إسكات وتحريض: قمع متعدد الأوجه يواجه عمل النساء في شمال غرب سوريا
ملخص تنفيذي:
يناقش هذا التقرير أبرز التحديات التي تواجه العمل المدني النسائي في شمالي غرب سوريا، بمناطق سيطرته المختلفة، من وجهة نظر نساء عاملات في هذا المجال، ويسعى لتسليط الضوء على احتياجات المنظمات التي تعمل على دعم النساء و/أو تمكينهن، وينقل صوت الناشطات اللواتي تحدثن عن حقوقهن والانتهاكات المتعددة التي يتعرضن لها، وكذلك عن طرق الدعم الأكثر إلحاحاً برأيهن، ويقدم أخيراً بعض التوصيات لدعم عمل تلك المنظمات.
لغرض هذا التقرير قامت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بإجراء 19 مقابلة مع سيدات/ناشطات متخصصات في دعم النساء، منهن عاملات في منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال تمكين النساء في سوريا ودعمهن، ومنهن إعلاميات تملكن معرفة وخبرة في عمل المنظمات النسائية والنسوية ومنهن محاميات ومستشارات قانونيات مختصات.
خلص التقرير إلى أن هنالك عدّة مستويات من التحديات التي تواجه العمل المدني المعني بالنساء؛ يبدأ التحدّي الأول من مستوى الأسرة والمجتمع اللذين، ما زالت الذهنية التي تسيطر عليهما، لا تعترف بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء في مجال العمل وغيره من مجالات الحياة الحيوية، بينما يمكن التحدّي الثاني في القيود التي تضعها المؤسسات الدينية ورجال الدين والتنظيمات الإسلامية في المنطقة على حركة النساء ولباسهن وحرياتهن الأساسية. وتنتقل هذه التحديات لمستوى أعلى وهو السلطة العسكرية والسياسية التي تحكم المنطقة وتهدد العمل المدني والحقوقي وتفرض قوانين وأنظمة تقيد العمل الموجه لتمكين النساء بشكل خاص، وهو التحدّي الثالث. أما التحدي الرابع والأوسع الذي تحدثت عنه النساء فيتمثل في نقص الدعم مما له الأثر الكبير على قدرة النساء والمنظمات التي تدعمهن على العمل والمشاركة في نواحي الحياة المختلفة.
بناءً على تحليل المقابلات مع الناشطات، توصلت “سوريون” إلى عدد من الاحتياجات الأساسية لتستطيع المنظمات النسائية والنسوية العمل في شمالي غرب سوريا وكان أولها الحاجة للأمان والحماية، وهو ما تمّ ذكره من قبل معظم الناشطات اللواتي تحدثنا معهن. وفي هذا السياق أكدن على الحاجة لقوانين خاصة تحمي حقوقهن لتكون متساوية مع الرجال وغير تمييزية ضدهن. لتأتي بعدها الحاجة لرفع القدرات، وللدعم الصحي والنفسي، وكذلك الحاجة الماسة لتمويل مستدام لا يرتبط بأجندات خاصة بالجهات الممولة. هذا وقد وصف وضع النساء في سوريا بالعموم، على أنّه الأسوء في العام 2023، من أي وقت مضى، وأكثر تحدّياً. حيث تشكل النساء والفتيات نصف عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية والذي يبلغ عددهم 15.3 مليون شخص، بما في ذلك 4.2 مليون امرأة في سن الإنجاب. عدا عن ذلك، فقد انتشر العنف القائم على النوع الاجتماعي، وارتفعت معدلات تزويج الطفلات والعنف الرقمي.
من الأهمّية بمكان الإشارة إلى أنّه وفي بداية شهر كانون الثاني/يناير 2024، أصدرت “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” ما أسمته بـ”قانون الآداب العامّة”، المؤلف من 128 مادة، منها مادة تقضي بتشكيل “شرطة الآداب”، وقد عبّرت ناشطات سوريات من إدلب عن تخوفهن من القانون الذي “قونن” فكرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهو ما سوف يؤثر بشكل أساسي على الحريات المقيدة أساساً بشكل صارم تحت حكم “الهيئة”.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن معظم النساء اللواتي قابلتهن “سوريون” طلبن عدم ذكر أسمائهن أو أسماء المنظمات التي يعملن فيها حرصاً على سلامتهن، وعليه، لم يذكر التقرير هذه البيانات، ولكنه أشار إلى صفة أو مهنة المرأة ونوع النشاط الذي تختص فيه المنظمة التي تعمل فيها.
خلفية:
بعد أكثر من عقد من الصراع في سوريا، لا تزال سوريا المقسّمة جغرافياً وعسكرياً وسياسياً، تعيش في ظل أزمة إنسانية متعددة الأوجه ذات آثار طويلة الأمد، تسببت بواحدة من أكبر موجات النزوح الداخلية في العالم (أكثر من سبعة مليون نازح بحسب إحصائيات الأمم المتحدة)، وبتدمير البنى التحتية، وانتهاك حقوق المدنيين/ات المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مما زاد من معاناة النساء بشكل خاص، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، حيث تجاوز عدد السوريين/ات المحتاجين/ات للمساعدات الإنسانية الخمسة عشر مليون شخص في 2023. ووفقاً لمؤشر السلام العالمي لعام 2023، تعد سوريا ثالث أقل دولة آمنة في العالم.
في ذات الوقت، أثّر الصراع بشكل غير متناسب على حياة النساء والفتيات في البلاد اللواتي ما زلن يواجهن خطر العنف المتزايد، حيث يستمر الإبلاغ عن العنف ضد النساء والفتيات على نطاق واسع بسبب نقص الحماية وخدمات الدعم للضحايا، وعدم مساءلة الجناة، والافتقار إلى إطار قانوني يعالج هذا العنف، باختلاف أشكاله، ومن ضمنها العنف السيبراني (الإلكتروني).
ولا تزال الفتيات يعانين من إخراجهن من المدارس قسراً، أو إجبارهن على الزواج المبكر والبلوغ المبكّر القسري،[1] فيما تعاني النساء، لاسيما العاملات والمنخرطات في الشأن العام، من حملات تشويه سمعة وتهديدات، في الفضائين الفيزيائي والإلكتروني على حدٍ سواء.
وأدى الزلزال الذي ضرب كلاً من سوريا وتركيا في شباط 2023، إلى زيادة الحاجة إلى المساعدات الإنسانية في سوريا وتفاقم معاناة النساء اللاتي يتعين عليهن مواجهة تحديات إضافية بسبب الضغط الهائل الناتج عن تغييب رجال الأسر–قتلاً واعتقالاً واختفاءً– من جهة، ومن جهة ثانية نتيجة القيود المفروضة على حرياتهن الأساسية مثل حرية التنقل، والحصول على الحماية، والحصول على فرص العمل، نتيجة لاستمرار الأعمال العدائية وبسبب التطبيع مع العنف القائم على النوع الاجتماعي سواء من قبل المجتمع أو السلطة الحاكمة أو رجال.
