الإثنين 14 تموز 2025

أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة

بوتان زيباري

في أفق الأزمة السورية الدامية، ارتسمت صورةٌ جديدة للمشهد؛ إذ تجاوزت رقعة الصراع حدود الداخل إلى كواليس التفاهمات الدولية والإقليمية، فخلَت الساحة من صدى حضور الكورد وسط جوقة المصالح الكبرى. لم يكن هذا الغياب قسمةً محتومة، بل نتاج ضعفٍ بنيويٍّ في الأداء السياسي، أرّقه انقسام الأجسام الحزبية، وغاب عنه مشروعٌ جامعٌ يليق برهانات الزمن وتحولات الجغرافيا وصيع الحقوق والواجبات.

لقد استُبدل الخطاب الثقافيّ والإداريّ بملفٍّ دوليٍّ مدوّنٍ على طاولات المفاوضات؛ فأضحى تكتُّلٌ بلا تمثيلٍ مشروعٍ، يتوخى إعادة رسم سوريا على مقاس جديد. هنا، يتبدّى جليًا أن المطلب الكورديّ الفعليّ يرنو إلى صياغة رؤية استراتيجية متماسكة، تستند إلى حُجج القانون الدستوريّ والمؤسسات الدولية، وتمنح “التمثيل الاعتباري” ثقله الفاعل في أروقة السياسة العالمية.

وليلة الكونفرانس الكورديّ كانت كلمحة أملٍ لَيِّنة، وظنٌّ جميلٍ بوحدةٍ ممكنة، قبل أن يتبدد هذا الأفق في غياب اللجان التنفيذية الفاعلة، وافتقار الخريطة الزمنية لخطواتٍ واضحةٍ، وغياب قنوات التواصل مع كبريات البعثات والمؤسسات. وبذلك، بات المؤتمر ذكرى رمزية لا تسمن ولا تغني من جوع، تُرَحِّبُ بخيبة أملٍ جديدة، وتزيد وثبة الانقسام سقوفَها على شعور الجماهير.

ثم جاء هَدرُ الساحات الدولية؛ إذ يُعاد ترتيب المشهد السوريّ بأدوات الخارج وحدوده، فتجد القضية الكوردية مُختزَلةً في خانة الشريك التكتيكي لا المؤسس لعقدٍ اجتماعيٍّ جديد. تبقى الأسئلة المدوية على ألسنة الجميع: من يمثل الكورد يومَ الاقتسام؟ ومن يحمي حقوقهم أمام الهيئات العالمية؟ ومن يحرص على مستقبلهم في دمشق المرتقبة؟

وفي مرأى تصريحات المبعوث الأمريكيّ المترددة بين التصعيد والفتور، يتبدى هشاشة ناقلٍ كورديٍّ موثوق، يرفع راية الانتماءِ المؤسَّس، ويمتلك خطابًا عقلانيًّا ومؤسساتٍ صامدة، يُناهض هشاشة التفويض الشعبي والوطني، ويقترن بالفعالية في مصاف المفاوضات.

غير أن ثقل الكورد في البُعد الاستراتيجي ليس خافتًا أو متراجعًا؛ فشرعيتهم العسكرية؛ المُقرة من التحالف الدولي، والثروات النفطية والحبوبية والمائية، وتجربة الإدارة الذاتية، والدعم الشعبي الغامر، كلُّها أوراق قوةٍ تنبضُ بالحياة، وتحتاجُ إلى مؤسسيةٍ اقتصادية ودبلوماسية تُفعلها، فتستعيد لمشروعهم بعده التفاوضيّ الفاعل، وتحقن به شرايين الحضور.

ولتحويل هذه الأوراق إلى واقعٍ تُجلى خطوطه على خارطة العالم، لا بدّ من خمس رياحين تدفع المشروع الكوردي إلى الأمام: هيئةٌ عليا تتحدث باسم الأمة، وحملةٌ دبلوماسيةٌ تضجُّ في برلمانات العواصم، ومجلسٌ اقتصاديٌّ يشرعُ شراكاتٍ مستدامةً، وملفُّ قانونيٌّ يُرفعُ إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومنصة إعلاميةٌ تروّج الرواية الكوردية بلغة العصر.

فيا قيادة السياسة الكوردية، إن الساعة قد حانت للتجليّ، وإلا فمصيركم البقاء في هامش التاريخ، فيما يُعاد رسم خريطة البلاد من جديد. فاختاروا أن تكونوا صانعي اللحظة، لا شهودًا عليها؛ فالفرصة اليوم ليست منتظرةً، بل داعيةٌ لمن يجرؤ على صناعة قدره بنفسه.