أكراد في إقليم كردستان العراق يسعون إلى حفظ تراثهم المكتوب رقمياً
يتميز التراث الكردي بثرائه وتنوعه، ويسعى فريق من الشباب الأكراد إلى حفظ تراثهم المكتوب رقميا كما سعى آخرون من قبلهم لتدوين، معظم هذا التراث الروحي والثقافي الذي بقي للآلاف من السنين شفاهيا. ويهدف الشباب إلى حفظ الكتب القديمة والنادرة والمتهالكة، رقمياً كي لا تندثر، فخلال تاريخهم المليء بالنزاعات فقد الأكراد العديد من المخطوطات والوثائق.
يقلّب ريبين بشتيوان بتأنٍّ صفحات كتاب قديم اصفّرت أوراقه داخل حافلته الصغيرة في إقليم كردستان العراق، ويصوّرها على حاسوبه لحفظها رقمياً في إطار مهمة يقوم بها مع زميلين له لصون المخطوطات الكردية. ويقول الشاب البالغ من العمر 23 عاماً أثناء توقف الحافلة في مدينة دهوك الكردية “هدفنا هو حفظ الكتب القديمة والنادرة والمتهالكة، رقمياً، كي لا تندثر“.
ويضيف الشاب فيما كان ينسخ مذكّرات لأستاذ كردي نشرت في العام 1960 “إنه لعمل مقدّس أن تقوم بحفظ تاريخ وثقافة كردستان“. ويجول بشتيوان مرةً واحدةً في الأسبوع مع زميلين له، بحافلة بيضاء صغيرة من أربيل عاصمة الإقليم المتمتع بحكم ذاتي، إلى مدنه وقراه في شمال العراق. ويأمل هؤلاء إيجاد كتب “قديمة ونادرة” تتضمّن معلومات عن الأكراد وتاريخهم، وتعود إلى قرون من الزمن، وتشمل جميع اللهجات والثقافات الكردية المتنوعة.
في مكتبة دهوك العامة، يبحث فريق الأرشفة بانتباه بين رفوف الكتب الخشبية عن قطعة أدبية أو تاريخية كردية نادرة قد تثير اهتمامهم. واختار الفريق بروية بمساعدة مدير المكتبة، مجموعة من نحو 35 كتاباً من شعر وسياسة ولغة وتاريخ، كتبت باللهجات الكردية المختلفة، وبعضها باللغة العربية. ويحمل بشتيوان بين يديه كتاباً متهالكاً عنوانه “خانزاد” تيمناً بأميرة كردية عاشت في القرن السادس عشر ويضمّ قصصاً من الفولكلور الكردي، ثم يقلّب برفق صفحات كتاب ديني عتيق، لامساً بيديه الكلمات التي كتبت بخطّ عربي.
في الحافلة المزوّدة بجهازي مسح ضوئيين (سكانر)، يجلس الفريق للقيام بالعمل الشاق الذي يمتدّ ساعات في نسخ الكتب التي تم جمعها، قبل أن تُعاد إلى المكتبة. وتعرّض أكراد العراق للاضطهاد والقتل خلال فترة حكم نظام صدام حسين، ولم يحصلوا على الحكم الذاتي إلّا بعد هزيمة العراق في حرب الخليج في العام 1991. وأصبح إقليم كردستان المتمتع بحكم ذاتي ضمن العراق الفدرالي رسمياً في دستور العام 2005 الذي أعدّ في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 والذي أسقط نظام صدام حسين.
◙ البحث متواصل عن قطعة أدبية أو تاريخية كردية نادرة قد تثير الاهتمام
وفقد الأكراد خلال تاريخهم المليء بالنزاعات العديد من المخطوطات والوثائق. أما ما تبقّى فهو موزّع بين المكتبات الخاصة والعامة والجامعات أو في مجموعات خاصة. ولا يوجد في الإقليم مركز خاص لأرشفة الكتب الكردية، لكن مشروع الأرشفة الرقمية هذا تديره منظمة “مركز كردستان للفنون والثقافة” غير الحكومية التي أسسها ابن أخ رئيس إقليم كردستان نجيرفان بارزاني.
