الخميس, نوفمبر 21, 2024

الآداب والفنون السومرية… نظرة تاريخيّة في الأصالة والإبداع

وليد المسعودي_
إن حركة أي فن هي نتاج عملية الصقل المتواصل لجميع المؤثرات الداخلية والخارجية، المعاشة بشكل يومي، والمحيطة بها من ثقافات، وأفكار بشرية وافدة بفعل عمليات التبادل الناتجة عن الغزو، والتجارة، والانتقال، والهجرات الجماعية، البشرية.
كل ذلك يؤثر على الفن، ويجعله متشبثاً لإطاره وشكله النهائي، ولا ينفصل الفن السومري عن هذه المؤثرات، حيث يواصل تقدمه، وإن كان بشكل بطيئاً، ولكن ما يميزه هو التفرد والاتقان ضمن جماليات الزمن المنتج لفنهم، وخصوصا بما نقصده هنا في مجال النحت السومري، الذي كثيرا ما ركز على تجسيم المنحوتات من خلال الكتابة على أكتاف وظهور بعض الأعمال النحتية، والتي من الطبيعي لا تنفصل عن تأثيرات النسق المهيمن، عن تأثيرات الدين والرؤية السائدة للمعابد، وتصوراتها حول علاقة الإنسان مع ربه.
النحت المجسم
التماثيل المستخرجة من “تل أسمر” ومن ضمنها تماثيل الملك جوديا حكم من سنة (٢١٢٤ _ ٢١٤٤ ق. م) تظهر فيها كتابات تشير إلى علاقة الملك مع الآلهة، وهي في النهاية لا تقصد سوى الدعاء والتقرب إليه زلفى، إذ كتب على أحد تماثيله “إلى ملكي الذي بنيت معبده، وعسى أن يثيبني الحياة”.
وهكذا مع بقية التماثيل، التي لا تعبر عن رؤية الملك نفسه فحسب بل عن رؤية الناس العاديين، الذين تصنع لهم التماثيل تقربا وتعبدا الى الآلهة، لا أكثر ويتم إهداؤها أو تقديمها إلى المعبد.
إن الأجسام المنحوتة سومريا كانت مليئة بالضخامة حيث تظهر قوة الشخصية من حيث تركيزها على ملامح الوجه والعينين، بالرغم من غياب النزعة الطبيعية، كما يقول ليونارد وولي، إذ لم تظهر بأوضح صورها إلا في العصور التالية، وجل ما تركز عليه هذه التماثيل هو ملامح الوجه، إبراز القسمات في الوجنتيْن، حيث تشبهان الهلال في شكلهما، وحتى اللحية تكون عادة أكثر تلاصقا بالوجه، وكأننا أمام مثلثات تنتهي بالأنف والفم.
ولكن ليس المنحوتات المجسمة كلها تظهر بهذه الضخامة، إذ إن الأخيرة قد تكون محصورة فقط للملوك، فهذا تمثال “دودو” كاتب سومري لا يحمل تلك الضخامة، يظهر حليق الرأس واللحية مرتديا لباسا من الفرو ومكتوب على ظهره الصفة، أو المهنة، التي يشغلها وهي مهنة الكتابة، والتماثيل المصنوعة عادة ما توضع على هياكل القصور والبيوت وهي مكونة من تماثيل آلهة، وبشر، وحيوانات، وأهم المكونات المستخدمة هي مواد الحجر “الديوريت” والنحاس والفضة.
وبشكل عام يظهر التجريد في صناعة التماثيل السومرية ضعيفا من حيث تصويرها للأجسام، وذلك بحكم بدائيتها وجل ما تركز عليه في تجريدها كما أسلفنا أعلاه، هو إبراز طبيعة الوجه وخصوصا في إبراز العينين والوجنتين، لما فيهما من دلائل تشير إلى قوة الشخصية واستقلالها، وهو في النهاية استقلال سياسي بالدرجة الأساس.
النحت البارز
ولم يكتفِ الفن السومري في النحت المجسم في صناعة التماثيل فحسب، بل هناك أيضا الإبداع في النحت البارز على الجدران في منحوتات أو مسلات تظهر الوقائع السياسية، وطبيعة الأفكار والقوانين والشرائع، التي تسنها الآلهة والملوك، فضلاً عن نحت الأختام الأسطوانية وكلها تعبر عن روح الشخصية السومرية.