كشفت دراسة أجراها الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) عام 2023، بنت على مقابلات مع 1746 إمرأة في شمال غرب سوريا، أن الواقع الاقتصادي والمعيشي المتردي الحالي في المنطقة يعزز الحاجة إلى مشاركة المرأة في العمل ودعم الأسرة كأحد الحلول التي تسعى النساء من خلالها إلى تحسين واقع أسرتها ومجتمعها في مواجهة الظروف، مظهرةً أن نسبة النساء العاملات من إجمالي المشاركات بلغت 29%، في حين أن 71% من النساء غير عاملات.
هذا بالإضافة إلى التمييز الواضح ضد النساء في التشريعات السورية،[2] خاصةً في قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات وقانون الجنسية، فيما فشلت أغلب سلطات الأمر الواقع في مناطق سيطرتها المختلفة والهيئات التشريعية التابعة لها في الاستجابة لهذا التمييز، أو في تحسين وضع النساء أو تكريس حقوقهن قانونياً وحمايتها، رغم التحسينات الطفيفة والاختلافات في بعض مناطق السيطرة.
إلى ذلك، وخلال سنوات النزاع، تغيرت خارطة القوى المسيطرة في سوريا بشكل جذري، مما كان له تأثير كبير على كل أطياف المجتمع، حيث حملت التطورات الميدانية هذه تأثيرات مختلفة على المستويات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والمدنية، وكان من ضمن المتأثرين بهذه التغيرات منظمات المجتمع المدني بشكل عام، والمنظمات النسائية والنسوية منها بشكل خاص.
التحديات التي تواجهها المنظمات المعنية بدعم النساء:
عملت أنظمة الحكم المتعاقبة في سوريا على مدى العقود الخمسة الماضية على تهميش المرأة وتثبيت الصور النمطية السلبية حول دورها في المجتمع، مستخدماً لذلك العادات والتقاليد والأعراف والأحكام الدينية، فضلاً عن السياسات الاقتصادية والقوانين التمييزية. ومع انطلاق الحراك عام 2011، أسفرت متغيرات الواقع السوري عن فتح مجال أوسع للمشاركة المدنية ولظهور العديد من المنظمات النسائية والنسوية لتلبية الاحتياجات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنساء في مختلف المناطق السورية.
وخلال هذه الفترة بشكل خاص، أصرّت المرأة على مواجهة المجتمع الذي تسوده الأفكار والقوى الذكورية، وأنظمة القمع والتهميش الأخرى التي تقيد وصولها للحقوق وممارستها للحريات، وتحد من تنقلها وقدرتها على العمل والمشاركة. واستطاعت النساء خلق مساحات خاصة وبذلن الجهود لتغيير الأنماط السائدة، بهدف كسب الاعتراف بدورهن الأساسي في المجتمع والدولة. غير أن هذا الإصرار لم يأتِ مجرداً من التحديات، بل واجه العمل المدني المعني بتمكين النساء الكثير من الضغوط والتحديات من سلطات الأمر الواقع من جهة، ومن المجتمع والأعراف والأحكام الدينية من جهة أخرى، إضافة إلى عوائق التمويل التي كان لها دور أساسي في الحد من قدرة المنظمات المدنية على تطوير عملها.
لا حماية للنساء من قبل سلطات الأمر الواقع:
تنقسم السيطرة في شمالي غرب سوريا بين “هيئة تحرير الشام” (المدرجة على قوائم الإرهاب) و”حكومة الإنقاذ السورية” التابعة لها من جهة، و”الجيش الوطني السوري/المعارض” و”الحكومة السورية المؤقتة” التي تتحكم بهم تركيا، من جهة أخرى. تقوم كلا السلطتين بقمع الناشطات والناشطين باستمرار وتحظر عملهم إذا ما خالف أجنداتها، مكررة نهج الحكومة السورية المركزية. لذا يتسم عمل الكثير من المنظمات المدنية بالسرية والنشاط خلف الكواليس، مما يعني ضياع جهد النساء لحد كبير وبقاء عملهن غير مرئيٍ أو موثق. تحدثنا في “سوريون” مع محامية في مكتب قانوني للمحاماة والاستشارات في محافظة إدلب، حول الممارسات التي تقوم بها سلطات الأمر الواقع في شمالي غرب سوريا، وقد قالت:
“تقيد السلطات حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات للنساء والفتيات، وتهددهنّ بالعنف والعقاب إذا لم يلتزمن بقواعدها وأعرافها. ونظراً لعدم وجود حماية للمرأة من التحريض ضدها في شمالي غرب سوريا، تتعرض النساء والفتيات باستمرار لخطاب الكراهية والمضايقة والترهيب والتحريض من قبل السلطة التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي والمساجد والأماكن العامة لنشر دعايتها وأيديولوجيتها”.
فيما أشارت عاملة في إحدى المنظمات أن قبضة السلطات الأمنية أدت إلى اكتفاء العمل المدني في شمالي غرب سوريا غالباً بدعم النساء الفاقدات لمعيلهن ومساعدتهن في نطاق المشاريع الصغيرة وتشجيع الأعمال الحرفية المنزلية. كما أن معظم المشاريع التي تركز على رفع قدرات النساء لتأهيلهن للعمل لا تكون مثمرة كما يجب، بسبب قلة الشواغر، فضلاً عن التوزيع غير العادل لفرص العمل في المنطقة. وفي حين يفترض أن تؤمن السلطة الأمان للنساء، أشارت عدة ناشطات ممن تحدثت إليهن “سوريون” إلى تعرضهن للتهديد بسبب نشاطهن. قالت إحدى الناشطات في حلب:
“تعرّضتُ للعنف سابقاً في عملي على أحد المشاريع حيث تمّ تهديدي بالقتل من قبل أحد المستفيدين وذلك في حال لم أقم بإدراج اسم امرأة معينة ضمن لوائح المستفيدات من الدعم. طبعاً لم تتمكن المنظمة التي أعمل معها من حل المشكلة، لكن تمّ توجيه بلاغ رسمي ضمن المحاكم الإدارية لم ينتج عنه شيء. حيث يتكرر هذا النوع من العنف وخاصةً مع بداية كل مشروع”.
كذلك تحدثت بعض الناشطات عن العنف السيبراني (الرقمي/الالكتروني). قالت على سبيل المثال صحفية نسوية لـ”سوريون”:
“تواجه العديد من النساء الناشطات العنف السيبراني والعنف الجنسي سواء عبر الانترنت أو خارجه، من قبل أشخاص يحاولون إسكاتهن وتشويه سمعتهن وعملهن. أتحدث بناءً على تجربة شخصية حدثت معي بعد أن طلبت تصريحاً للعمل على تقرير حول اعتقال النساء في عفرين وانتهاكات الفصائل والذي قوبل بالرفض طبعاً”.
بتاريخ 26 تموز/يوليو 2023، أصدرت منظمة “فرونت لاين ديفندرز” بيانا، تضامنت فيه مع الناشطة النسوية السورية: هبة عز الدين الحجي، المدافعة عن حقوق الإنسان والرئيسة التنفيذية لمنظمة “عدل و تمكين” النسوية، والتي استهدفتها حملة تشهير خبيثة عبر الإنترنت بسبب طبيعة عملها، امتدت إلى الفضاء الفيزيائي، حيث تلقت تهديداتٍ بالقتل أيضاً. وطالب المنظمة سلطات الأمر الواقع في إدلب (هيئة تحرير الشام) إلى وضع حد لاستهداف المدافعة السورية عن حقوق الإنسان.
وبحسب تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية الصادر في حزيران/يونيو 2023، عمدت “هيئة تحرير الشام” وفصائل “الجيش الوطني السوري” إلى ترهيب وتقييد بعض أنشطة الاتصال والتوعية المتعلقة بالعنف ضد النساء أو أنشطة تتعلق بمواضيع معينة كزواج القاصرات، وواجه بعض النشطاء والناشطات العاملين على مناصرة حقوق المرأة مضايقات وخطاباً سلبياً من السلطات.
في حديثها عن ممارسات “الحكومة السورية المؤقتة” والجهات التابعة لها، قالت محامية في أحد مكاتب الاستشارات القانونية والشرعية في حلب لـ”سوريون”:
“لا يحترم الجيش الوطني السوري حقوق النساء والفتيات، ويعرضهن للعنف والإساءة والتمييز، كما يفرض نظام الحكومة المؤقتة ثقافة أبوية محافظة على النساء والفتيات، ويقيد حريتهن واستقلاليتهن، فالنساء اللواتي تعملن في مؤسسات ومنظمات لا تمتثل للحكومة المؤقتة أو منهجية الفصائل يتعرضن للهجوم، ويواجهن اتهامات بالإرهاب أو الخيانة أو التعاون مع القوات الكردية”.
وكما تقيد “الحكومة المؤقتة” توجهات المنظمات المعنية بالنساء في شمال غرب سوريا، تضع “حكومة الإنقاذ” عقبات إدارية عدة في وجه عمل المنظمات كذلك، حيث أشارت عدة ناشطات وإعلاميات تحدثنا إليهن إلى الصعوبة التي تواجهها المنظمات في الحصول على الموافقات الأمنية للمضي في عملها.
على سبيل المثال قالت إحدى الإعلاميات في ادلب:
“يتمثل التحدي الأكبر في طلب التراخيص من حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، حيث إنه مكلف إلى حد ما بالنسبة لتلك المبادرات وللفرق التطوعية وخاصة عندما تكون في بداية تشكيلها، فضلاً عن عدم تقبل شريحة من المجتمع لعمل النساء نفسه وعدم دعم السلطات لهن”.
هذا ولا تقف تكلفة التصاريح العالية وحدها بين النساء وعملهن فحسب، حيث تحرم العاملات في مجال الإعلام من التصاريح، لكونها مهنة “لا تناسب النساء”، بحسب تقريرٍ للجزيرة يغطي التحديات التي تواجه الإعلاميات في شمال غرب سوريا، نشر بتاريخ 21 أيار/مايو 2023. حيث قالت إحدى الصحفيات أن السلطات ترفض منحها بطاقة صحفية، كونها تعمل بشكلٍ مستقل، ما يجبرها على استصدار تصريح، من المعقّد الحصول عليه، لأي تغطية خبرية أو عملية تصوير تقوم بها، بالإضافة إلى أنها، كما صحفيات كثيرات، تمنع من تغطية الأحداث الميدانية، بما في ذلك المعارك والقصف.
يمتدّ التمييز الممنهج الذي تمارسه سلطات الأمر الواقع ضد النساء في شمال غرب سوريا إلى المجالات الأكاديمية أيضاً. حيث افتتحت “حكومة الإنقاذ”، كلية العلوم السياسية والإعلام في جامعة إدلب عام 2023، بغية “النهوض بقدرات النشطاء الإعلاميين الذي كان لهم دور كبير في تغطية الثورة منذ عام 2011” ولكن الفئة المستهدفة لم تتضمن النساء. حيث تم تبرير حرمان النساء من الالتحاق بالفرع، على لسان الدكتور “عادل حديدي”، عميد كلية الإعلام والسياسة في جامعة إدلب، في مقابلة مع “سوريا عطول”، بالقول “عدم توفر البنية التحتية اللازمة لتخصيص قسم خاص بالإناث”، حيث أنّ “حكومة الإنقاذ” تحظر الاختلاط بين الجنسين في جامعة إدلب بكل تخصصاتها.
يصب سلوك سلطات الأمر الواقع، من حيث تعاملها مع المنظمات النسوية والنسائية بشكل خاص، وتعاطيها مع احتياجات النساء بشكلٍ عام، في البيئة العنيفة في المنطقة، فإن انعدام الأمن والأمان في المناطق المذكورة، بسبب استمرار القصف الذي تقوم به قوات الحكومة السورية والطيران الروسي من جهة، وكذلك حالة “الصراع الداخلي” الذي تعيشه الفصائل المتحكمة بالمنطقة من جهة أخرى، يدفع بالمنظمات المدنية عموماً والنسائية والنسوية خصوصاً إلى التركيز على الاستجابة الآنية والسريعة للاحتياجات، بدلاً من التخطيط لمشاريع التمكين طويلة الأمد. تحدثت عن ذلك عدة ناشطات قابلتهم “سوريون” لغرض إعداد هذا التقرير، ومما جاء في شهادة إحداهن:
“يواجه عمل المنظمات النسائية عدة تحديات؛ منها العمل بالتزامن مع عمليات القصف المستمر والنزوح الذي أدى ومازال يؤدي لعدم الاستقرار في العمل. كما كان للزلزال الذي حصل مؤخراً أثر سلبي كبير على الاستدامة في العمل، إلى جانب فقدان بعض المنظمات المتواجدة في المناطق المتضّررة من الزلزال للكثير من الأصول والورقيات. تمّ نقل عمل بعض المنظمات لمناطق أخرى مما أثر على نشاطها وانتشارها، وفرض على المنظمة البدء من الصفر في بناء قاعدة شعبية في منطقة وسياقات جديدة… كما تعاني النساء العاملات في المنظمات النسائية من صعوبة السفر والتنقل بسبب القصف، ولانتشار الفصائل الإسلامية المتشدّدة التي تقف حائلاً أمام عمل المرأة في الداخل السوريّ”.