وبدأ فريق المركز بالتنقّل من منطقة إلى أخرى منذ يوليو، آملا في نشر هذه الكتب النادرة مجاناً على الموقع الإلكتروني للمركز اعتباراً من أبريل. وتمكّن الفريق من أرشفة 950 كتاباً ووثيقة، من بينها مجموعة مخطوطات تعود إلى القرن التاسع عشر وكانت ملكاً لإمارة بابان الكردية حيث تقع الآن محافظة السليمانية. ويقول المدير التنفيذي لمركز كردستان للفنون والثقافة محمد فاتح إن الهدف هو “توفير مصدر رئيسي للقراء الأكراد والباحثين“.
ويضيف “سيكون هذا الأرشيف ملكاً لجميع الأكراد لاستخدامه، وليكون عاملاً مساعداً في كيفية فهمنا لأنفسنا“. وفي مكتبة دهوك العامة، يغطّي الغبار مجموعة من الوثائق والمخطوطات القديمة على بعض الرفوف، لغياب القدرات الكافية من أجل أرشفتها رقمياً. لذلك، عندما طرح فريق مركز كردستان للفنون والثقافة فكرة أرشفة الكتب إلكترونياً، فتح لهم مدير المكتبة مسعود خالد الأبواب.
وتحتاج بعض المخطوطات إلى موافقة مالكيها الأصليين قبل نسخها وحفظها إلكترونياً. وعندما يحصل خالد على هذه الموافقة، سيعود الفريق إلى دهوك ليستكمل المهمة. ويقول الرجل البالغ من العمر 55 عاماً “لدينا كتب طُبعت قبل وقت طويل، وتوفي مالكوها وكتّابها، ولن تطبع من جديد“. ويضيف خالد أن تحويل هذه الكتب والمخطوطات إلى نسخ إلكترونية “سوف يتيح” في نهاية المطاف “افتتاح مكتبة إلكترونية“.
ويكشف هانا هيراني، وهو إمام مسجد في بلدة هيران، عن كنزٍ لفريق مركز كردستان للفنون والثقافة، يحتوي على مخطوطات تعود إلى قرون كانت موجودةً في مدرسة دينية تأسست في القرن الثامن العشر. وكانت المدرسة تمتلك العديد من المخطوطات، لكن عدداً كبيراً دمّر في الحرب العراقية الكردية الأولى في العام 1961، وفق هيراني. ويضيف أن “20 مخطوطاً فقط نجت حتى يومنا هذا”، من ضمنها قصائد عمرها مئات الأعوام.
وينتظر هيراني حالياً بفارغ الصبر افتتاح الموقع الإلكتروني لمركز كردستان للفنون والثقافة لتصبح هذه المخطوطات النادرة متوفرة للجميع. ويقول “حان الوقت لإخراجها للعلن وأن تصبح متاحة للجميع”. ويعاني التراث الكردي في إقليم كردستان العراق من كونه شفاهيا وغير مدوّن، مما يجعله معرضا للضياع والاندثار. من هذا المنطلق يعمل أخصائيون على جمع وأرشفة هذا التراث، وإعادة تقديمه بشكل عصري. وتعد “جين” مؤسسة كردية غير ربحية، تعنى بجمع الموروث الأدبي الكردي القديم، وحفظه، خصوصًا أنه يأتي بلغات عديدة، كردية وعربية وفارسية وتركية وأوروبية.
ويرى الدكتور رفيق صالح، مدير مؤسسة جين المختصة بالتراث الكردي، أن الدعم الحكومي والقوانين البالية أدَّيا إلى ضياع الكثير من الأعمال الخاصة بكبار شعراء وأدباء الحِقَب الكردية الماضية، كما ساهم في ذلك غياب التشريعات الخاصة في الحفاظ على الموروث الكردي في إقليم كردستان العراق، بالرغم من المطالبات العديدة بتوفيرها. وهذا الغياب كان الدافع إلى قيام مهتمين بهذا المجال من الأكاديميين بإنشاء مؤسسة تحمل اسم صحيفة كردية، أطلقت في تركيا بعنوان “جين“.
◙ الأكراد فقدوا خلال تاريخهم المليء بالنزاعات، العديد من المخطوطات والوثائق، أما ما تبقّى فهو موزّع بين المكتبات الخاصة والعامة والجامعات
وقال الكاتب في موقع “صوت كرستان” بيار روباري: “التراث الكردي ثري للغاية، ولكن للأسف الشديد بقي معظم هذا التراث الروحي والقافي لآلاف السنيين شفاهيا”. وأضاف أن التراث الإنساني الكردي يتميز بقيمه ومفاهيمه ومبادئه الاجتماعية والسلوكية والمعتقدات الدينية والفنية المتوارثة عن الكثير من الشعوب الأخرى. وهذا التميز يعود إلى عدة أسباب منها لغته وتاريخه و طبيعة كردستان الخلابة، ومعتقداته الدينية الخاصة به.
