الخميس, نوفمبر 21, 2024

أهداف وسيناريوهات المتغيرات الأخيرة في شمال غربي سوريا

لزكين إبراهيم – باحث في مركز الفرات للدراسات

تشهد مناطق شمال غربي سوريا عامةً ومدينة عفرين خاصةً، أحداثاً ومتغيّراتٍ جديدة، على خلفية الاقتتال بين فصائل “الجيش الوطني السوري” وتدخل “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) المصنفة على قائمة الإرهاب في الصراع، وسيطرتها بشكل سريع على عموم عفرين مع محاولاتها السيطرة على كامل مناطق الفصائل المدعومة من تركيا، وسط صمت من الأخيرة. الأمر الذي بات يثير التساؤلات حيال أسباب وأهداف هذه الأحداث ومنْ يقف خلفها؟ وما تداعيات هذه المتغيرات على مناطق شمال غرب سوريا؟ وما مخاطر هذه المتغيرات القريبة والبعيدة على المنطقة؟

خلال هذه القراءة التحليلية سنجيب على هذه الأسئلة، ونلقي نظرة شاملة على كافة السيناريوهات المحتملة لما بعد سيطرة “الهيئة” على عفرين، واستمرار تمددها في مناطق الفصائل، والخروج في النهاية برؤية حول حقيقة مواقف وأهداف كافة القوى والأطراف المتدخلة في الشأن السوري من هذه المتغيرات.

قبل الخوض في معرفة أسباب وسيناريوهات المتغيّرات الأخيرة، علينا بداية التعرف عل خريطة التشكيلات العسكرية في شمال غرب سوريا، والفصائل المتواجدة فيها، لمعرفة الاصطفافات الجديدة التي خلقها تدخّل “هيئة تحرير الشام” في مناطق سيطرتها.

التشكيلات العسكرية في شمال غربي سوريا

يعود تشكيل “الجيش الوطني السوري” إلى ما قبل عملية الاجتياح التركي لعفرين، في أوائل عام 2018، حيث حاولت تركيا تأسيس قوة عسكرية نظامية عبر توحيد فصائل المعارضة في مناطق ريف حلب الشرقي، والتي كانت مجتمعة تحت اسم “الجيش الوطني السوري”، وبين جماعات مسلحة مدعومة من تركيا في إدلب تجتمع تحت مظلة واحدة تُعرف باسم “جبهة التحرير الوطني”. وفي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 2018، أي قبل خمسة أيام من بدء الهجوم التركي على عفرين، قامت تركيا بضم “الجيش الوطني السوري” مع “جبهة التحرير الوطني” في إدلب، تحت اسم “الجيش الوطني” وذلك تحت قيادة اللواء سليم إدريس، الذي كان أول قائد للجيش السوري الحر في بداية الحرب السورية، وله علاقة وثيقة مع الحكومة التركية.

وكان “الجيش الوطني السوري”، يتألف – قبل الاندماج – من ثلاثة فيالق عسكرية (الفيلق أوّل، الفيلق الثاني، الفيلق الثالث) بقوام 50 ألف مسلح تقريباً، ينتشرون في مناطق عمليات ما تسمى “درع الفرات”، و”غصن الزيتون” بريف حلب، و”نبع السلام” في ريفي الحسكة والرقة، قبل أن تنضم إليه “الجبهة الوطنية للتحرير”، والتي كانت هي الأخرى مؤلفة من 11 فصيلاً من “الجيش السوري الحر” سابقاً في محافظة إدلب.

تشكيلات “الجيش الوطني السوري”:

الفيلق الأول: كان يتألّف من أربع فرق هي:

  • الفرقة 11: تتألف من “لواء الشمال، وجيش الأحفاد”.
  • الفرقة 12: تضم “لواء سمرقند، ولواء المنتصر بالله، وأحرار الشرقية”.
  • الفرقة 13: تضم “لواء السلطان محمد الفاتح، وقاعدة غزل، ولواء الوقاص”.
  • الفرقة 14: تضم “فيلق الشام، والفرقة التاسعة، وجيش النخبة، وجيش الشرقية”.
  • الفرقة 20: انضمت لـ”الفيلق” لاحقاً، وضمت حينها ك الشرقية، الفرقة 20″ما ا.ر الشام التي تدعم الحمزات والعمشاتة تحرير الشام في إدلبقة هيئة تحرير الشام أو طلب الصفح من ل من “فرقة السلطان سليمان شاه” (العمشات)، قبل أن يُعلن قائدها “أبو عمشة” الانفصال عنه والانتقال إلى “الفيلق الثاني”.

الفيلق الثاني: كان يضم فصائل: “فرقة السلطان مراد، وفرقة الحمزة، ولواء صقور الشمال، وفرقة المعتصم، وجيش الإسلام، وفيلق الرحمن”. وانضم إليها فيما بعد “فرقة سليمان شاه” (العمشات) بعد انفصالها عن الفرقة الأولى.

الفيلق الثالث: يتألف “الفيلق الثالث” بقيادة “حسام ياسين” من كتلته الأكبر (الجبهة الشامية)، إضافةً إلى “جيش الإسلام” الذي انضم إليه بعد تهجيره من الغوطة الشرقية في ريف دمشق، و”فيلق المجد”، و”الفرقة 51″، و”فرقة السلطان ملكشاه”، و”لواء السلام” (تجمّع “فاستقم كما أُمرت” سابقاً)، وبحسب مصادر إعلامية معارضة، فإنّ التقسيم العسكري لـ الفيلق الثالث (الجبهة الشامية)، يتوزّع على سبع فرق وهي على الشكل التالي:

الفرقة 31: تضم “لواء عاصفة الشمال، مجموعات صغيرة منها من “حركة أحرار الشام”.