فمثلا مسلة الملك كوديا، والتي يبلغ ارتفاعها ٣.٥ م، وعرضها ١.٥ م، تشير إلى الطابع الديني حيث يظهر كوديا بمثابة الوسيط الذي يؤدي فعل الخصوبة، وهو يحمل غصنا من شجرة في يديه بينما اليد الأخرى تقودها يد الآلهة، ويعتقد أنه ننكشزيدا حيث يظهر بدوره وهو حامل لرأسين من الأفاعي على كتفيه بينما يسير أمامه أحد الآلهة، والمشهد كله يوضح عملية التقرب الإلهي خصوصا مع وجود الماء، الذي يرمز لإتمام عملية الخصوبة بفضل الإله أنكي وكله في النهاية بمثابة دعوة للرضا عنه وتثبيت حكمه أكثر فأكثر فضلاً عن تحقيق الشفاعة عند الآلهة الأكبر، والوسيط هنا إله ” ننكشزيدا “
في حين تظهر مسلة الملك أورنمو (٢١١٢ _ ٢٠٩٥ ق. م) بحلة أكثر وضوحا،  وتركز على فعل الخصوبة من خلال صورة الملك أورنمو المزدوجة وعلى الجانبين في اليسار واليمين مرة أمام الإله ننكال، ومرة أخرى أمام الإله ننار وفي الحالتين تمارس عملية سكب الماء مع حماية الإله له والتقرب إليه، ولا تنفصل مشهدية المسلة عن فكرة البناء حيث يظهر نفسه الملك، أورنمو وهو يحمل أدوات البناء ويساعده أحد الكهنة، وكلها تشير إلى عملية تثبيت الدولة أكثر فأكثر مع حماية إله القمر نانا، الذي يرمز له بالهلال أو النجمة المعلقة في أعلى المسلة، وما يترسخ في الأسفل ليس سوى عمليات تبجيل، وتعظيم للإله ماثلة في تقديم القرابين وذبح الخرفان والثيران، وهي طقوس تقام بشكل سنوي حيث تصاحبها احتفالات بهيجة، وضرب على الطبول الكبيرة.
وهكذا مع بقية المسلات المنحوتة على الجدران كلها تبرز الوقائع السياسية والاجتماعية السائدة في بلاد السومريون، فضلاً عن وجود رغبات الملوك بتخليد أسمائهم، وانتصاراتهم العسكرية كما هو الحال مسلة شو-سين (٢.٣٧ – ٢٠٢٩ ق. م) رابع ملوك سلالة أور الثالثة.
إن النحت البارز يتجاوز الرسم على الجدران في تكوين المسلات ليصل الى عمل الأختام الأسطوانية، التي تعبر عن حياة السومريين وطقوسهم للملوك، أو للناس العاديين، حيث يدون فيها بشكل مختصر اسم الشخص الملك مثلا ووظيفته، بشكل مزخرف في غاية الإتقان، إضافة إلى العائدية أو ملكية الأختام ولمن تعود، كما تكتب عليها رموز الآلهة كل ومن يمثله، إله القمر مثلا سن (ننار) رمزه الهلال، وإله الماء أيا (أنكي) يرمز له بحيوان مزدوج يجمع بين العنزة، والسمكة، وهو حيوان خرافي، ولكنه كرمزية يشير إلى الإله أيا (أنكي).
وهناك مادة تقديم المشاهد على الأختام الأسطوانية، وهي عبارة عن تعبيرات تظهر القدسية، والتبجيل للعبد إزاء الآلهة أو مشاهد تظهر تقديم العبد للقرابين من أجل الحصول على بركة وشفاعة الآلهة نفسها.
وهكذا لا ينفصل النحت السومري عن فطرة الإنسان وغريزته وواقعه المعاش، ورغبته في البقاء ومحاربة الأعداء سواء كانت مادية ماثلة في صور العدو الخارجي أو معنوية مرتبطة ببقاء النفوذ، والمكانة لدى المجتمع السومري.

​الثقافة – صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية