من أهم المواضيع والتحديات التي تواجه أي مجتمع هي تجربة الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية، خصوصاً تلك التي تقع بعد نزاعات مسلّحة، ويصاحبها نشوء عنف مسلّح، أدى إلى كثير من الضحايا ومن جرائم الحرب ومن الجرائم ضد الإنسانية، مثل الاختفاء القسري أو التعذيب أو القتل العمد أو بقية انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة؛ ويُعتبَر موضوع الإفلات من العقاب أو المساءلة الجنائية لمرتكبي تلك الجرائم إحدى القضايا الصعبة في موضوع الانتقال الديمقراطي.
العدالة الانتقالية
من لا يعرف تاريخ وتجارب الشعوب بشكل دقيق يخرج باستنتاجات مختزلة وعقلية ثأرية يسمّيها محاسبة. إقامة العدل في مناطق الصراع وبعدها مسؤولية أكبر من أي مسؤولية تنفيذية أو تشريعية، سواء كان ذلك من الحكومة أو من حكومات الأمر الواقع، وهي جزء لا يتجزأ من مبدأ حماية حقوق المدنيين في فترات النزاعات المسلّحة كما هي جزء أساس من بناء دولة قانون لا مناص منها لوضع نهاية لكل فظاعات هذه النزاعات. ففي القانون الجنائي الدولي، ليست المشكلة في الحديث عن انتفاضة أو ثورة أو حرب أهلية أو إرهاب… هذه التعابير ليست موجودة أساساً، لأن الذاكرة الجمعية الأوروبية على الأقل، تعرف بأن دستور وإعلان الثورة الفرنسية انتهكا من الثوار أولاً في حقبة الرعب، وانتهى الأمر بتسليم الأمور لنابليون الذي نصّب نفسه إمبراطوراً على الجميع.
هناك سمات أساسية مشتركة عند الحديث عن إقامة العدل بعد وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الأشخاص والجماعات، تقوم على الاعتراف بالكرامة الإنسانية للأشخاص أولاً، الإنصاف في تشخيص الانتهاكات والاعتراف بها ثانياً وسدّ مسارب وقوعها من جديد ثالثاً. من أجل ذلك، يتطلّب الأمر كما يقول الحقوقي رمضان أحمد بريمة:
«حزمة من الترتيبات تشمل الشق القانوني والاجتماعي والنفسي والمالي، إلى جانب تحديد الظلم كممارسة وليس كأفراد أو جماعات. يقصد بترتيبات العدالة الانتقالية امتصاص الغضب الناجم عن الظلم الذي ربما لو سُمح له بالتعبير عن نفسه قد يسبّب أضراراً بالغة من ناحية، وتهيئة النفوس والارتقاء بها نحو الوضع النموذجي الذي يتطلّع إليه المجتمع بكل شرائحه من ناحية أخرى».
وحتى لا تضيع البوصلة، علينا دائماً أن نتذكّر:
1- لا تعطي إقامة العدل إجابة لإصلاح كل ما هو خطأ في المجتمع والدولة.
2- قد تساعد المؤسسات الانتقالية للعدالة النضالات الاجتماعية والسياسية طويلة المدى من أجل تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص وحقوق المواطنة، ولكن لا تحل محلّها.
3- ليست العدالة الانتقالية نوعاً خاصاً من العدالة مثل العدالة التصالحية أو العدالة التوزيعية أو العدالة الجزائية، ولكنها تطبيق لسياسة حقوق الإنسان في ظروف معيّنة. وهي تشمل آليات قضائية وغير قضائية سواء بسواء.
4- لا يمكن اعتبار إقامة العدل في سيرورة بناء السلطة القضائية المستقلّة عدالة «ليّنة» أو «مهادنة». بل هي مشروع لتحقيق العدالة القابلة للتحقّق في ظل الظروف السياسية في ذلك الوقت، أي في زمان ومكان محدّدين.
5- العدالة الانتقالية مثل قوانين الطوارئ، عدالة استثنائية تخضع لمبدأ التأقيت، النسبية، الإشهار والشفافية والقوانين والقرارات الإدارية المنظمة لعملها.
6- لا يجوز الخلط بين عملية بناء السلطة القضائية المستقلّة والعدالة الانتقالية.
لسنا إذن أمام مفهوم قضائي صرف، أو عام، لأن الفكرة، بالأساس، تقوم على مقاربة شاملة ومتكاملة لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة في مكان وزمان محدّدين، وهي لا تقف فقط عند حد التقصّي في الجرائم وتحديد المسؤولين وإقرار مبدأ المحاسبة، بل تعمل أيضاً على جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإنصافهم، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات. كذلك إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، في ما يسمح بإعادة التماسك للنسيج المجتمعي المتنوّع والمختلف عبر تعزيز السلام وحقوق المواطنة المتساوية ضمن توازنات تجمع بين ضرورة إقامة العدل والسلم الاجتماعي ودولة القانون. حسب خصائص كل مجتمع ومقتضيات الواقع، وفي ضوء موازين القوى القائمة.
للوصول إلى العدالة الانتقالية وكشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر يوجد قواعد ومعايير دولية تنظم وتعالج كافة الانتهاكات تلك، على المستوى العالمي، هو القانون الدولي الإنساني والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهي مجموعة التدابير القضائية والمؤسساتية من أجل معالجة ما ورثته الدولة السورية من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتتضمّن التدابير في الملاحقات القضائية ولجان الحقيقة وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات التي تتولّى تلك التدابير، وأهمها الشفافية وعدم الانتقائية، على أن تشمل جميع الأطراف الذين ارتكبوا تلك الانتهاكات .
من أهم الاستحقاقات لتطبيق العدالة الانتقالية، تطمين الضحايا بمحاكمة ومحاسبة كافة الأشخاص الذين قاموا بالانتهاك في حقّهم وتعويض الضرر الذي أصابهم على المستويين المادي والمعنوي، والالتزام بعدم تكرار هذه الانتهاكات، وعدم التقصير في تنفيذ هذه المهمّة لما لها من عواقب وخيمة ستؤدي إلى انقسامات اجتماعية، وسيولّد غياب الثقة بالمؤسسات الجديدة والعاملين عليها، تلك المؤسسات المنبثقة من حكومة تمثّل إرادة الشعب السوري عبر انتخابات حرّة ونزيهة.
#الكتلة_الوطنية_السورية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75954