الفرقة 32: تضم “حركة أحرار الشام/ القطاع الشرقي” معظمهم من أبناء مدينة الباب، شرقي حلب.

الفرقة 33: تضم “لواء التوحيد، كتيبة ساجدون، وجميع كتائب بلدتي مارع وتل رفعت شمالي حلب”.

الفرقة 34: تضم “اللواء 51، القوة 55، لواء الفتح- لواء السلام”.

الفرقة 35: “جيش الاسلام”.

الفرقة 36: “لواء المجد”.

الفرقة 37: تضم “لواء السلطان عثمان، فوج المصطفى، الفوج الأول”.

وهذا الفيلق هو الذي تدور حالياً بينه وبين “هيئة تحرير الشام” الاقتتال والصراع في شمال غربي سوريا.

اندماجات وتكتلات جديدة ضمن هيكلية “الجيش الوطني السوري”:

إن استراتيجية الفيالق لم تستطع إذابة ودمج الفصائل ذات الولاءات المتناقضة في هيكليتها، ما أدى إلى توجه معظم فصائل تلك الفيالق إلى إعلان تكتلات واندماجات جديدة فيما بينها، غالبيتها وهميّة؛ لتتخلص من هيكلية المؤسسة العسكرية النظامية ضمن الفيالق، ونتج عنها تشكيلات جديدة هما: “هيئة ثائرون للتحرير، وحركة التحرير والبناء”.

1– هيئة ثائرون للتحرير: بتاريخ 23 كانون الثاني/ يناير 2022، أعلنت كل من “حركة ثائرون” التي تضم 9 فصائل من الجيش الوطني السوري، أبرزها فرقة “السلطان مراد” و”فرقة السلطان سليمان شاه”، الاندماجَ مع “الجبهة السورية للتحرير”، المكوَّنة من فصيلين هما: “فرقة الحمزة”، و”فرقة المعتصم”. وذلك في إطار كيان جديد يحمل اسم “هيئة ثائرون للتحرير”، بقيادة “فهيم عيسى” قائد “السلطان مراد”.

2– حركة التحرير والبناء: شُكّلت “حركة التحرير والبناء” التابعة لـ”الجيش الوطني السوري”، منتصف شهر شباط 2022، من اندماج فصائل “أحرار الشرقية، وجيش الشرقية، والفرقة 20، وصقور الشام (قطاع الشمال)”. وكُلّف قائد “جيش الشرقية” “حسين الحمادي” بالقيادة العامة لـ”حركة التحرير والبناء”، في حين عُيّن قائد “أحرار الشرقية” المعروف بـ”أبو حاتم شقرا”، نائباً له.

لكن في أواخر شهر تموز الماضي، أعلنت “فرقة الحمزة” (الحمزات) بقيادة (سيف بولاد أبو بكر)، وفرقة “السلطان سليمان شاه” (العمشات) بقيادة “محمد الجاسم أبو عمشة” الانسحاب من “هيئة ثائرون”، والعمل وفق المسمّى القديم لهما: “الفيلق الثاني”، قبل أن تُعلن قيادة “الفيلق”، أواخر شهر أيلول الماضي، فصل الفصيلين لكثرة الانتهاكات والجرائم التي باتت تلاحق اسميهما وعدم التزامهما بتعليمات قيادة الهيئة، وباتا الأقرب إلى “هيئة تحرير الشام”، اللذان شاركا مؤخراً بجانب الهيئة في محاربة “الفيلق الثالث”.

الجبهة الوطنية للتحرير” – إدلب

أُعلن عن تشكيل “الجبهة الوطنية للتحرير”، في أيار 2018، وضمّت 11 فصيلاً من “الجيش السوري الحر” سابقاً، وذلك بقيادة “العميد فضل الله الحجي” (قائد فيلق الشام ونائب رئيس الأركان في الجيش الوطني عن منطقة إدلب). وتضم “الجبهة الوطنية للتحرير” فصائل: “فيلق الشام، وجيش إدلب الحر، والفرقة الساحلية الأولى، والجيش الثاني، والفرقة الساحلية الثانية، وجيش النخبة، والفرقة الأولى مشاة، وجيش النصر، ولواء شهداء الإسلام/ داريا، ولواء الحرية، والفرقة 23”.

وعليه، أصبحت فصائل “الجيش الوطني السوري” موزَّعة بين 4 كتل رئيسية وهي: “الفيلق الثالث، وهيئة ثائرون للتحرير، وحركة التحرير والبناء، والجبهة الوطنية للتحرير”.

الاصطفافات الجديدة بعد الاقتتال الأخير وتدخل “هيئة تحرير الشام”

ينقسم شمال غربي سوريا – الخارج عن سيطرة النظام السوري منذ سنوات – إلى منطقتين، الأولى هي ريف حلب، وتضم منطقة واسعة من عفرين، وصولاً إلى جرابلس والباب شرقاً. وهذه المنطقة تخضع لسيطرة تحالف “الجيش الوطني”، الذي تدعمه تركيا، أما المنطقة الثانية فهي محافظة إدلب، التي أحكمت “هيئة تحرير الشام” السيطرة عليها بالكامل، بعد سلسلة صدامات مسلحة مع باقي التشكيلات العسكرية الصغيرة، التي كانت تنتشر في المنطقة هناك. وما بين هاتين المنطقتين هناك اختلاف في الإدارة والتنظيم العسكري، وأيضاً على الصعيد الاقتصادي، وتوجد حدود ومعابر داخلية، تتمركز – بشكل أساسي – على حدود منطقة عفرين الفاصلة بين المنطقتين. ليغدو المشهد وكأن الشمال السوري مقسم ضمن “دولتين”.

