م. أحمد زيبار
بعد أكثر من ستة عقود من حكم الحزب الواحد والفرد الواحد في سوريا، وأربعة عشر عاماً من حربٍ أنهكت البلاد وأرهقت شعبها، كانت وما زالت مسألة التفرد في القرار السياسي أخطر التحديات التي تواجه السوريين. فالمشكلة لم تعد مقتصرة على شخصٍ بعينه أو نظامٍ سياسي محدد، بل أصبحت نمط تفكير وسلوكاً مترسخاً في البنية السياسية السورية، من قمة السلطة إلى أصغر تنظيم حزبي. إن سقوط الحاكم الفرد لا يعني نهاية التفرد، لأن هذا المرض لا يرتبط بالأشخاص بقدر ما يرتبط بالعقلية التي تنتجهم.
ظنّ كثيرون أن هروب الأسد وسقوط النظام القديم سيشكل بداية لمرحلة مختلفة تقوم على المشاركة والشفافية، إلا أن الوقائع أثبتت أن بنية القرار ما تزال أسيرة العقل نفسه. المؤتمرات الشكلية، تزكية الأشخاص بدل انتخابهم، تحكم جهة واحدة في مؤسسات الدولة، والتعامل مع الشعب بوصفه تابعاً لا شريكاً، كلها شواهد على أن الشكل تغيّر بينما الجوهر بقي على حاله. إن استبدال فردٍ بفرد، أو حزبٍ بحزب، من دون تغيير قواعد إنتاج السلطة، ليس سوى إعادة تدوير للاستبداد.
المفارقة أن كثيراً ممن ينتقدون النظام السابق والنظام الحالي يمارسون داخلياً السلوك ذاته. يرفعون شعارات الديمقراطية، لكن قراراتهم تتخذ في غرف مغلقة، ويحتكرون الشرعية باسم الثورة أو القضية أو التاريخ النضالي. وهكذا يتحوّل النقد إلى وسيلة لإدانة الآخر لا لتصحيح الذات. إن أخطر صور الاستبداد هي تلك التي تتخفّى وراء خطاب الحرية.
وتجسد كل الحركات والأحزاب السورية، ومنها الحركة السياسية الكردية، مثالاً واضحاً على آثار التفرد، فرغم عدالة القضايا التي ترفعها حركتنا والشعارات التي تتبناها. فقد عانت من انقسامات متكررة، وضعف في بناء المؤسسات التنظيمية، وهيمنة أفراد على القرار المصيري، ما أدى إلى شلل سياسي، وإبعاد الكفاءات، وتراجع في قدرة الحركة على تمثيل تطلعات الشعب الكردي، ونتج عنه أيضاً عدم استطاعة الحركة في الحفاظ على استقلالية قرارها وفتح المجال لتدخلات من جهات متعددة. المشكلة لم تكن في الفكرة القومية، بل في غياب آليات ديمقراطية داخلية تحمي القرار من نزوات الأشخاص.
التفرد ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو أصل كل أشكال الفساد والقمع، لأنه يُسقط مبدأ المحاسبة ويحوّل الدولة أو الحزب إلى ملكية خاصة. الدول التي تنهار لا تسقط دائماً بفعل الحرب، بل لأنها لم تُبنَ على مؤسسات قادرة على الاستمرار بعد رحيل الأفراد. فحين تُختزل الدولة في شخص، يسقط كل شيء بسقوطه، وحين يُختزل الحزب في زعيم، ينهار التنظيم برحيله. لذلك، فإن الديمقراطية لا تبدأ بالصندوق، بل بثقافة المشاركة وفضيلة القبول بالعقل الجماعي.
ولكي نواجه التفرد، علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا تستمر المجتمعات في إنتاج الزعيم الفرد؟ لماذا يبقى “المخلّص” فكرة جذابة رغم كل التجارب المريرة؟ لأن غياب المؤسسات يجعل الفرد القوي هو البديل الوحيد، وغياب القانون يحوّل الإرادة الشخصية إلى سلطة مطلقة. وهكذا، يصبح الاستبداد حاجة نفسية بقدر ما هو ممارسة سياسية.
إن الصراع الحقيقي في سوريا اليوم ليس بين نظام ومعارضة، بل بين نموذجين للحكم: نموذج يقوم على المشاركة والمؤسسات، ونموذج يقوم على احتكار القرار مهما تغيّرت الشعارات. التخلص من تفرد الحاكم لا يكتمل ما لم نتخلص من تفرد القائد الفذ الذي يُمنح له الأبدية، إلى القائد الكاريزمي الذي يُصاغ حوله وهم “لا بديل عنه”، وصولاً إلى شيخ العشيرة الذي تختزل الجماعة نفسها في صوته، وحتى الأب داخل الأسرة. فالتفرد في القرار ليس أزمة سياسية فقط، بل خلل ثقافي واجتماعي عميق، يتسلل إلى اللغة والعلاقات والعادات، ويمنع المجتمع من أن يرى جمال التعدد وضرورته.
سوريا اليوم أمام مفترق طرق حاسم. إما أن تبني نظاماً سياسياً قائماً على الشراكة، وإما أن تعيد إنتاج استبداد بواجهة جديدة. فالديمقراطية ليست مشروعاً عابراً، بل ثقافة تعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع على أساس المواطنة لا الولاء، والحق لا القوة. ولن يصبح النقد ذا قيمة ما لم يبدأ كل تنظيم وكل حركة بتطبيق ما تدعو إليه على نفسها لا على الآخرين.
إن التحرر الحقيقي يبدأ عندما نضع الإنسان فوق السلطة، والمؤسسات فوق الأفراد، والواجب فوق الأنا. عندما ندرك أن العقل الجمعي أوسع وأعمق من أي عقل فرد مهما امتلك من خبرة. وعندما نمتلك الشجاعة لنقد أنفسنا قبل نقد خصومنا. عندها فقط يمكن أن يسير المجتمع نحو التعافي، ويتحرر من الدائرة المغلقة التي أعادت إنتاج الاستبداد لعقود. أما إذا واصلنا مطاردة الاستبداد في الخارج بينما نحمله في داخلنا، فسنظل ندور في المكان ذاته مهما تغيّرت الشعارات.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=80484