ولا تشكل الفصائل الموجودة على الأرض حاجزاً بين المرأة وتعليمها وقوتها فحسب، حيث تسبب انعدام فهم هذه الفصائل لظروف النساء المادية والأدوار التي كان عليهن لعبها، قسراً أحياناً، بعد خسارة المعيل، إلى مقتل بعض النساء، منهن “فاطمة عبد الرحمن الإسماعيل”، التي قتلتها رصاصة في الرأس من حاجز لـ”هيئة تحرير الشام” عام 2022. آثر الحاجز قتل السيدة، التي تركت خلفها ثلاثة أطفال أيتام، بعد أن عملت في “تهريب مادة المازوت” بين مناطق سيطرة الهيئة والجيش الوطني، ساعية للاستفادة من ثلاثة ليرات تركية، كانت تجنيها من فرق أسعار المازوت بين المنطقتين.
“لم يكن هناك من يدافع عني”: النساء فريسة للأعراف الاجتماعية:
رغم تواجد عدد من المنظمات التي تسعى لتمكين النساء ودعمهنّ في شمالي غرب سوريا، ما تزال النساء فريسة للسلطة الأبوية في المجتمع. هذه السلطة التي ترسم الحدود والقيود على تنقل المرأة ولباسها ونشاطها وقدرتها على تبوُّؤ المراكز القيادية واتخاذ القرار. تنعكس هذه الأعراف على هيكلة المنظمات المعنية بالنساء أحياناً، إذ يكون الكثير من قادتها رجالاً. حيث لا يزال التمييز على أساس النوع الاجتماعي واضحاً في العمل، خاصة في ظل غياب العدالة الجندرية على مختلف المستويات.
لا تزال المصطلحات والمفاهيم العالمية التي يتمّ استخدامها بشكل واسع في فضاء المجتمع المدني العام والسوري مؤخراً، كالحساسية الجندرية والنسوية والحق في حرية المعتقد أو التوجه الجنسي أو الجنساني، وغيرها من المصطلحات الجندرية، غير مقبولة لدى سلطات الأمر الواقع في تلك المناطق، بل مدانة في الكثير من الأحيان ويمكن أن تكون مبرراً لارتكاب انتهاكات بحقهم.
تنتقص الأعراف الاجتماعية من مكانة المرأة ومن قيمة الجهود المبذولة لتمكينها. ويؤثر هذا سلباً على مطالبة النساء بحقوقهن، وبانضمامهن للمنظمات المدنية النسائية والنسوية، وينعكس على النساء العاملات في المنظمات والمستفيدات منها على حد سواء. كذلك يتسبب التمييز المبني على النوع الاجتماعي في حرمان الكثير من النساء من حقهن في التمثيل والمشاركة في الأدوار القيادية والحصول على الفرص والموارد بشكل مساوٍ للرجال. تقول عن ذلك المديرة التنفيذية لإحدى المنظمات العاملة على دعم النساء في غرب سوريا على عدة مستويات، منها المجال الإغاثي وتقديم الخدمات الأساسية والخدمات الصحية والدعم النفسي وتمكين النساء مدنياً وحقوقياً وسياسياً:
“تبدأ المشكلة من العقلية الذكورية التي ترفض اعتبار المرأة كائناً كاملاً أو مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات. فعلى سبيل المثال، ترفض أسر العديد من النساء بالأصل فكرة خروجهن من المنزل وترى أنه ليس أولوية، كما تفضل معظم الأسر عدم خروج النساء كثيراً من المنزل بسبب انتشار حوادث الفلتان الأمني… قد يقبل المجتمع المحلي عمل المنظمات النسوية أو النسائية، ربما لأنّه رأى الفائدة الحقيقية التي يقدمها عمل تلك المنظمات من خلال تأمين فرص العمل للنساء، وتأمين الدعم الاقتصادي لعائلاتهن، في الوقت الذي تنتشر فيه البطالة بنسبة عالية بين الرجال عموماً شمال غرب سوريا، لكن هذا لا يعني أنّ المجتمع رحيم، فهو يتقبل عمل المرأة دون التطرق لمسألة المساواة أو الحديث عن قضايا الجندرة وحقوق النساء”.
مؤكدة ما جاء في حديث المديرة التنفيذية عن التمييز في مكان العمل، قالت إحدى العاملات السابقات في منظمة تعنى بتقديم الإغاثة والدعم المادي للنساء في شمالي غرب سوريا لـ”سوريون”:
“من المعروف أن مجتمعاتنا يغلب عليها الطابع الذكوري، وليس فيها مساواة بين الرجل والمرأة إذ أنها دائماَ ما تعطي حقوقاً أكثر للذكر، مثل مرتبات العمل الأعلى على سبيل المثال… تعرضتُ خلال عملي في المنظمة للتمييز بيني وبين الموظفين الذكور، حيث لم أشعر أنه تمّ تقدير جهدي طوال سنوات عملي، وكنت أواجه المشكلات من كل جانب دون أن يكون هناك من يدافع عني أو يقف بجانبي”.
كما تحدثت عدة ناشطات عن تحكم الذكور في أسرهن بقرار عملهن في المنظمات التي تقدم الدعم للنساء من جهة، وبقرار “العديد من الأهالي أو الأزواج مجيء زوجاتهم أو بناتهم إلى المراكز لتلقي الدعم” من جهة أخرى. حيث لا يمكن الفصل بين تفاعل النساء مع المنظمات النسوية والنسائية في شمال غرب سوريا، سواء كمستفيدات أو عاملات، عن طبيعة تفاعلهن مع الفضاء العام، وهي مساحة تحكمها قوانين تتلاقى فيها العائلة وسلطات الأمر الواقع، راسمة حدود وجود النساء في وتعاطيهن مع أي حيز خارج المنزل، ويتم وضع الحدود عن طريق قوانين أو حملات مجتمعية، تحرم النساء من قدرتهن على اتخاذ القرار بشكل مستقل. على سبيل المثال، أصدرت وازرة التربية والتعليم في “حكومة الإنقاذ” تعميماً في شهر آب/أغسطس 2023، طالبت فيه كافة المؤسسات التعليمة الخاصة بالالتزام بسبع ضوابط شرعية، استهدفت ثلاثة منها النساء، من الطالبات والكوادر، حيث طولبن بارتداء اللباس الشرعي الساتر الفضفاض وكذلك “الابتعاد عن الموضات المخالفة لتعاليم ديننا وعادتنا” بما في ذلك “التبرج والمكياج”.