ولكن مع اتساع رقعة الاقتتال بين فصائل “الجيش الوطني السوري” في ريف حلب، الذي بدأ بسيطرة “الفيلق الثالث” على مقار “فرقة الحمزة”، عقب ثبوت تورّط “الفرقة” بعملية اغتيال “الناشط محمد عبد اللطيف” (أبو غنوم) وزوجته الحامل في مدينة الباب. توسع الاقتتال إلى منطقة عفرين، وذلك عقب دخول “هيئة تحرير الشام” إلى جانب “الحمزات”، التي تسيطر على بلدات وقرى في عفرين قريبة من مناطق سيطرة “الهيئة” في إدلب وريف حلب الغربي. ومع دخول “هيئة تحرير الشام” على خط الاقتتال طفت الحالة الفصائلية في الجيش مجدّداً، لدرجةِ لم يعد المراقبون لواقع الاقتتال الجديد يعرفون مَنْ يقاتل مَنْ، ومَنْ يُحالف مَنْ؟ إلا أن الصورة توضحت بعض الشيء بعد سيطرة “الهيئة” على كامل عفرين، وسط صمت من الجانب التركي. ليفرز الاقتتال الفصائلي بين “الفيلق الثالث” و”فرقة الحمزة” عمليات اصطفاف جديدة، تمثلت في معسكرين رئيسيين هما:

المعسكر الأول: إذ دخل فصيل “فرقة سليمان شاه” (العمشات) الاقتتال إلى جانب “الحمزة”، بعد دخول “هيئة تحرير الشام” على خط المواجهة ضد “الفيلق الثالث”. كما انضمت “الفرقة 32″، التي تعرف باسم “أحرار الشام القطاع الشرقي” إلى هذا الحلف، إضافة إلى انضمام “هيئة ثائرون للتحرير” بشكل غير معلن، وهي ثاني أكبر تجمع عسكري في “الجيش الوطني” بعد “الفيلق الثالث”.

المعسكر الثاني: أمام هذه التطورات، دخلت “حركة التحرير والبناء” (فصائل المناطق الشرقية) على خط المواجهة أيضاً، بالوقوف إلى جانب “الفيلق الثالث” ضد تقدّم “هيئة تحرير الشام” في ريف عفرين.

مع هذه الاصطفافات الجديدة، وبدخول “هيئة تحرير الشام” إلى مناطق فصائل “الجيش الوطني”، أصبحت الأخيرة مجرد هيكل شكلي خاوي، لا يمكنه ضبط الكتل والفصائل ضمن هيكليته، ويمكن اعتبار هذه الأحداث الأخيرة ضربة قاصمة لهيكلية “الجيش الوطني”، وبعثرة فصائله، والتمهيد لتشكيل هياكل عسكرية جديدة بولاءات جديدة، تكون هذه المرة – بشكل مباشر أو غير مباشر – لصالح “هيئة تحرير الشام” المتحكمة في هيكلياتها وتحركاتها. وهذا يفتح الباب أمام التساؤل حول دور تركيا، ورؤيتها وأهدافها الاستراتيجية من السماح لـ”هيئة تحرير الشام” في إحداث هذه المتغيرات في هيكلية “الجيش الوطني” ومناطق سيطرة فصائله؟

هل هذه المتغيرات تجري بمخطط تركي؟

إن تمكُّن هيئة تحرير الشام بسرعة قياسية من السيطرة على مدينة عفرين، وانتزاعها من فصائل مدعومة بشكل علني من تركيا، وسط صمت الأخيرة، رجّحت أن تكون كل هذه الاحداث تجري بتخطيط وإيعاز تركي، وهناك العديد من المعطيات الأخرى التي تشير إلى أن تركيا هي من خططت لهذه التطورات، ومنها:

أولاً- إن “هيئة تحرير الشام” لا يمكن أن تدخل مناطق نفوذ الجيش التركي، من دون ضوء أخضر منها. واللافت أن دخول الهيئة إلى عفرين ومحيطها كانت متسارعة، حيث تتم بطريقة الاستلام والتسليم، والدخول والخروج من دون مواجهات تذكر، ما يعني أن فصائل “الفيلق الثالث” قد تلقت تعليمات من الجانب التركي بعدم التصادم مع الهيئة في عفرين.

ثانياً- بعد سيطرة “الهيئة” على كامل عفرين، دخلت المدرعات التركية إلى المدينة، وجالت في شوارعها في ظل انتشار مسلحي “تحرير الشام” بشكل مكثف فيها، كما انتشرت القوات الخاصة التركية بحواجز مشتركة مع مسلحي “الهيئة” عند مداخل المدينة، ما يؤكد على وجود تنسيق مسبق بين الجانبين.

ثالثاً- كانت وكالة الأنباء الألمانية قد نقلت بتاريخ 13 أكتوبر الجاري، أي قبل يوم واحد من تحرك “هيئة تحرير الشام” صوب عفرين، عن مصدر في المعارضة السورية “أن وفد عسكري تركي، برئاسة نائب وزير الداخلية إسماعيل تشاتاكلي ووالي مدينة غازي عنتاب، وضباط من المخابرات العسكرية التركية، زاروا بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول مدينة أعزاز وبلدة الراعي، والتقوا بقادة الفصائل في مناطق ريف حلب الشرقي”. وأكد المصدر “أن ما جرى، تم الاتفاق عليه خلال هذا الاجتماع الأمني؛ أي أن تركيا أوعزت لفصائل الجيش الوطني سحب قواتها من عفرين وريفها”.

وهذا بالفعل ما حصل، حيث تحركت “الهيئة” صوب عفرين بعد يوم من ذاك الاجتماع في اعزاز، وسيطرت على عفرين خلال 24 ساعة بدون مقاومة، وانسحب فصيل “جيش الإسلام” و”الجبهة الشامية” من مدينة عفرين، وتوجهوا إلى مدينة أعزاز، فيما بقيت “الشرطة المدنية والعسكرية” في مقراتها، ولم تتعرض لأي هجمات من قِبل “هيئة تحرير الشام”.

