا تُعد فقط تجاوزات على الصعيد المحلي، بل تشكل خروقات خطيرة لمبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، مثل الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الشعوب الأصلية والتمييز العنصري.
في صميم العدالة الانتقالية: رد الحقوق شرط لبناء المستقبل
إننا في رابطة “تآزر” للضحايا، وفي الذكرى الواحدة والخمسين لهذا المشروع التمييزي، نُذكّر بأن العدالة لا تتحقق بمجرد مرور الزمن، بل بالاعتراف، والإنصاف، والمساءلة. وعلى الرغم من تجميد المشروع في عام 1976، فإن آثاره لا تزال قائمة حتى اليوم، من خلال استمرار وجود القرى النموذجية على الأراضي المصادرة، واستمرار معاناة المتضررين من الكُرد، وعدد من العائلات العربية التي فُرض عليها التوطين في سياق سياسي قسري.
في ظل التحولات السياسية التي تمر بها سوريا، وبدء مناقشة ملفات العدالة الانتقالية، فأن ملف الممتلكات هو ركيزة أساسية لإنجاح أي عملية سياسية تهدف إلى الاستقرار والسلام. فاستعادة الحقوق، والاعتراف بالانتهاكات، وتعويض المتضررين، ليست مسائل قانونية فحسب، بل هي مفاتيح لتحقيق المصالحة الحقيقية وبناء الثقة بين المواطنين والدولة.
بناءً على ما سبق، توصي رابطة “تآزر” للضحايا بما يلي:
- معالجة قضية “الحزام العربي” بمسؤولية وشفافية ضمن مسارات العدالة الانتقالية والمفاوضات السياسية، وتشكيل لجان مختصة لتوثيق الانتهاكات، تحديد المتضررين، واعتماد حلول منصفة لجميع الضحايا.
- إعادة الحقوق والممتلكات لأصحابها وتعويض جميع المتضررين/ات، بما في ذلك العائلات العربية التي تمّ توطينها قسراً.
- الاعتراف الرسمي والعلني بالانتهاكات التي وقعت في إطار هذا المشروع، وضمان عدم تكرار هذه السياسات التمييزية، عبر وضع إطار قانوني دستوري يحظر التمييز على أساس عرقي أو لغوي أو ديني.
- إنهاء جميع المشاريع الاستثنائية والتمييزية ضد الكُرد السوريين، وعلى رأسها آثار الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 وإعادة الجنسية للمجردين منها مع كامل حقوقهم.
- إقرار دستور جديد قائم على المساواة والمواطنة المتساوية، يضمن إعادة الممتلكات لأصحابها الشرعيين وعودة النازحين/ات واللاجئين/ات إلى أماكن سكنهم الأصلية بشكل آمن وكريم وطوعي، ويقر بتعويضهم عن الأضرار والخسائر التي لحقت بهم.
- تشكيل لجان قانونية مستقلة ومحايدة للنظر في نزاعات الملكية الناشئة عن المشروع، وتُشرف على آليات الجبر وإعادة الحقوق، وفق معايير العدالة الانتقالية.
من أجل سوريا لا تُبنى على النسيان
إننا في رابطة “تآزر”، وإذ نُحيي ذكرى واحدة من أكثر المحطات ظلماً في تاريخ سوريا الحديث، نؤكد أن الإنصاف ليس شأناً تاريخياً يُطوى بمرور الزمن، بل هو التزام أخلاقي وقانوني لا يسقط بالتقادم.
العدالة الانتقالية في سوريا لن تكتمل دون اعتراف رسمي وعلني بما جرى، وضمان تعويض كل من تضرر، وبناء مستقبل قائم على الحق والكرامة.
لا عدالة دون إنصاف، ولا إنصاف دون اعتراف.
من أجل سوريا يتساوى فيها جميع أبنائها، لابد من الاعتراف، والمحاسبة، ورد الحقوق.
24 حزيران/يونيو 2025
رابطة تآزر للضحايا
[1] Jordi Tejel, Syria’s Kurds: History, Politics and Society (New York: Routledge, 2009); Harriet Montgomery, The Kurds of Syria: An Existence Denied (Berlin: EZKS, 2005); and Gary Gambill, “The Kurdish Reawakening in Syria,” Middle East Intelligence Bulletin, vol. 6, no. 4, April 2004.
[2] Human Rights Watch, Syria – The Silenced Kurds, vol. 8, no. 4(E), October 1996, www.hrw.org/reports/1996/Syria.htm;
Refugees International, “Buried Alive: Stateless Kurds in Syria,” February 13, 2006, http://www.refugeesinternational.org/policy/in-depth-report/buried-alive-stateless-kurds-syria
Radwan Ziadeh, United States Institute of Peace, “The Kurds in Syria: Fueling Separatist Movements in the Region?” April 2009, pp. 3-4; and Montgomery, The Kurds of Syria,
[3] للمزيد يمكنك قراءة تقرير (إنكار الوجود: قمع الحقوق السياسية والثقافية للأكراد في سوريا)، هيومن رايتس ووتش، نُشر بتاريخ 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، رابط التقرير: https://www.hrw.org/ar/report/2009/11/26/256004.
[4] عبد الصمد داوود، الحزام العربي في الجزيرة – سوريا، القامشلي- سوريا، من إصدارات حزب يكيتي الكردي في سوريا، (الطبعة الثانية 2015) الصفحة 53.
[5] للمزيد يمكنك قراءة تقرير (سلب الوجود: سياسة “القوننة المقنّعة” كأداة للاستيلاء على الأملاك من قبل الحكومات المتعاقبة على سوريا)، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، 9 تشرين الأول/أكتوبر 2020. رابط التقرير: https://stj-sy.org/ar/%d8%b3%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%88%d8%af-%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%88%d9%86%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d9%86%d9%91%d8%b9%d8%a9-%d9%83%d8%a3/#_ftnref10
المصدر: تــآزر
محمد طلب هلال: دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الإجتماعية، السياسية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=70899