الصورة رقم (1)- التعميم الصادر في إدلب عن وزارة التربية والتعليم في “حكومة الإنقاذ”
“طردني مدير المدرسة بعد رفضي ارتداء النقاب”:
إضافة لضغط المجتمع والأعراف، تتعرض المنظمات العاملة على دعم وتمكين النساء للهجوم من قبل دعاة الدين والأئمة الرافضين لوجود نشاطات أو حتى أفكار تتحدى سلطة الرجال في المجتمع، ففي إحدى الخطب التي ألقاها الشيخ أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري، والتي اعتبرت أحدى أسباب الهجوم على الناشطات السوريات في الداخل، حيث قال:
“في هذه المنطقة، هنالك حشداً قوياً من الدوائر الاستعمارية، من دوائر الكفر والضلال، في الغرب، في كل الغرب، حشدت جيوشاً وأدخلتها إلى بلادنا لتحرف الشباب عن أخلاقهم وقيمهم … هل تعلمون أنّ هنالك نساءً من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، بل هم من أبناء بلدنا ومدننا، يأتون مجندات من قبل الأمم المتحدة وغيرها من مراكز التضليل من مراكز التضليل والتكفير، يأتون لينشروا بين فتياتنا خاصة ما يسمونه بتحرير المرأة، ما يسمونه بالجندر …”
ففي حين من المفترض استخدام الخطاب الديني لتشجيع المساواة وتعزيز حقوق المرأة، وللدعوة لتنفيذ سياسات لتمكين النساء وتعزيز مشاركتهن في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يلعب هذا الخطاب في الواقع أثراً سلبياً على نشاط النساء المدني. فهو يحد من عمل المنظمات والناشطات، ويشكل تحدياً في وجه تحقيق العدالة الجندرية، حيث يعزز دعاة الدين الإسلاميين الضغوط الاجتماعية والثقافية على النساء للتقيد بالأدوار التقليدية والتبعية، ويحاول تشويه سمعة أي امرأة تخرج عن القوالب المجتمعية التي تم تحديدها لها مسبقاً. تقول بهذا الخصوص المديرة التنفيذية لمنظمة عاملة في شمالي غرب سوريا:
“تستخدم سلطات الأمر الواقع الخطاب الديني للتحريض ضد النساء. هنالك مضايقات على المرأة سواء من ناحية التنقل أو اللباس، رغم أنها تتناقص يوماً بعد يوم لكنها مازالت تمارس ضدنا، فلا توجد مثلاً امرأة غير محجبة في إدلب، إضافة للقيود المفروضة على عمل النساء ومشاركتهن في المجالات السياسية والحقوقية”.
كذلك تحدثت عن هذا إحدى العاملات في منظمة تعمل على تمكين الفتيات في ريف حلب حيث قالت لـ”سوريون”:
“نعاني من صعوبة في التنقل، وخاصةً مع غلاء أسعار المواصلات وبسبب التدقيق الشديد علينا من قبل عناصر الحواجز العسكرية التابعة للهيئة، وسؤالهم المستمر لنا عن ضرورة وجود محرم معنا، حيث يستمر رفض المجتمع والحكومة المسيطرة لوجود أي امرأة تتنقل لوحدها على الطرقات وبأي وقت كان”.
كما أكدت ناشطة أخرى تعرضها للمضايقات نفسها، بقولها:
“لقد تعرّضت لعدّة مضايقات بخصوص ارتداء اللباس الشرعي. عندما كنت أعمل سابقاً في التدريس، طردني مدير المدرسة بعد رفضي ارتداء النقاب والعباية”.
تندرج المحظورات، كـ”الاختلاط مع الرجال” في مختلف مجالات العمل، أو “التنقل دون وجود محرم”، وكذلك التدخل في لباس النساء وملاحقة غير الملتزمات باللباس “الشرعي”، تحت مجموعة من الضوابط الفقهية الإسلامية التي تحكم حياة المرأة بالمجمل، والتي جسدتها سلطات الأمر الواقع بمجموعة من الأجهزة الأمنية ذات الصبغة الدينية، كجهاز الحسبة التابع لـ”هيئة تحرير الشام”، والذي حمل اسم “سواعد الخير” ومن ثم “جهاز الفلاح”. نصب الجهاز نفسه “حارساً للفضيلة” وتوجه للرجال في المنطقة برسائل عدة في الفضاء العام، كانت فحواها مسؤولية الرجل عن حماية “عرض” النساء، رابطاً بين مفهوم الشرف ولباسهن.
الصورة رقم (2)- لافتة علقتها مديرية أوقاف سلقين في مدينة حارم، ضمن حملة “حراسة الفضيلة” عام 2021
ورغم أنّ “حكومة الإنقاذ” حلّت جهاظ الشرطة الدينية المعروفة بـ”جهاز الفلاح” نهاية آب/أغسطس عام 2021، ولكنها أعلنت عن عزمها تفعيل جهاز “شرطة حماية الآداب العامة” بداية عام 2023، والذي سيمارس مهامه تحت مظلة “وزارة الداخلية”.
“كل القضاة من الرجال”: قانون وقضاء أبويين:
لا يشكّل الحيز القانوني والقضائي استثناءً في شمال غرب سوريا، حيث تحكمه ذات ديناميكات القوة، الذكورية، كما على الصعد الاجتماعية والدينية، وهو ما أكدته مجموعة من مختصات في القانون، تناولن خلال حديثهن مع “سوريون” تفاصيل القانون المطبق في المنطقة وعجزه عن إنصاف النساء ودعمهن؛ إحداهن مستشارة قانونية تعمل في إحدى المنظمات الإنسانية الناشطة في شمالي غرب سوريا؛ قالت:
“نظرياً، فإنّ قانون الحكومة السورية هو القانون النافذ المعمول به في مناطق إعزاز ومناطق الحكومة السورية المؤقتة بشكل عام، أمّا بالنسبة لمحافظة إدلب، تطبق أحكام الشريعة الإسلامية حيث يرجع الأمر لمطبّق القانون، أي لشخص القاضي ومدى فقهه وعلمه وحياده، وطبعاً كان من الأفضل تقنين العمل بأحكام الشريعة الإسلامية وعدم تركه لسلطات القاضي التقديرية، من أجل ضمان توحيد الأحكام عامة، ومن أجل ضمان الحقوق نفسها للجميع”.
وبحسب تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية، المشار إليه سابقاً، والصادر في حزيران/يونيو 2023، قانونياً لا يوجد مانع رسمي للنساء من التنقل في ادلب من دون محرم ذكر، ولكن يوجد استثناء على هذا يتمثل في الوصول إلى المحاكم الشرعية التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام”، حيث أن الوصول الفيزيائي إلى هذه المحاكم مشروط بمرافقة رجل، بما في ذلك في المحاكم التي يتم فيها الفصل في قضايا الأحوال الشخصية، والمحاكم الجنائية، إلا إذا كانت المرأة نفسها هي المدعى عليها. أما إن كانت هي المدعية فيجب أن تكون برفقة قريب أو وصي ذكر.
وامتداداً لهذه الممارسات التمييزية والتضيق، أصدرت نقابة المحامين في مدينة إدلب وريفها عام 2023، تعميماً يطالب المحامين بـ”عدم الجلوس مع موكلاتهم خارج المحاكم بدون وجود محرم شرعي”، من منطلق منع “الاختلاط غير الشرعي” بين النساء والرجال، وعزت القرار إلى “ارتكاب بعض المحامين المخالفات الشرعية ودخولهم المقاهي العامة مع النساء اللواتي يقمن بالتوكيل لهن دون محرم”.