رابعاً- بعد دخول “هيئة تحرير الشام” لعفرين، نشرت “الحكومة السورية المؤقتة”، تسجيلاً مصوراً، ظهر فيه “الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع في الحكومة”، يقول فيه: “إن مدينة عفرين خالية من الفصائل والأمان عاد إليها”. فيما قال “رئيس الحكومة السورية المؤقتة” عبد الرحمن مصطفى: “إن مؤسساتها لاتزال تعمل في عفرين”. وبتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري زار “عبد الرحمن مصطفى” برفقة وفد من “الحكومة” مدينة عفرين، الأمر الذي يبدو بمثابة رسالة سياسية للتأكيد بأن الحكومة المؤقتة لاتزال قائمة في المنطقة رغم دخول “هيئة تحرير الشام”، ولكن في المقابل، فإن تحركات وتصريحات الحكومة المؤقتة بكل هذه الراحة في عفرين يكشف بأنهم على علم مسبق بالمخطط التركي، وبالتالي يتحركون وكأنه لم يتغير عليهم شيء.

خامساً- إن بنود اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه بين “هيئة تحرير الشام” و”الفيلق الثالث” كشفت – دون شك – بأن تركيا هي من رتبت لكل هذه المتغيرات، والاتفاق الذي نص على إنهاء القتال بين الطرفين، لم يكن سوى سحب للمظاهر العسكرية المُسلحة من عفرين، وعودة بعض الفصائل لمقراتها شكلياً دون أن يكون لها دور في الهيمنة على المنطقة. في المقابل، يُلاحظ أن “الهيئة” انسحبت عسكرياً فقط من عفرين، لكنها أبقت على وجودها الأمني والإداري، بموجب الاتفاق مع “الفيلق الثالث”، حيث لُوحظ وجود عناصر أمنية تابعة لـ”الهيئة” على الحواجز ضمن مدينة عفرين. وبطبيعة الحال، لا يمكن لـ”الفيلق الثالث” أو أي فصيل آخر ضمن “الجيش الوطني” إبرام اتفاقات عسكرية أو إدارية مع أي طرف في المناطق التي تحتلها تركيا بدون موافقة الأخيرة.

أهداف تركيا من إحداث هذه المتغيرات

إن “هيئة تحرير الشام” ما كان لها أن تحقق هذا التقدم والتوسع السريع، لو لم يكن لصالح أنقرة، ولكن ما هي أهداف تركيا من دفع “الهيئة” المصنفة على لوائح الإرهاب للسيطرة على مناطق فصائل “الجيش الوطني”؟.

يمكننا من خلال النظر إلى المعطيات الأخيرة، والمتغيرات التي تشهدها سياسات حكومة “العدالة والتنمية” استنتاج بعض الأهداف والسيناريوهات المحتملة، ومنها:

السيناريو الأول: إن كانت هذه المتغيرات متعلقة بمساع الحكومة التركية الأخيرة، والمتعلقة بإجراء المصالحة مع النظام السوري، فيحتمل الموضوع أن يكون لتركيا عدة أهداف منها:

  • إضعاف وتفكيك بعض فصائل “الجيش الوطني” الرافضين للمصالحة، وتأديبهم بيد “هيئة تحرير الشام”.
  • دفع “هيئة تحرير الشام” – التي هي امتداد لـ”تنظيم القاعدة” – للسيطرة على مناطق خارج إدلب، كان لتسهيل إبرام الصفقات عليها، في ظل التفاهمات التي تجري بين تركيا وروسيا، لتسليم مناطق سيطرة الفصائل إلى النظام، بحجة سيطرة تنظيم إرهابي عليها كمرحلة أولى، قبل تسليم إدلب ذات الملف الأكثر تعقيداً. وبهذه الصورة ستتمكن تركيا من التهرب من حماية مناطق الفصائل التي تسيطر “الهيئة” عليها، بحجة أنه تنظيم إرهابي، ولن تتدخل للدفاع عنها. كما سيساعد ذلك تركيا في حال اتفقت مع النظام على الانسحاب من سوريا مستقبلاً على سحب قواتها بحجة أن تلك المناطق لم تعد تحت سيطرة المعارضة و”الجيش الوطني”.

السيناريو الثاني: في حال لم تكن تلك المتغيرات هي بهدف التصالح مع النظام، ومتعلقة بمستقبل الحل السياسي في سوريا، فإن ذلك يفرض على تركيا إعادة محاولات توحيد الإدارة المدنية في عموم شمال غربي سوريا. وسابقاً حاولت كل من تركيا وقطر تطبيق تلك الخطوة في عموم مناطق شمال غربي سوريا، تشمل مناطق إدلب، وشمال وغربي حلب، لكنها اصطدمت باعتراض عدة مكونات في “الجيش الوطني”؛ خوفاً من هيمنة “هيئة تحرير الشام” وحكومتها “الإنقاذ”، ويبدو أن الوقت بات متاحاً لفرض مشروع الإدارة المدنية بـ “القوة”، بعد تعذّر جميع الطروحات المقدمة مسبقاً لتوحيد فصائل الجيش الوطني بشكل صحيح، ويبدو أن لـ “تحرير الشام” دوراً بارزاً في فرض تنفيذ هذا المشروع، بضوء أخضر من جهات دولية، وهذا ما يفسر عدم التحرك التركي لمنع توغل “تحرير الشام” في مدينة عفرين.

