إبراهيم باشا الملي: رجل استثنائي وقائد حكيم

محمد جزاع

الذكرى وإرث الفارس

تطل علينا الذكرى السابعة عشرة بعد المئة لرحيل الفارس، إبراهيم باشا الملي، قائد الرجال، مخلفًا وراءه ضجيج الحياة بعد عراك وصراع مليء بالكبوات والانتصارات، وانتزع ألقابًا لا يحصل عليها إلا الكبار الذين يتركون بصماتهم على صفحات التاريخ.

فهو ثاني أغنى رجل في الشرق بعد السلطان عبد الحميد، وملك كردستان بلا تاج، بعد أن وفر الأمن في بلاد ما بين النهرين، من أرزنجان حتى دير الزور، ومن الفرات إلى الدجلة، وميري ميران كردستان، وديركي كردستاني (Dîrekê kurdistanê)، عمود كردستان.

من يحقق هذه الإنجازات، لا شك، هو شخصية استثنائية، وجديرة بالدراسة والتحليل المقام من قبل الدارسين السيكولوجيين.

الطفولة المبكرة ومواجهة قسوة الحياة

واجه إبراهيم باشا قسوة الحياة مبكرًا، وهو ما زال يعيش مرحلة الطفولة لا يتجاوز عمره الخمسة عشر عامًا، حيث اعتقلت سلطات ديار بكر والده، محمود آغا الملي، قائد قبائل الملان، وتشتت شمل القبيلة.

شاور وجهاء قبيلة الملان لإيجاد حل للوضع، وهنا تفتقت عبقرية الفتى إبراهيم، استبعد كل حلول العنف، وتذكر العلاقة التاريخية بين عائلته وعائلة محمد علي باشا والي مصر.

وكان جده تيماوي بيك من حلفاء إبراهيم باشا المصري، وقتل في بلدة نزيب في حرب طاحنة ضد الدولة العثمانية عام 1839.

رحلة مصر واللقاء بالسلطان

توجه الفتى إبراهيم إلى مصر، حاملاً معه هدايا ثمينة، والتقى الخديوي إسماعيل باشا ليضع مظلوميته بين يديه. لم ينكر الخديوي تلك العلاقة، ووعده باللقاء في إسطنبول العام القادم، وإدخاله إلى حضرة السلطان العثماني عبد العزيز.

في العام التالي تحقق الوعد في إسطنبول عام 1861، حيث دخل الفتى إبراهيم آغا بخطى ثابتة لكبار الرجال، وأخذ موضعه المناسب، وبدأ بعرض شكواه بحكمة وروية بمنطق الحكماء، والسلطان يصغي إليه بإمعان. أُعجب السلطان بجرأة وشجاعة الشاب الذي يسبق عمره العقلي، عمره الزمني.

القدرة على الموازنة والمراقبة

ثم يفاجئ الباشا سايكس بالكشف عن رسالة خاصة من الصدر الأعظم يطلب فيها وجوب مراقبة سايكس مراقبة دقيقة وتقديم تقارير بذلك، ثم يطرح على سايكس سؤالًا شبه تفاوضي: شيء مقابل شيء، ماذا يجب عليه أن يفعله؟ تهرّب سايكس فقال: من الأفضل أن تقول الحقيقة، لا أبتغي من جولتي الترفيه، وأتوخى الفائدة الثقافية من رحلاتي.

ويمكن استشفاف انطباع مثير للاهتمام من أقوال سايكس، مهندس مشروع الشرق الأوسط بعد انهيار الدولة العثمانية، أن إبراهيم باشا كان ذو تطلعات سياسية وصاحب مشروع، وإن لم يحالفه الحظ. يقول سايكس، خلال حديثه معه، كَشَف له معرفته المذهلة والدقيقة بأحداث الشؤون الأوروبية، منها علاقة الإنجليز بإيرلندا، وسؤاله: هل حقًا فشل مؤتمر الجيسيراس بين الدول العظمى، ألمانيا وفرنسا، في جنوب إسبانيا عام 1906؟

وفي سؤال مثير للدهشة ينمّ عن متابعة الحياة الثقافية والفنية في أوروبا: هل صحيح أن خيمة الفنانة الشهيرة سارة برنار أوسع من خيمته؟

الانفتاح على جميع المكونات

من أهم خصائص إبراهيم باشا أنه كان منفتحًا على كل المكونات التي تعيش ضمن حدود إمارة الملان. كانوا يعيشون تحت هذه الخيمة: الكرد، والعرب، والأرمن، والكلدوآشور السريان، مسلمون ومسيحيون ويزيديون، حتى العلويون الذين كانوا خارج منطقة نفوذه كانوا يرون فيه زعيمًا روحيًا لهم.

القدرات الدبلوماسية ومواجهة الأزمات

لقد تميز إبراهيم باشا بقدرات دبلوماسية عالية، وقدرات فائقة في إدارة الأزمات، وشخصية تفاوضية ذكية سريع البديهة.

ومن أبرز الأحداث التي واجهها تصديه لكبار الموظفين والأعيان والنصابين والمحتالين، وكانت أبرز مواجهاته لهم في حوادث إبادة الأرمن وحمايتهم بعدما اتضحت مذبحة الزيتون عام 1904-1905، وكذلك مواجهته المريرة لحركة الاتحاد والترقي في ديار بكر بقيادة ضياء كوك ألب، الكردي الأصل، والذي أصبح من آباء النظرية الطورانية في عام 1905-1907.

تحليل سايكس لشخصية إبراهيم باشا

حقيقة يصعب تغطية سيرة الراحل العملية التي استغرقت نصف قرن، بل نجترئ بعض اللحظات من مسيرته وموقعه في نظر الخبراء وكبار السياسيين. يحلل سايكس شخصيته بعد التعرف عليه عن قرب من خلال زياراته المتكررة إليه خلال العامين 1906-1907.

إبراهيم باشا شخصية عجيبة، إنه قائد طبيعي للرجال، اختبره الجانب الأكثر قسوة في الحياة. فيه صفات هوريك الإنجليزي من البارونات، نرى فيه البارون الإقطاعي المستبد الشرقي. نستطيع أن نتخيل أوجه الحياة في معسكرات تيمور لنك وأتيلا. ففي قوته وضعفه تكمن بعض ميزات ومعايب مرداد، مؤسس الدولة الإشكانية الإيرانية.

نهاية رجل شجاع

نهاية رجل شجاع، رجل ملأ الدنيا وشغل الناس. بعد وصوله إلى دمشق لحماية خط الحجاز، قام الاتحاديون بانقلاب على السلطان عبد الحميد، وكان إبراهيم باشا على رأس قائمة التصفيات.

أبلغه قنصلا بريطانيا وفرنسا بالمكيدة، وسرعان ما انسحب من دمشق، وقاتل الكتائب العثمانية في الطريق حتى وصل إلى ويران شهر، عاصمته، حيث اقتحمت الجيوش المدينة. استمر بالحرب ضد الجيوش، وفزعة الشمر الممولة بالمال والسلاح من قبل الدولة، فما كان منه إلا التوجه إلى جبال سنجار.

لكن القدر لم يهمله، إذ نال منه الإرهاق بعد حروب استمرت شهرًا، فأسلم الروح قرب نهر جق جق، قرب قرية صفية شمال الحسكة، ودُفن هناك في قرية البيزار. لتنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة جديدة يستكملها أبناؤه من بعده. رحمه الله.

 

المصدر: المجلس الوطني الكردي

 

Scroll to Top