ويضاف إلى مشروطية حق النساء باللجوء للقضاء، أنه لم يتم تعيين أي قاضيات في محاكم المنطقة، فيما تواجه المحاميات نفس التحديات التي تواجهها النساء الأخريات من حيث حضور جلسات المحكمة، وهو ما يمنعهن من تمثيل النساء بشكل فعال. وبحسب تقرير لجنة التحقيق ذاته، تواجه النساء مستويات عالية من التحرش الجنسي عند محاولتهن الوصول إلى إجراءات إدارية أو قضائية أخرى.
في حديثها عن التواجد النسائي في مجال العمل القضائي، أكدت المستشارة القانونية وجود وجود تفاوت في وصول النساء للدوائر القضائية ودورهن فيها:
“في المناطق التابعة للحكومة السورية المؤقتة تعمل نساء في السلك القضائي وكمحاميات، أمّا في المناطق التابعة لحكومة الإنقاذ يوجد محاميات فقط، لكن لا يوجد عاملات في السلك القضائي، أو في سلك الشرطة والسجون”.
فيما أكدت محامية قابلتها “سوريون” والعاملة في أحد مكاتب الاستشارات القانونية والشرعية في حلب، وجود استهتار بالدعاوى التي ترفعها النساء، لاسيما مع غياب النساء عن أدوار مفصلية في الحيز القضائي:
“أغلب القضايا المتعلقة بالنساء إما شرعية أو مدنية، فالمنطقة لا تخضع لكيان حاكم أو لنظام قانوني يقوم على مبادئ الديمقراطية والتعددية والمساواة، كما لا تحترم المحاكم هنا سيادة القانون ومعايير حقوق الإنسان، وكثيراً ما تتجاهل أو ترفض شكاوى النساء والفتيات. هناك عدد قليل جداً من النساء العاملات في “المنظومة القضائية” شمالي غرب سوريا، وغالبيتهنّ محاميات في المحاكم الشرعية، حيث لا يوجد تشجيع أو دعم للنساء لتعملن قاضيات أو محاميات أو مدّعيات عامات، لأن هذه الأدوار تعتبر غير مناسبة للنساء”.
وفي هذا السياق، أضافت المحامية العاملة في مكتب قانوني للمحاماة والاستشارات في إدلب أن:
“كل القضاة من الرجال، وهم متحيزون ويميزون ضد النساء والفتيات. لا تحترم المحاكم الإجراءات القانونية الواجبة وحقوق المحاكمة العادلة للنساء والفتيات، وغالباً ما تحرمهن من الوصول إلى التمثيل القانوني أو الأدلة أو الاستئناف. تصدر المحاكم أيضاً أحكاماً قاسية وغير متناسبة على النساء والفتيات، مثل الجلد أو الرجم أو الموت بسبب جرائم مزعومة مثل الزنا أو العصيان أو المعارضة”.
تحدثنا كذلك مع محامية أخرى في إدلب تعمل في منظمة قانونية ذكرت لنا أن:
“إنصاف النساء في القضاء في الشمال السوري بتقديري لا يتجاوز 40 % من الحالات، طبعاً هذا في حال تقدّمت المرأة بشكوى ولم تلقَ صعوبات أو عوائق تلزمها الصمت… بعض زميلاتي تعملن في المحاكم، لسن قاضيات لكنهنّ محاميات لأن القضاء هنا حكرٌ على الرجال، وكأنّ المرأة عورة، ولا يجب عليها العمل كقاضية”.
“نحتاج إلى التمويل الكافي الذي يضمن الاستمرارية”:
وبالإضافة إلى كل العوامل التي نوقشت أعلاه، تصارع العديد من المنظمات المعنية بشؤون النساء في شمال غرب سوريا مع مصادر التمويل وسياساته، حيث يترتب على التمويل من قبل بعض الجهة المانحة التي لها اجنداتها الخاصة، أثراً سلبياً على عمل المنظمات المدنية النسائية والنسوية، بحسب الناشطات التي تحدثت إليهن “سوريون”. حيث أكّدت عدة ناشطات أن هذا الأمر يقيد كثيراً من حرية اختيار العمل على مشاريع تراها المنظمة أكثر أهمية وفاعلية من تلك التي تفرضها الجهات المموِّلة، وقد تضطر تلك المنظمات على العمل على مشاريع تلبي احتياجات غير حقيقية وغير واقعية أو حتى غير متناسبة مع متطلبات النساء الحقيقية، ولا تعالج مسألة التهميش الذي تعانين منه منذ عقود.
إضافة إلى ذلك، فالكثير من الحركات النسائية في سوريا غير قادرة على التسجيل بشكل رسمي وبالتالي لا تملك حسابات بنكية، حتى وإن كانت فعلياً نشطة وفعالة، ولذلك لا يمكنها التعاقد مع ممول أو استلام الدعم اللازم لها للعمل. وبالطبع فإن التمويل غير المستدام وغير الكافي لا يسمح للنساء بالشعور بالأمان والقدرة على المضي قدماً في تنفيذ المشاريع التي خططن لها.
هذا وقد تحدثت بعض الناشطات عن توجه عدة منظمات مدنية لمشاركة منظمات نسائية أو زيادة عدد العاملات النساء فيها بشكل غير فعال، ومخادع، فقط بهدف تلبية المعايير المتعلقة بضرورة تحقيق نسبة معينة من عدد النساء في المنظمة للادعاء بتحقيق العدالة الجندرية، وكل ذلك بهدف الحصول على التمويل المطلوب، وغالباً بقيت هذه المنظمات لا تعتبر حقوق النساء شأناً مهماً.
خلال حديثنا مع الناشطة العاملة في مركز يعنى بإجراء دورات وتدريبات مهنية للنساء (في عدّة مجالات منها الخياطة والإسعافات الأولية وتصفيف الشعر) إضافة إلى إجرائه عدداً من الجلسات التوعوية للنساء، صرحت الناشطة بالآتي:
“أرى أنّ عمل المنظمات النسائية شمال غربي البلاد غير كافٍ لتغطية احتياجات النساء، لأنّ المنظمات والفرق النسائية العاملة حالياً عددها قليل، بسبب ضعف الإمكانيات المادية للمنظمات النسائية بالداخل السوري وتحديداً في الشمال المحرر، الأمر الذي يقف حائلاً أمام تلبية احتياجات النساء. كما أنً توزع هذه المنظمات جغرافياً لا يغطي كافة المناطق، خاصةً مع انتشار وظهور عدد من المخيمات الحديثة والتي تمّ بناؤها عقب الزلزال في مناطق بعيدة نسبياً عن مناطق العمل. كما أنّ تواجد أكثر من منظمة في ذات المنطقة يوازيه افتقار مناطق أخرى لوجود أي منظمة أو بأفضل الأحوال وجود منظمة واحدة ضمن نطاق جغرافي كبير… نحتاج إلى التمويل الكافي الذي يضمن الاستمرارية في العمل ويضمن تطوير الفريق عن طريق تمويل التدريبات المستمرة للكوادر، بما يخدم طبيعة العمل والظروف المحيطة وبحسب الاختصاص… أضف إلى ذلك الحاجة لبيئة آمنة ولعدم تعقيد إجراءات الموافقات الأمنية على تنفيذ المشاريع الخاصة بالمنظمات النسائية”.