ووفق هذا السيناريو، فإن توحيد كامل للإدارة المدنية سيقوم بدايةً بأن يكون للحكومة المؤقتة – حالياً- دورٌ في الواجهة، في إدارة مناطق عفرين وشمال حلب، لكن ستجري في الحقيقة تحت إشراف مؤسسات تتبع لـ “هيئة تحرير الشام”، ولاحقاً يمكن الاتفاق على دمج “الإنقاذ والمؤقتة” في كيان واحد. كذلك توحيد الجهاز الأمني في المنطقة، والعمل على إنهاء حالة الشرذمة الأمنية في عموم المنطقة. ويبدو أن هذا التوجه، بات ضرورة لمواكبة المعطيات والمتغيرات السياسية الجديدة دولياً، والتي تمهد لمرحلة تفاوضية مع النظام، حيث قد يكون هناك فرض حل دولي تشاركي بين النظام وقوى المعارضة، وهذا يحتم وجود كيان وإدارة واحدة على الأرض ضمن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ليكون لها ثقل في الحل المستقبلي. وبهذه الصورة ستفرض تركيا “هيئة تحرير الشام” وحكومتها المدنية كجزء من سوريا المستقبل.

وبموجب ما سبق، يمكن أن تكون هناك أيضاً رغبة من تركيا لتعويم “هيئة تحرير الشام” وتقديمها أمام المجتمع الدولي كقوة محلية منضبطة قادرة على تحقيق الاستقرار العسكري والأمني، وتحسين الواقع الخدمي في مناطق سيطرتها، ويبدو أن سماح تركيا “للهيئة” التحرك بهذا الشكل السريع، هي للفت الأنظار إلى قوة هذا التنظيم في مرحلة أولى، والمطالبة بإخراجه من لوائح الإرهاب في مرحلة ثانية. وما يرجّح هذا السيناريو، أن الهيئة نشرت فور سيطرتها على عفرين بياناً على أحد معرفاتها في منصة «تلغرام»، أرسلت من خلاله رسائل تطمين للمواطنين بمختلف انتماءاتهم العرقية، وقالت فيه: إن (تحرير الشام) تؤكد أن الأهالي العرب والكرد من أصل البلد أو المهجرين محل اهتمامنا وتقديرنا، ونحذّرهم من الاستماع لأصحاب المصالح الفصائلية، سواءً بتخويفهم أو ترويعهم، ونخص بالذكر الإخوة الأكراد؛ فهم أهل تلك المناطق، وواجبنا حمايتهم، وتقديم الخدمات لهم”. وهذا دليل بأن تركيا تحاول تقديم “الهيئة” كجماعة معتدلة، تحمي كافة المكونات والإثنيات (هذا يذكّرنا بافتتاح الجولاني -مؤخراً- الكنائس في مناطق سيطرته بإدلب) ويمكنها أن تصبح بديلاً عن الفصائل التي تراكمت ملفات انتهاكاتها وجرائمها في شمال سوريا عامة وعفرين بشكل خاص، أمام المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة، وبالتالي فإن تركيا ترغب في التخلص من تلك الفصائل وحلّهم، حتى إذا جاء يوم وفُتِحت ملفات محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والانتهاكات في سوريا، لن يجد المجتمع الدولي تلك الفصائل لمحاسبتهم، وبهذا الصورة تتخلص تركيا من عبء ملفات الجرائم التي أُرتكبت أساسا تحت اشراف تركيا واستخباراتها.

وهذا أيضا يقودنا إلى مراهنة تركيا على “هيئة تحرير الشام”، التي أظهرت قدرة كبيرة من ناحية التنظيم أو الشراسة في القتال، لتحقيق أهدافها في سوريا. وفي الوقت الراهن تحاول تركيا المراهنة على الهيئة وأجهزتها الأمنية وحكومتها المدنية “الإنقاذ”، لتحقيق الاستقرار العسكري والأمني والإداري في المنطقة، إذ لطالما فشلت فصائل “الجيش الوطني” و”الحكومة السورية المؤقتة” والمؤسسات الأخرى على مدار السنوات الماضية، في ضبط وإرساء الأمن. وبذلك تهدف تركيا لتمرير مشروع أروغان بإعادة مليون لاجئ إلى سوريا، والادعاء أمام الرأي العام بأن المنطقة أصبحت آمنة، وما يرجّح هذا السيناريو أن المناطق التي تحاول “الهيئة” السيطرة عليها، والممتد من إدلب مروراً بعفرين واعزاز وجرابلس، هي نفس المناطق التي أنشأت تركيا فيها التجمعات السكنية والمستوطنات.

السيناريو الثالث: إن موافقة تركيا على تقدم “الهيئة” في مناطق ما تسمى “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، هي من أجل الوصول إلى هدف محدد؛ وهو خلق إدارة مركزية لشمال غرب سوريا، تكون بيد قوة واحدة تتسلم المنطقة وتدير المعابر، سواء الرابطة بين مناطق الإدارة الذاتية، أو النظام السوري، أو الحدودية مع تركيا، وإغلاق جميع معابر التهريب مع مناطق النظام والإدارة الذاتية، يليها اتفاق على إدارة موحدة لجميع المعابر في مناطق إدلب وحلب، وربطها بمكتب اقتصادي موحّد للجميع، بحيث يكون لـ”هيئة تحرير الشام” الدور الريادي في إدارتها، تحت إشراف الاستخبارات التركية. وذلك لترتيب المنطقة بما يتناسب مع توجهات أنقرة للمرحلة المقبلة، بحيث تستطيع الأخيرة الإيفاء بالتزاماتها البينية والدولية بدقة، وإن هيمنة إدارة مركزية موحدة تحت إشراف الاستخبارات التركية على هذه المعابر، ستساعد تركيا على الاستحواذ على كامل واردات تلك المعابر التي كانت تذهب لجيوب قادة الفصائل الذين باتوا يعتمدون عليها في تمويل أنفسهم وعدم الاعتماد على الرواتب التي توزعها تركيا عليهم. وترى تركيا أن هذا الاستقلال المالي بات يدفع الفصائل للخروج عن العباءة التركية، لذا ستتمكن “الهيئة” – ومن خلفها تركيا – من السيطرة على كافة المعابر، وحرمان تلك الفصائل من مواردها، وبالتالي إجبارهم على الرضوخ لأوامر تركيا، والانحلال مستقبلاً ضمن التشكيلات العسكرية التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، باعتبارها ستكون المتحكمة في الموارد الاقتصادية للمنطقة، ومسؤولة عن توزيع الرواتب.

