الأربعاء, نوفمبر 13, 2024

إشكالية السياسي والثقافي في حالتنا الكردية السورية

صلاح بدرالدين

خلال الانتخابات البرلمانية في ١ كانون الأول عام ١٩٦١ ، وكانت اخر انتخابات حرة في تاريخ سوريا ، وعندما ترشح الراحل الدكتور نورالدين ظاظا عن حزبنا ( الحزب الديموقراطي الكردي في سوريا ) أتذكر انني كنت في عداد – وكيل متنقل – لحملته وليس وكيلا رسميا ثابتنا بسبب مانع قانوني وهو صغر سني ، وكنت اتنقل بين مراكز الاقتراع ، ولما وصلت الى مركز ( دكشوري ) – منطقة القامشلي تفاجات بوجود مراقب مدرستنا البعثي ( حسين حاج حسين ) ” الذي اساء الي بعد ذلك كثيرا وعاقبني دون مبرر بمدرسة العروبة ثم اصبح فيما بعد محافظا للجزيرة ثم وزيرا ” كمسؤول عن المركز من قبل السلطات ، وكانت مفاجاتي اكبر عندما ادلى بصوته متمتما بصوت عال : ساصوت للدكتور ظاظا لانه المثقف الوحيد في قائمة المرشحين المليئة بأسماء وجهاء العشائر ، وحتى مرشحوا الحزب الشيوعي كان بينهم – امييون – ، وأريد القول بهذا المجال ان عددا من المتنورين ساهموا في بناء الحركة القومية – الوطنية الكردية السورية من أمثال – آل بدرخان ، وعثمان صبري ، وجكرخوين ، ورشيد حمو ، وشوكت حنان وغيرهم كثيرون .
تأثير تجربة كفاح البدرخانيين على الحركة الكردية السورية
تميز النهج القومي لنضال آل بدرخان بالجمع بين الكفاح المسلح ، والانتفاضات الثورية ، وبين العمل الثقافي ، والنضال السياسي ، فالى جانب الثورات التي اشعلوها في مناطقهم ضد السلطنة العثمانية ، قاموا في الوقت ذاته بتاسيس الجمعيات الثقافية ، وبناء مدارس وكتاتيب لتعليم اللغة الكردية ، وإصدار مجلات ، وطبع كتب تتعلق بالتاريخ الكردي وآدابه ، فهم اول من اصدر صحيفة كردية باسم – كردستان – الى جانب المجلة الشهيرة – هاوار – وغيرها من الدوريات التي كانت تصدر في استانبول ، وبيروت ، ودمشق ، ثم في مصر ، وقبل ذلك في أوروبا ، هذا مع الإشارة الى دورهم في تأسيس حركة – خويبون – التي انطلقت من القامشلي بداية ثم أعلنت في لبنان لاسباب سياسية امنية تتعلق بعلاقات فرنسا مع تركيا ، وقد شكلت هذه الحركة مقدمة لانبثاق الحركة السياسية الكردية السورية المعاصرة ، التي تاثرت بكامل التراث البدرخاني ، والنهج الذي اتبعوه .
لقد انعكست تلك التجربة بشكل اكثر وضوحا في مسار اليسار القومي الديموقراطي منذ كونفرانس الخامس من آب لعام ١٩٦٥ ، وذلك على شكل مواصلة النضال السياسي ضد الاستبداد ، ومن اجل الحقوق القومية والديموقراطية الى جانب بلورة الفكر السياسي للحركة ، وإعادة تعريف الشعب ، والقضية ، والحقوق ، والوسائل النضالية ، وتشخيص الأصدقاء ، والاعداء ، والخصوم ، وإصدار المزيد من الكراريس التثقيفية ، والمجلات ، والصحف ذات الطابع الفكري والثقافي ، وتاسيس الفرق الفولكلورية والغنائية لمواجهة سياسة التعريب وتغيير التركيب الديموغرافي ، ثم ايفاد الطلبة الكرد الى الخارج عبر المنح الدراسية من جانب الدول الاشتراكية – سابقا – ، وتم تتويج الجانب الثقافي بتاسيس الصرح الثقافي المرموق – رابطة كاوا للثقافة الكردية – وإصدار العشرات من الكتب ، والاعمال التاريخية ، والسياسية ، والثقافية ، وتنظيم مئات الندوات الثقافية في مركزها الرئيسي باربيل ، خلاصة القول نجحنا في عملية شرعنة التوأمة بين السياسي والثقافي والتصالح بينهما ، بل ان تجربتنا لاكثر من نصف قرن اثبتت اننا انطلقنا الى السياسي من خلفية الثقافي ، وثبتنا مبدأ عدم إمكانية الفصل بين النضالين السياسي والثقافي في الحالة الكردية السورية المشخصة .
