-1-
بعد مضي أكثر من /6/ أشهر على سقوط نظام البعث الاستبدادي، وسيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها على السلطة في دمشق في 8/12/2024 لايزال الغموض والشكوك يكتنف مستقبل سوريا كدولة، فعلى الأرض يظهر بوضوح أن الأوضاع غير مستقرة في جميع المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الانتقالية، هناك فلتان أمني، قتل واختطاف يومي، ومجازر العلويين وموضوع الدروز، وحتى بالنسبة للإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا، وتحديداً للمكون الكردي فإنه لا يمكن التأكد من إيجابية موقف هذه الإدارة، ولكن موازين القوى الداخلية والدولية، وقوة قسد جعلت هذه الإدارة تمتنع عن محاربتهم، وتسعى إلى نوع من الحوار والتوافق، فكان هناك اتفاق الجنرال مظلوم عبدي ورئيس الإدارة الانتقالية أحمد الشرع، ثم الاتفاقات الأخيرة حول سد تشرين وحيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، إضافة إلى الحوار حول مسائل أخرى كالتعليم وتفعيل بعض إدارات الدولة، وهو عمل إيجابي نأمل استمراره والوصول إلى نتائج مثمرة.
كانت هناك مقولة انتشرت، مفادها أن أقوال الإدارة الانتقالية جيدة، ولكن لنعطها فرصة للتعرف على أفعالها، ولكن ماذا حصل بعد ذلك؟ مؤتمر الحوار الوطني، الإعلان الدستوري والحكومة الانتقالية كلها من لون واحد ولم يجرَ إشراك ممثلي المكونات الأساسية فيها، وتم تحجيم الحراك السياسي وعدم صدور قانون للأحزاب وتسريح عشرات الآلاف من العمال والموظفين بشكل عشوائي، ويجرى كل ذلك وسط غموض كامل لخطط السلطة الجديدة.
مؤخراً جرى تشكيل لجنة للعدالة الانتقالية تنحصر صلاحياتها فقط للانتهاكات والجرائم التي تمت في عهد النظام السابق فقط، بمعنى أن الانتهاكات المرتكبة في عهد هذه الإدارة ستبقى دون مساءلة، وبذلك ستكون لجنة عدالة انتقائية لا ترضي تطلعات السوريين نحو العدالة الاجتماعية، وحتى الجرائم التي ارتكبها ما يسمى بالجيش الوطني السوري في عفرين والمناطق المحتلة من قتل واختطاف ونهب وسجون ستكون أيضاً خارج المساءلة، فأية لجنة عدالة انتقالية هذه التي تأتي فقط على مقاس الإدارة الانتقالية الحالية؟
في الجنوب السوري ليس للسلطة الانتقالية سيطرة على الأوضاع وبخاصة في محافظة السويداء، وكذلك في المناطق التي تحتلها الدولة التركية، وإسرائيل تجتاح معظم مناطق الجولان وجبل الشيخ والقنيطرة، وممنوع على الإدارة الانتقالية إدخال السلاح والجنود إليها، وكل ذلك يشير إلى أن السلطة الجديدة لا تستطيع حتى الآن السيطرة على الأوضاع بشكل كامل، وأن أمامها مشوار طويل للوصول إلى مبتغاها.
-2-
في الفترة الأخيرة فتحت أمام الإدارة الجديدة بعض الأبواب والفرص الإيجابية، كانت أولها زيارة الشرع إلى فرنسا، وأما الثانية فكانت خلال زيارة الرئيس الأمريكي إلى دول الخليج، حيث توسطت حكوماتها لديه باستقبال الشرع وإحداث انفتاح عليه.
كان لهاتين الزيارتين وقع إيجابي على الإدارة الجديدة ورئيسها الشرع وشكلت فرصة سانحة أمامها من أجل رفع العقوبات عن سوريا والانفتاح على الحكم الجديد، فكل من ترامب وماكرون وعداه بالانفتاح على نظامه بشروط أهمها إجراء مصالحة مع إسرائيل والانفتاح على مكونات الشعب السوري، والتعاون مع قسد والإدارة الذاتية والكرد، وطرد المقاتلين الأجانب من سوريا ومحاسبة الذين ارتكبوا انتهاكات وجرائم، ووعداه برفع العقوبات الاقتصادية إذا قام بتنفيذ كل تلك الشروط.
لا شك أن إدارة الشرع تستطيع تنفيذ بعض تلك الشروط، ولهذا فهي لم تتعرض لإسرائيل في الجولان، بل قدمت العون لها بشأن تسليم أرشيف الجاسوس الإسرائيلي كوهين، وساعدت في نقل جثماني جنديين إسرائيليين قتلا في سوريا عام 1982، وأعطى الشرع أيضاً وعوداً بشأن إجراء مصالحة مع إسرائيل والانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية، ويعرف الجميع أن كل هذه الأمور تقع خارج المعتقدات الدينية لمسؤولي الإدارة الجديدة في سوريا.