ووفق هذا السيناريو، فإنه في حال عجزت تركيا عن الحصول على ضوء أخضر روسي أو أميركي لشن عمليات عسكرية جديدة على مناطق الإدارة الذاتية؛ فإنها قد تلجأ هذه المرة وعبر خلق إدارة مركزية لمناطق شمال غرب سوريا، ودمج حكومتي “الإنقاذ والمؤقتة”، إلى التوسط لدى أميركا والغرب لمنح تلك الإدارة الشرعية (التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام)، سواءً بشكل رسمي أو غير رسمي، وبالتالي السعي لفتح المعابر مع الإدارة الذاتية، وإرسال الشركات التركية الخاصة للاستثمار في تلك المنطقة مقابل التخلي عن عمليات عسكرية ضد مناطق قوات سوريا الديمقراطية، وهذا الأمر كانت أميركا قد طرحته على تركيا في وقت سابق بعد إعلان أميركا بداية العام الجاري استثناء مناطق شمال شرق سوريا وبعض مناطق سيطرة تركيا من عقوبات “قيصر”، وقد تدعم أميركا هذا التوجه لأنه سينهي التهديدات التركية المباشرة لمناطق الإدارة الذاتية، ودفع الأخيرة وتركيا على التبادل الاقتصادي، مقابل خنقهما للنظام السوري اقتصادياً.

السيناريو الرابع: وهو متعلق بالوضع داخل تركيا، المقبلة على انتخابات رئاسية لعام 2023، حيث يمكن فهم دفع حكومة “العدالة والتنمية” “هيئة تحرير الشام” للهيمنة على شمال غربي سوريا وعلى طول الحدود مع تركيا، بأنها تهدف لإفشال مخطط المعارضة التركية، التي تتعهد للشارع التركي بأنها – في حال استلمت الحكم – ستعيد العلاقات مع دمشق، وتعيد اللاجئين السوريين إلى سوريا. حينها من الممكن أن تتخذ المعارضة التركية قرار الانسحاب العسكري من سوريا، ولكن مع وجود تنظيم كـ”هيئة تحرير الشام”، فإن المعارضة التركية ستحسب حساب ردة فعل هذا التنظيم الإرهابي، في حال سحبت القوات التركية من إدلب وشمال سوريا، وتركهم تحت رحمة روسيا والنظام السوري، لأن تركيا حينها ستصبح أحد أهداف تلك التنظيمات، التي تمتلك شبكات واسعة من الخلايا داخل تركيا، وبوجود العلاقات المتينة بينها وبين حكومة “العدالة والتنمية”، سيسهل عليها اختراق تركيا وتنفيذ العمليات الإرهابية فيها، وبذلك سيتهم حزب العدالة والتنمية المعارضة بأنها غير قادرة على حماية الأمن القومي التركي، وتحرض الشارع التركي ضد المعارضة.

الموقف الروسي

يبدو أن الموقف الروسي حيال المتغيرات الأخيرة غامضٌ بعض الشيء، إلا أن شنّ الطيران الحربي الروسي، في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، غارات استهدفت مواقع لـ”الجيش الوطني” في ريف منطقة عفرين، وذلك بعد ساعات من التوصل إلى اتفاق بين “الفيلق الثالث” مع “هيئة تحرير الشام” في الشمال السوري، هي بمثابة رسائل روسية لتركيا والفصائل السورية من تمكين “الهيئة” للهيمنة على مناطق سيطرتها.

لكن تمدد “الهيئة” وابتلاعها لفصائل المعارضة ومناطق سيطرتها، ربما يصب في مصلحة روسيا والنظام السوري، باعتبار أن “الهيئة” تنظيم مصنّف على لوائح الإرهاب، وهذا سيقوي حجة روسيا والنظام في حال قررا شن العمليات العسكرية على مناطق تسيطر عليها “الهيئة” بحجة أنها تحارب تنظيماً إرهابياً، بالإضافة إلى أن “الهيئة” بهذا التمدد ستضعف وتقضي على العديد من فصائل “الجيش الوطني السوري”.

لذا قد تقف روسيا موقف المتفرج – حالياً – مع استغلال الظروف لإلحاق عدة ضربات بتلك الفصائل التي تسعى تركيا و”الهيئة” لتصفيتهم، والانتظار لحين تمكن “الهيئة” من السيطرة على المنطقة، ومن ثم إيضاح موقفها الذي سيكون في الغالب ضد تمدد “تحرير الشام”.

الموقف الأميركي

إن أميركا المنشغلة بصراعاتها مع روسيا والصين لم تعد سوريا على سلم أولوياتها، ورغم إن حكومة بايدن أعلنت مؤخراً تمديد حالة الطوارئ في سوريا، وإبقاء قواتها في سوريا لمواجهة التهديدات التي لاتزال تشكلها خلايا “داعش” والتهديدات التركية على المنطقة، إلا أنّها تدخل أيضاً في إطار مواجهة النفوذ الروسي في سوريا.