وبحسب روباري، لا يعرف الكثيرون حتى من الأكراد، بأن حماية البيئة واحدة من أهم القيم والمبادئ لديهم منذ ألاف السنين ” بارستنا زينكة”، ولم تكن هناك أحزاب “خضر” في ذلك الوقت، لقد استمد الكرد ذلك من معتقداتهم الدينية وحماية الحيوانات البرية أيضا، إضافة إلى الحفاظ على نقاء الماء والتربة نظرا لأهميته لمعيشة كافة الكائنات الحية بما فيها الإنسان ذاته. ويتابع “قبل مجيء الإسلام إلى كردستان، كانت لدى المجتمع الكردي أندية اجتماعية روادها من الشباب والشابات وكان يسمى “لولتك خانة”، في الوقت الذي لم تكن الشعوب الأوروبية تعرف بعد شيئا اسمه “الديسكو” أي المرقص“.
ويسعى الكثيرون إلى حفظ التراث الكردي ومنهم مثقفون وفنانون. وفي ثمانينات القرن الماضي، قام الفنان، عابدين رشو، بجمع عدد كبير من الأغاني الفلكلورية الإيقاعية الخاصة بالمنطقة وأرشفتها، قبل أن يقوم بتسجيل أول شريط كاسيت ضم 20 أغنية فلكلورية إيقاعية، عام 2000، في ناحية جنديرس. لكن المشروع توقف حينها لأسباب بررها رشو بالخاصة، إلى أن تمكن أولاده من إعادة إطلاق المشروع تحت عنوان (سترانين كرداغي) أي (أغاني كرداغ)، ولكن هذه المرة من مدينة إسطنبول، وبالتعاون مع فنانين ومختصين، وفقاً للمشرف على المشروع، ريناس رشو.
وتمكن القائمون على المشروع الفني من جمع ما يقارب 200 أغنية إيقاعية من تراث عفرين التي تعرف أيضاً بـ (جيايي كرمينج). كما قام المشاركون في المشروع، بتسجيل 23 أغنية بشكل احترافي، تم نشر أغنية واحدة منها بشكل أسبوعي على وسائل التواصل الاجتماعي ويوتيوب منذ انطلاق المشروع، قبل أربعة أشهر.
وقال رشو “هدفنا الرئيسي من هذا المشروع هو أرشفة الأغنية الفلكلورية الإيقاعية بشكل أكاديمي لنحافظ على هذا التراث من الضياع. ففي الفترة الأخيرة وبعد الأحداث التي شهدتها عفرين فإن نسبة 80 في المئة تقريباً من الأرشيف الفني للمنطقة تعرض للاحتراق أو السرقة، لذا رغبنا في أرشفة هذا التراث ليبقى محفوظاً للأجيال المقبلة”.
ويعتمد مشروع (أغاني كرداغ) لجمع الأغاني الفلكلورية على جهود الفنانين التراثيين، كالفنان الراحل جميل هورو، بالإضافة إلى الكتاب وحفظة التراث من كبار السن، إلى جانب فئة أخرى تعرف باسم (الكريف)، ويعتبر أفرادها من حفظة التراث الموسيقي الأساسيين بسبب مشاركتهم المستمرة في إحياء الحفلات الفلكلورية، منذ عشرات السنين. لكن المشروع يواجه بعض الصعوبات والعوائق كما يشرح، المشرف عليه رشو.
وقال رشو “هناك عدة صعوبات تعترض عملنا، وعلى رأسها عدم اجتماعنا في مكان واحد، وهذا يؤخر إعداد الأغاني. لكن هناك مشكلة أخرى أود الإشارة إليها في عملنا وهي أن بعض الناس يحفظون أغانيَ فلكلورية، وهناك أشخاص يحفظون كلمات وألحاناً لكنهم يحتكرونها ويعتبروها من أملاكهم الخاصة.” وتعتبر الأغنية الفلكلورية العفرينية جزءاً رئيسياً من التراث الموسيقي الكردي، فهي تتميز بسهولتها وبساطتها وتتناول في مجملها مواضيع متنوعة كأغاني العشق، والسرديات الحزبية، وكذلك الأغاني الحماسية.
المصدر: العرب اللندنية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=38336