وأما بالنسبة للمواضيع الأخرى، وبخاصة قسد والإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، فإنه بالرغم من اللقاءات العديدة مع قسد، واتفاق عبدي – الشرع وبعض الإجراءات الأخرى فإنه لا يمكن القول بأن الأمور تتقدم بشكل إيجابي، فالإدارة تتلكأ في انضمام قسد إلى وزارة الدفاع ككتلة مستقلة، وبالرغم من تجاوب قسد والإدارة الذاتية بشكل إيجابي مع كافة الملفات إلا أن الإدارة الانتقالية تتراجع عن وعودها كما حصل في ملف التعليم وغيره، وأكثر من ذلك فإن إعلاميي الهيئة وقنواتها الفيسبوكية وبعض القنوات التلفزيونية تشن الهجوم على قسد، وتجيش ضد الكرد، وانطلاقاً من العلاقة العضوية بين تركيا والإدارة الجديدة، بل علاقة تبعية الإدارة الانتقالية لتركيا فإن إدارة الشرع تنسق كل شيء يتعلق بالكرد وقسد والإدارة الذاتية مع تركيا، ويمكن القول بأن تركيا هي موجه أساسي لسياسة الإدارة الجديدة، وهي التي تحدد خطواتها في كافة الاتجاهات.
-3-
لقد أصبح واضحاً للجميع أن هيئة تحرير الشام وحلفاءها ليسوا هم الذين أسقطوا نظام الأسد بالرغم من دورهم كقوة عسكرية وسياسية، وإنما جاء ذلك ضمن توافق دولي وإقليمي بعد تحولات كبيرة أعقبت إضعاف حزب الله والوجود الإيراني وحرب غزة وأيضاً تهالك النظام وجيشه، وكان لإسرائيل دور بارز في ذلك.
كل السوريين كانوا ولايزالون مع التغيير وإخراج سوريا من أزمتها الطاحنة، غير أن من يراقب سلوك الإدارة الجديدة وسياساتها وإجراءاتها على الأرض يرى بوضوح أن هذه الإدارة تراوح في مكانها على كافة الصعد، ويمكن القول إنها لم تخط بعد الخطوات الأساسية، فالبلاد لازالت مقسمة، والشعب السوري لازال مقسماً، وليس هناك بصيص أمل في تغيير الإعلان الدستوري الذي يرفضه معظم السوريين، ولازال عقد مؤتمر حوار وطني سوري حقيقي بعيد المنال، والانفتاح على مكونات الشعب السوري لازال مطلباً دولياً وداخلياً ملحاً غير أنه بعيد عن المنظومة الفكرية والسياسية للإدارة الجديدة، وأكثر من ذلك فإن الإدارة الجديدة لازالت تتهرب من المطالب الدولية والداخلية بضرورة إدماج قسد في وزارة الدفاع السورية ككتلة والانفتاح على الإدارة الذاتية الديمقراطية، وتتهرب من مفهوم شراكة الكرد وباقي المكونات السورية في الوطن تسليماً للرغبات التركية التي لا تستطيع الإدارة الجديدة مخالفتها، ولازالت هذه الإدارة تمتنع عن استعمال كلمة الديمقراطية في بياناتها وتصريحاتها بشأن طبيعة الحكم في البلاد، ولهذا الموضوع أهمية يعرفها الجميع، ومن جهة أخرى فإن هذه الإدارة غير مقتنعة أصلاً بإبعاد الفصائل الأجنبية عن سوريا لأنها ترى في هذه الفصائل حماية لها، بل أن الإدارة الحالية تتشكل أساساً من تلك الفصائل التي تحكم وتحمي الوضع الجديد، وأما بالنسبة للعلاقة مع إسرائيل فإن الإدارة الجديدة تنظر إليها كأمر واقع مرحلياً، هي لا تستطيع مواجهة إسرائيل، ولذلك فإنها تحاول إرضاءها في بعض الأمور، وإرضاء الفاعلين الدوليين، ويبدو أن الأمور ستستمر هكذا في الفترة المقبلة، وتلعب الإدارة الجديدة على ملف الصراع العربي – التركي على سوريا محاولة إقامة نوع من التوازن لأنها لا تستطيع الاستغناء عن الداعم التركي، ولكنها تحاول الاستفادة من الدعم العربي في تخفيف الضغوط التركية، خاصة أن غياب أحدهما يعني عدم إمكانية استمرار هذه الإدارة.
-4-
في إطار هذه الوقائع على الأرض، والتطورات الجارية في سوريا منذ سقوط نظام البعث، فإن السؤال الأهم والواقعي والمشروع يكمن في الإجابة على السؤال التالي: سوريا إلى أين؟ لا شك أن الأزمة السورية لاتزال مستمرة، ولم تقدم إلى الآن الأجوبة الحقيقية لهذا السؤال، بل أن الواقع يزداد غموضاً، خاصة أن العقلية التي سيطرت على مقاليد السلطة في دمشق والقوى التي تقف وراءها تعقد الأمور أكثر، وأن المنظومة السياسية والفكرية لهذه السلطة لا تعبر عن قناعة معظم أبناء الشعب السوري، ويبقى أن الجواب على عنوان هذه الافتتاحية قد يتأرجح حول العناوين الفرعية التالية:
1- السلطة المؤقتة بين خرائط الخارج وهواجس الداخل.
2- بحث عن الشرعية في زمن التمزق.
3- الإدارة الانتقالية أداة للتغيير أم غطاء لتكرار الهيمنة؟
4- الإدارة الانتقالية في سوريا: سلطة على ورق أم واقع يبحث عن اعتراف؟
5- حين تصبح الإدارة الانتقالية مرآة للانسداد السياسي.
طريق الشعب
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=70094