وتحت مظلة التمويل أيضاً، تعاني المنظمات من الشرخ بين مفاهيم المساواة والتمكين التي يطالب الممولون بتكريسها، وعدم انطباق هذه المفاهيم على أرض الواقع، حيث تحدثت محامية تعمل في إحدى روابط الإعلاميين في سوريا عن التمييز بين الرجال والنساء وعدم المساواة ضمن المنظمات نفسها، قائلة:
“أفرزت القضية السورية تعقيدات اجتماعية كانت المرأة السورية أبرز ضحاياها، مما جعل المنظمات الأممية والمنظمات الداعمة تفرض حالة تمكين صوري للمرأة السورية سواء كان سياسياً أو اجتماعياً، لكن حتى في المنظمات المدنية غير الحكومية دائماً ما يتقلد الرجال المناصب الهامة بأعلى الرواتب لأنهم ذكور، في حين تحصل النساء على رواتب بسيطة جداً عند عملها على الأرض. لم تتَح للمرأة السورية فرصة المشاركة الحقيقية في رسم الأحداث الخاصة بالقضية السورية. على سبيل المثال يتحدث العاملون والعاملات في معظم المنظمات في الداخل السوري المحرر عن أن النساء أخذن فرص العمل من الشباب والرجال، لكن عملياً يتقلد الذكور أغلب المناصب المهمة، وخاصةً المقيمين خارج البلاد، حيث يصرف لهم رواتب كبيرة جداً، في حين أنّ مرتبات النساء العاملات في سوريا، لا تتجاوز الـ250 دولار. لذا تقوم بعض المنظمات بتوظيف خمس أو ست نساء على الأرض، مجموع رواتبهنّ لا يعادل مرتب واحدٍ من الرجال المتقلدين للمناصب. برأيي هذا ليس عادلاً، لأن النساء حرمن من الفرص المتكافئة من أجل تقلّد مناصب قيادية في أي مجال”.
احتياجات النساء العاملات في المنظمات المدنية النسائية والنسوية:
من أهم الاحتياجات التي أجمعت عليها النساء الناشطات اللواتي قابلتهن “سوريون” لأجل إعداد هذا التقرير الحاجة للأمان والحماية. وبحسب إحدى الإعلاميات المستقلات ممن تحدثنا معهن فإن:
“التأثير الحقيقي لعمل المنظمات العاملة في مجال تمكين المرأة هو تغيير حياة النساء والفتيات إلى الأفضل، وتمكينهن من الحصول على حقوقهن وحرياتهن وكرامتهن، وتشجيعهن على المشاركة في الشأن العام والتنموي والسياسي والمدني، لكن هذا التأثير ليس فعالاً بالقدر الكافي بسبب القيود والضغوط والانتهاكات التي تحد عمل المنظمات، وتمنعها من تقديم العون اللازم عملياً لذلك”.
كما تحدثت العديد من النساء الناشطات اللواتي قابلتهن “سوريون” عن حاجتهن لنصوص قانونية صريحة تحمي حقوقهن وتحاسب من ينتهكها. على سبيل المثال قالت إحدى الناشطات الفاعلات في ريف حلب الشمالي لـ”سوريون”:
“يمكن دعم النساء العاملات في مجال التمكين من خلال وضع قوانين تهدف إلى حمايتهنّ والحفاظ على أمنهن وسلامتهن، دون أن يكنّ مستباحات من قبل أي جهة عسكرية أو سلطة سياسية، فضلاً عن عدم تعرّضهن لأي انتهاك لخصوصيتهنّ”.
وفي ذات السياق تحدثت إحدى الناشطات في منظمة نسائية عن الحاجة للحماية والدعم فقالت:
“نحن بحاجة أولاً إلى الحماية كعاملات في مجال تمكين النساء، حيث يجب علينا أولاً حماية أنفسنا، لأنّ المنظمات التي نعمل معها غير قادرة على حمايتنا، فعند وقوع أقل إشكالية يقومون بإلقاء اللوم علينا. يمكن أن يتم ذلك من خلال توفير أرقام للتواصل مع جهات مختصة في حال تعرضنا لأي مشكلة، وخاصةً النساء اللواتي تعملن في المجال الميداني”.
هذا وتحتاج النساء العاملات في المنظمات المدنية النسائية والنسوية، وبشكل ملّح، للحصول على المساواة فيما يتعلق بحقوق النساء العاملات، مثل حقهن بالإجازات الإدارية وغيرها من الحقوق المرتبطة بالعمل. قالت عن هذا موظفة في مركز لتمكين المرأة في إدلب:
“لا تتمتع النساء في كثير من المنظمات بحقهن في الإجازات… على سبيل المثال هناك عدد من المنظمات التي تدعم الممرضات والكوادر الطبية، تُحرم العاملات فيها من الحصول على أي إجازات بما فيها الإجازات الإدارية أو الصحية”.
كما تحدثت المديرة التنفيذية لمنظمة عاملة في شمالي غرب سوريا عن أهم الاحتياجات برأيها، فقالت:
“يجب حماية النساء العاملات في مجال التمكين من خلال تأمين البيئة الآمنة لعملهنّ، وهنا يأتي دور المجتمع المدني ليرفع الوعي المجتمعي حول ضرورة عمل هؤلاء النساء كي يكنّ قادرات على العمل في بيئة متقبلة لعملهنّ على الأقل. ولا شك بأنّ الاستقلالية الاقتصادية أيضاً عامل مهم وأساسي لاستمرار نشاطهن. والأهم من ذلك هو التمثيل العادل للنساء في المفاصل الدولية، وبرأيي هنا يأتي دور المجتمع الدولي ودور الأجسام السياسية والمدنية كالاتحاد الأوروبي مثلاً، كي يضمن تمثيل شمولي وعادل لهؤلاء النساء كي يتحدثن عن قضاياهنّ ويتمكنّ من إيصال أصواتهنّ”.
وبحسب تقاطعات في عددٍ من المقابلات، توصلت “سوريون” إلى أن أبرز الاحتياجات تكمن في قلة عدد المنظمات النسائية والنسوية في شمالي غرب سوريا، وعدم كفاية الدعم الذي تقدمه لتمكين النساء، خاصة في ظل شح الدعم المالي المستدام ونقص التنسيق وتبادل الخبرات بين المنظمات وانعدام الشعور بالأمان، حيث أكدت صحفية مستقلة تعمل في حلب:
” أنّ عدد المنظمات والمؤسسات وخاصةً النسائية الموجودة حالياً شمالي غرب سوريا لا يكفي لتغطية الاحتياجات، في الوقت الذي تعاني فيه النساء والفتيات بعد سن 16 عاماً العديد من المشاكل والتحديات، مثل الفقر والأمية والنزوح والعنف والتمييز وعدم الحصول على الخدمات الأساسية… كما أنّ هنالك حاجة إلى رفع جودة وزيادة تنوع الخدمات والبرامج التي تقدمها المنظمات النسائية لتلبية الاحتياجات المختلفة والمتغيرة للنساء والفتيات”.