أما موقفها من المتغيرات الأخيرة، وتمدد “هيئة تحرير الشام”، فإن هناك تناقض واضح بين بياناتها وتحركاتها على الأرض تجاه “هيئة تحرير الشام”، مما يثير الشكوك حول موافقتها “الضمنية” لتمدد “هيئة تحرير الشام”، رغم أن السفارة الأميركية في دمشق أصدرت الثلاثاء 18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بياناً تقول فيه: “نشعر ببالغ القلق من التوغل الأخير لهيئة تحرير الشام، وهي منظمة مصنفة إرهابية، في شمال حلب، يجب سحب قوات هيئة تحرير الشام من المنطقة على الفور”. وهذا البيان مؤشر بأن أميركا رغم تنبيهها من خطر تمدد “الهيئة” شمال حلب، إلا أنها راضية عن بقاء “الهيئة” في إدلب، ودعوتها سحب قواتها من مناطق سيطرة الفصائل، لا يلغي موافقتها “الضمنية” على الهيمنة الضمنية “للهيئة” على المنطقة، والدليل أنه في وقت تشن طائرات التحالف الدولي -كل فترة- هجمات ضد قادة لتنظيمي “داعش” و”حراس الدين” في مناطق سيطرة الاحتلال التركي و”هيئة تحرير الشام”، في المقابل يتحرك الجولاني وقادة “الهيئة” وقواتها بكل حرية في المنطقة ويفتتحون كليات عسكرية تحت أعين أميركا، دون أن تستهدفهم، وهذا يعني أن بقاء “الهيئة” على لوائح الإرهاب هي بقاءٌ شكلي، أو أنها ورقة ضغط بيد أميركا لإجبار الجولاني على تقديم الطاعة لها وللغرب، والتعاون الاستخباراتي مع التحالف ضد قادة داعش.

موقف قوات سوريا الديمقراطية

حذّرت قوات سوريا الديمقراطية في 25 من أيار/مايو من العام الحالي، من مخطط جديد لتركيا حول تحركات بعض الفصائل الموالية لتركيا، وإعادة تمركز بعضها الآخر، وذلك في إطار ما وصفتها بأنها “الخطط التركية لإنشاء حزام أسود من العناصر الإرهابية في خطوط التماس”.

وحينها أشار المركز الإعلامي لقسد إلى أن التوزع الجديد، وخاصة لفصيلي “حراس الدين”، و”هيئة تحرير الشام” (الفرع السوري لتنظيم القاعدة)، يبدأ من ريف عفرين الجنوبي، وصولاً إلى محاور منبج وريف كوباني الغربي، وذلك لاستخدامهم “في أي عدوان محتمل”. وإن الأحداث الأخيرة وسيطرة “الهيئة” على عفرين، ومساع تمددها صوب اعزاز والباب وجرابلس، تؤيد حقيقة ما حذرت منه “قسد”.

ويبدو أن الهدف التركي من تبديل تلك التنظيمات الإرهابية بفصائل “الجيش الوطني” على خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية، هو إعادة وضع عناصر “داعش” المتواجدين في شمال غرب سوريا، والذين كانوا قد فروا من شمال شرق سوريا بعد “معركة الباغوز”، وانضموا إلى “حراس الدين” و”هيئة تحرير الشام”، في مواجهة قسد مرة أخرى، وذلك بعد عجز تركيا – مؤخراً- عن إقناع روسيا وأميركا بشن عمليات عسكرية جديدة مع فصائل “الجيش الوطني” ضد قسد. وبهذه الصورة الجديدة ستخلق تركيا نقاط تماس ساخنة مع قسد، باعتبار أن عناصر “داعش” هم أكثر عداءً لقسد، ولديهم دوافع أكبر من “الجيش الوطني” في محاربتها، حيث أن قسد هي من قضت على “دولة الخلافة” المزعومة لـ”داعش”، وكذلك هناك الآلاف من عوائل “داعش” ومحتجزيها في مخيمات وسجون شمال وشرق سوريا، وستحاول (داعش) انتهاز أي فرصة لإخراجهم.

ولكن، احتمالية شن “هيئة تحرير الشام” باسمها الصريح الهجمات ضد قسد مستبعدة على المدى القريب، لأن “الهيئة” الباحثة عن شرعية واعتراف دولي لن تغامر في شن عمليات عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي، أولاً لخشيتها أن يساند التحالف قسد في مواجهة “الهيئة”، وثانية لأن تركيا لن تتمكن من التدخل المباشر أو مساندة “الهيئة” بسلاح الجو؛ لأن ذلك سيعتبر دعماً تركياً مباشراً لتنظيم إرهابي.

نتيجة وتنبيه لمخاطر

يبدو أنه من بين أحد أهداف تركيا الاستراتيجية من تصفية بعض الفصائل، وتذويب بعضها ضمن “هيئة تحرير الشام” أو “الشرطة المدنية”، هو التخلص من إرث الجرائم والانتهاكات الكبيرة التي ارتكبتها تلك الفصائل المدعومة من تركيا، وذلك في محاولة تركيا الإفلات من المحاسبة في حال حدوث أي حل سياسي لسوريا، وطالبت المحاكم الدولية بمحاسبة مجرمي الحرب في سوريا.

من الواضح إن تركيا تهدف من وراء دفع “تحرير الشام” لتهيئة الظروف الأمنية والإدارية والخدمية في شمال غرب سوريا، إلى رسم خطة إعادة اللاجئين إلى سوريا، وتوطينهم في تجمعات سكنية، وخاصة في المناطق الحدودية وذات الغالبية الكردية، هي لخلق واقع جديد من خلال تغيير في التركيبة الديمغرافية لتلك المناطق، وإنشاء أحزمة ديمغرافية خالية من المكون الكردي، واستبدالهم بالتركمان والعرب والجماعات الموالية لتركيا. ومن مخاطر هذا المخطط التركي أنها تسعى لترسيخ تهجير دائم للسوريين (كأهالي دمشق، وحمص، وحماه، وحلب، وغيرهم) عن مناطقهم الأصلية التي ينحدرون منها، لصالح توطينهم على شريط حدودي، وما يؤكد ذلك، هو الإحاطة الجديدة حول “مشروع العودة” التي حصل عليها موقع “الحرة” من رئاسة الهجرة التركية في أكتوبر/تشرين الأول الجاري والذي يقول: “سيتمكن السوريون الذين عادوا طواعية واستقروا في هذه المنازل من أن يصبحوا أصحابها الحقيقيين، بشرط أن يقيموا فيها لمدة عشر سنوات”. وهي نقطة لم يسبق وأن تم التطرق إليها في وقت سابق، ما يشير إلى الهدف التركي الاستراتيجي من بناء هذه المستوطنات.