المسار الذي سلكناه لم يكن سهلا بل كان محفوفا بالمخاطر ، خصوصا من جانب نظام الاستبداد الذي شعر بانه امام خصم عنيد مسلح بالفكر ، والثقافة يعرف مايريد ، لذلك اتخذ إجراءات غير عادية امنية بشكل خاص لمواجهة هذا الخصم ، واختراق صفوفه ، لشل حركته ونجح جزئيا في مخططه بد اية التسعينات ، الى جانب محاربتنا سياسيا ، ودعائيا من جانب نفر من الكرد المنتمين الى الحزب الشيوعي السوري الرسمي وجلهم من الاميين الذين لم يفهموا الماركسية اللينينية ، وانحرفوا عنها ، ومن المفارقات وخلال سعينا لتعليم وتثقيف فقراء شعبنا بالدول الاشتراكية كان احد الكرد المسؤولين في هذا الحزب ( مسؤول العلاقات الخارجية ) يرفع تقريرا للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي يطالب فيه بوقف المنح الدراسية لحزب الاتحاد الشعبي لانه حزب قومي بورجوازي ؟! . ( الرسالة والجواب الصادم عليها من المسؤولين السوفييت منشورة في مذكراتي ) .
عودة الى تعريف السياسي والمثقف في ساحتنا الكردية السورية راهنا
من الواضح ان الكردي السوري بشكل عام أينما كان وحيث ماحل وبغض النظر عن طبقته ، وبيئته الاجتماعية ، ومفاهيمه ، مسيس بالفطرة بسبب المعاناة أولا وتوفر وسائل التواصل المسموعة والمقروءة ، يمكنه التعبير عن آلامه ، وطموحاته ، ويطيب له التعاطي في أحوال العالم كما يشاء ، اما السياسي المحترف فاما ان يكون منتميا الى حزب من عشرات الأحزاب الموزعة بين طرفي الاستقطاب ( ب ي د و ب د ك س ) ، او ان يكون مستقلا حرا ، القسم الأول وكما هو معلوم تورط في الفساد على الأقل منذ نحو عقد من السنين ، وانحرف عن خط – الكوردايتي – وفقد الاستقلالية ، وفشل في انجاز اية مهمة من المهام القومية والوطنية ، واصبح جزء من المشكلة والازمة وهنا تتفاوت المسؤوليات بين من يقود سلطة الامر الواقع فهو الأكثر سوء وبين الطرف الاخر الذي يسعى الى المحاصصة مع الأول ، اما السياسي الوطني المستقل الذي يسعى الى تصحيح المسار ، وإعادة البناء ، وإنقاذ الحركة الكردية من حالة التفكك والانقسام فيختلف كليا عن السياسي الحزبي من حيث الفكر ، والمفاهيم ، والأخلاق السياسية ، وهو ليس في مواقع سلطة الامر الواقع ، ولا في موقع المستفيد من المال السياسي وبالتالي ليس في وارد استغلال الاخرين كما يفعله السياسي الحزبي في التسلط ، وزرع الاتباع ، ودفع الرشاوى ، وتجيير جماعات وتنظيمات من المجتمع المدني بمافيها المسمية بالثقافية لصالح حزبه .
المثقف الحقيقي الذي يستحق التسمية هو من يلتزم بقضايا شعبه ووطنه ، ويترفع عن ممالأة الاخرين لمصالح مادية ، ويقدم مالديه من معرفة من اجل اسعاد شعبه ، وترسيخ حركته السياسية الوطنية الديموقراطية ، ومن صفات المثقف الحقيقي المبدع في حالتنا الكردية السورية الوقوف الى جانب مساعي إعادة البناء ، والتصالح بين الثقافة والعمل القومي الوطني ، ومواجهة الفساد الحزبي ، وتصحيح الانحراف الفكري الحزبي حول الشأن القومي ، والعمل على بلورة المشروع القومي الوطني الكردي من اجل السلام ، والبحث عن سبل انقاذ الفكر القومي الديموقراطي ، والتمسك بالاستقلالية ، واغناء الشخصية الكردية السورية ، والخروج من اطر الجمود اوالانشغال بالتفسير الشخصاني للصراع ، دور المثقف الحقيقي الملتزم هو الابداع الفكري في خدمة الحركة بعيدا عن المصالح والمغانم .
هذا النوع متوفر بشكل وآخر بين صفوف شعبنا من النساء والرجال ، ولكن الخشية كل الخشية من من يتقمصون دور المثقف ويتبعون السياسي الحزبي سرا او علانية ، ومن يحشرون انوفهم في صراعات الأحزاب والحزبيين عبر الاستزلام او اثارة الفتنة ، ومن يهرعون للقاء السياسي الحزبي الفاسد في مكتبه او مكان اقامته في حين يجب ان يحدث العكس ، ومن يمارس نفس سلوك السياسي الحزبي بمؤسسات ثقافية في ضرب الديموقراطية ، وانتقال المسؤوليات ، والبقاء في سدة المسؤولية الى الابد .
المثقف الحقيقي الملتزم واثق من نفسه ، ويفرض احترامه على الجميع من دون عناء ، ويهابه الجميع بمن فيهم أصحاب السلطة والقرار ، وكمثال معروف ومتداول : اخبر قائد شرطة باريس الرئيس شارل ديغول ان هناك امر بالقاء القبض على – سارتر – لمخالفته القانون ، فاجابه ديغول : سارتر هو فرنسا فهل تلقي القبض على فرنسا ؟ .
يتبع ……

شارك هذه المقالة على المنصات التالية