بالإضافة لما سبق، أشارت إعلامية تحدثنا إليها عند إعداد التقرير عن الحاجة للتدريبات لرفع قدرات العاملات في مجال التمكين، فيما صرحت عدة ناشطات أن النساء العاملات في شمالي غرب سوريا يحتجن إلى الدعم الصحي والنفسي بشكل خاص لأنه “شبه مغيب” ويعامل على أنه أقل أهمية عند تقييم احتياجات الناشطات.
التوصيات:
بناءً على المقابلات التي قمنا بإجرائها عند إعداد هذا التقرير، توصلت “سوريون” إلى عدة توصيات، كانت نتيجة لدراسة وتحليل كل ما ذكرته النساء الناشطات والمحاميات والإعلاميات من تحديات تواجه عمل تمكين النساء في شمالي غرب سوريا، والاحتياجات الأكثر إلحاحاً بالنسبة إليهن. يمكن تلخيص هذه التوصيات بما يلي:
إلى سلطات الأمر الواقع:
خلق مساحات آمنة للنساء للعمل والتطور ووقف أي إجراء يعرقل البرامج الهادفة إلى تعزيز احترام حقوق النساء والفتيات.
وقف العمل بالتشريعات التي تحدّ من حرية المرأة وتعطي حصانة عملية لمرتكبي الانتهاكات بحق النساء، وإصدار قرارات تضمن حماية النساء من أي شكل من أشكال العنف أو الإساءة إليهن، وتحاسب كل من يقدم على ذلك.
إتاحة المجال لعمل المرأة في المؤسسات التي أحدثتها سلطات الأمر الواقع بالشكل الذي يحقق المعايير الدولية المطلوبة، على أن تكون هذه المشاركة فاعلة وحقيقية.
إلغاء المتطلبات المتعلقة بمرافقة الذكور للنساء لأي غرض في أي منطقة، وكفالة قدرة المحاميات والممثلات القانونيات على الوصول إلى جميع الأماكن اللازمة لتمثيل الموكلات والموكلين، وضمان حرية التنقل لهن.
التأكد من حصول النساء والفتيات على شروط متساوية في المجالات الوظيفية والمهنية، فيما يتعلق بفرص وحقوق العمل، والمساواة بالأجر، وفرص التعليم.
تعزيز التعليم والتوجيه في المدارس والجامعات حول حقوق المرأة والمساواة الجندرية وإدراجها في المناهج التعليمية بشكل منهجي، لتشجيع الوعي المبكر وتشكيل ثقافة مجتمعية رافضة للعنف المبني على النوع الاجتماعي.
المجتمع الدولي والجهات المانحة:
استدامة التمويل والبرامج المخصصة لدعم وتمكين النساء والحرص على أن تكون حساسة جندرياً، وتلبي احتياجات النساء العاملات والمستفيدات بعيداً عن أي أجندات مسبقة، وإشراك النساء في تخطيط وتنفيذ المشاريع.
تشجيع منظمات المجتمع المدني ودعمها على إجراء الدراسات والأبحاث التي تعمل على نشر ثقافة المساواة الجندرية، وعدم فرض أية مشاريع بعيدة عن واقع المنطقة ولا تلبي الاحتياجات الحقيقية للنساء.
دعم المشاريع التي تهدف إلى توثيق الانتهاكات التي تستهدف النساء على أساس الجنس، وكذلك المشاريع التي تهدف إلى تمكين النساء للمشاركة مستقبلاً بشكل فاعل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
دعم المشاريع التي تهدف الى رفع وعي المجتمع بضرورة المساواة بين الجنسين، والاشراك العادل للنساء في كافة ميادين الحياة، وإلغاء كل أشكال التمييز ضدهن.
مراقبة عمل منظمات المجتمع المدني التي تتلقى الدعم، خاصة تلك التي تعمل على تمكين النساء ورفع التوعية بحقوقهن، للتأكد من تعزيز حقوق النساء خاصة بالنسبة للعاملات والمتطوعات ضمن طاقم المنظمة نفسها، سواء من حيث توزيع المهام أم من حيث المقابل المادي.
منظمات المجتمع المدني:
العمل على دراسة ومراجعة القوانين السورية والأوامر الإدارية والقرارات الصادرة عن سلطات الأمر الواقع، والإشارة إلى مواطن الخلل فيها وخاصة تلك التي تعزز التمييز السلبي ضد النساء، وتعزز السلطة الذكورية في المجتمع، واقتراح رؤى قانونية تعزز المساواة التامة بين الجنسين.
العمل بشكل أكبر على المشاريع التي تمكن النساء من القيام بدورها المطلوب في الحياة العامة، ورفع الوعي المجتمعي بالمساواة الجندرية. وتعزيز ثقافة المساواة بين الجنسين، والعمل على تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، والعمل على القضاء على التحيزات والعادات وكل الممارسات القائمة على الاعتقاد بتميز الرجال، أو على الأدوار النمطية للرجل والمرأة.
التواصل مع رجال الدين والمؤسسات الدينية وإجراء حوارات مشتركة معهم، والتأكيد بأن المساواة بين الجنسين لا تتعارض مع التعاليم الدينية التي تهدف للعدالة.
كفالة المشاركة الحقيقية للمرأة في العمل في منظمات المجتمع المدني، وعلى أن تكون المشاركة فعالة ومؤثرة، ولا سيما في نطاق اتخاذ القرارات الاستراتيجية والهامة للمنظمة، لا أن تكون فقط بهدف لفت انظار الممولين إلى المشاركة الشكلية الهادفة إلى جلب التمويل فقط.
توثيق الانتهاكات التي تطال حقوق النساء ومشاركة تلك التوثيقات مع الجهات الدولية الفاعلة، بدون تمييز.
[1] انظر على سبيل المثال: “البلوغ القسري” في مخيمات الشمال السوري… أدوية هرمونيّة لتسريع الدورة الشهريّة وتزويج الفتيات. هديل عرجة. 30 أيار/مايو 2023. https://daraj.media/108693/
[2] المرأة في القانون السوري: إشكالية التمييز السياسي والقانوني وخلفياته الاجتماعية. المركز السوري للإعلام وحرية التعبير. (آخر زيارة للرابط: 23 كانون الأول/ديسمبر 2023). https://scm.bz/women-in-syrian-law-political-and-legal-discrimination-and-its-social-background-ar/
المصدر: سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=34182