وما يثير المخاوف من مستقبل تلك التجمعات والأجيال التي ستعيش فيها، أن ما تسمى جمعية “الأيادي البيضاء التركية” تفتح فيها مدارس باسم “الإمام الخطيب” وهي مؤسسة رسمية للتعليم الثانوي في تركيا (والتعليم الإعدادي)، تعمل على تخريج أئمة وموظفين حكوميين للعمل في المساجد والإدارات الدينية، وهي امتداد للتعليم الديني في دولة “الخلافة العثمانية”. أي أن الأجيال التي ستتخرج من هذه المدارس برعاية “الإمام الخطيب” وتحت إشراف “هيئة تحرير الشام”، ستخرج أجيالاً مشبعة بالفكر المتطرف، وفي الوقت نفسه، يدين بالولاء لتركيا و”الحلم العثماني”، وهذا سيشكل خطراً جديداً على سوريا والدول الإقليمية.

كما إن الأطفال السوريين الذين سيُكملون تعليمهم في المدارس التي تم بناؤها داخل القرى السكنية، بمنهاج تركي وسيحصلون على شهادة تركيّة أيضاً، فهؤلاء سيشعرون بالانتماء إلى تركيا أكثر من انتمائهم لوطنهم سوريا أو لمجتمعاتهم، وبالتالي سيشكلون نواة لسياسات تتريك الشمال السوري، وفي نهاية المطاف، ستعمل تركيا لاقتطاع تلك الأجزاء من سوريا وضمها لتركيا بعد أن تطالب بإجراء استفتاء شعبي فيها لمعرفة رغبة القاطنين فيها للانضمام إلى تركيا أو سوريا، وذلك في تكرار لسيناريو “لواء اسكندرون”. وما يؤكد هذا الهدف لتركيا، أنها تستخرج بطاقات تعريفية شخصية لآلاف المستوطنين الوافدين إلى تلك المستوطنات، وربطها بالسجلات المدنية للولايات التركية، وبهذه الصورة ستصبح شمال غربي سوريا – مستقبلاً – ولاية سنية متشددة تابعة لتركيا.

وما قد يزيد المخاطر، في حال استمرت “هيئة تحرير الشام” في السيطرة على مناطق عفرين واعزاز وباقي المناطق التي تضم تلك التجمعات السكنية، دون تحرك فعلي من قِبل أميركا أو روسيا، أن الإدارة المدنية أو التشكيلات العسكرية الجديدة التي قد تشكلها تركيا تحت إشراف “تحرير الشام” ستصبح أمراً واقعاً، وتكون بديلاً عن المعارضة في مستقبل سوريا. وبما أن تركيا تحاول إنشاء إقليم سني على طول حدودها مع سوريا تديرها جماعات إسلامية متشددة، وبتكديس تركيا ملايين السوريين في هذا الإقليم؛ سيحقق عدة أهداف استراتيجية، الأول فرض هذا الإقليم كأمر واقع على مستقبل سوريا، الثاني تحويل هذه المنطقة المكتظة بالسكان والمستوطنات إلى مفرخة للإرهابيين والمرتزقة الموالين لتركيا لاستخدامهم في حروبها الخارجية.

إن كانت هذه المتغيرات جرت بتوافق روسي تركي، فإن هناك احتمال أن تشن “الهيئة” والفصائل التي انضمت إلى تحالفها هجوماً على تل رفعت، لتشتيت الآلاف من أهالي عفرين القاطنين فيها وفي المخيمات بمنطقة الشهباء، مقابل تقديم مناطق بريف إدلب للنظام السوري.

إن سيطرة “هيئة تحرير الشام” على مناطق فصائل “الجيش الوطني” سيجعل “الائتلاف الوطني المعارض” بلا وزن أو معنى في المحافل الدولية، لأنها كانت تعتبر نفسها الجناح السياسي لفصائل “الجيش الوطني” التي تسيطر على مناطق في شمال غربي سوريا، وعلى هذا الأساس كانت تتفاوض مع النظام السوري، وتدّعي أنها الممثل الشرعي للمعارضة السورية، ولكن بخسارتها للجغرافيا لصالح “الهيئة”، فلن يبقى بيدها أي أوراق تتفاوض فيها مع النظام، أو أن تشارك في اجتماعات تخص مستقبل سوريا، لأن القوة الفعليّة على الأرض باتت بيد “هيئة تحرير الشام”، ويبدو أن “الائتلاف” بكافة تشكيلاته بات يشعر بمدى خطورة هذه التغيرات عليهم، لذا ومن خلال تتبع بيانات وتصريحات أعضاء الائتلاف الرافضين لسيطرة “هيئة تحرير الشام” على عفرين فأنهم أدركوا حجم خيبتهم بحليفهم التركي، الذي استبدلهم مع فصائلهم بـ”هيئة تحرير الشام”، وعلى هذا الأساس من المحتمل أن يجري حل “الائتلاف”، أو انضمام بعض أعضائه للحكومة الجديدة، التي قد تشكّلها تركيا بالدمج بين “الحكومة المؤقتة والإنقاذ”، وبذلك سيخضعون لقرارات الجولاني.

المصدر: مركز الفرات للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية