الإبادة الكوردية بين الذاكرة والتاريخ

عباس عبد الرزاق

الإبادة الكردية بين الذاكرة والتاريخ: قراءة نقدية في كتاب “The Palgrave Handbook of Kurdish Genocides”

مقدّمة

( دليل بالغريف للإبادة الجماعية الكردية )

يُعدّ كتاب The Palgrave Handbook of Kurdish Genocides أحد أبرز الإسهامات الأكاديمية المعاصرة في دراسة الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الشعب الكردي، خاصة خلال القرن العشرين.

تحاول الباحثة كازيوه صالح من خلال هذا العمل الموسوعي أن تنقل النقاش من مستوى التوثيق السياسي إلى التحليل المعرفي والأنثروبولوجي، واضعةً الإبادة في سياقها التاريخي والاجتماعي والرمزي.

إنه كتاب يتجاوز الحكاية المأساوية نحو تفكيك بنية العنف ذاته — كيف يتشكّل؟ كيف يُبرَّر؟ وكيف يُعاد إنتاجه تحت مسميات جديدة في الدولة الحديثة؟

أهمية الكتاب:

يُعدّ كتاب «دليل بالغريف لإبادات الأكراد» بإشراف كازيوه صالح من أهم المراجع الأكاديمية الحديثة التي تتناول قضية الإبادة الكردية من منظور شامل ومتعدد التخصّصات. تكمن أهميته في كونه أول عمل موسوعي يجمع بين الدراسة التاريخية والسياسية والأنثروبولوجية والقانونية لتوثيق ما تعرّض له الشعب الكردي من جرائم ممنهجة عبر العقود.

لا يقتصر الكتاب على السرد التاريخي، بل يسعى إلى تحليل الجذور الفكرية والسياسية للعنف الموجّه ضد الأكراد، ويبرز تأثيراته الاجتماعية والثقافية العميقة على الهوية والذاكرة الجمعية. كما يقدّم مساهمات نوعية في مجالات العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان والمساءلة الدولية، مما يجعله مصدرًا أساسيًا للباحثين وصنّاع القرار والمهتمين بفهم آليات الإبادة وسبل منع تكرارها.

إنه عمل لا يكتفي بتوثيق الألم، بل يدعو إلى الاعتراف والمصالحة وبناء مستقبل يقوم على العدالة والكرامة الإنسانية.

المحور الأول: الرؤية العامة والمنهج

العمل يقوم على مقاربة متعددة التخصّصات (Interdisciplinary)، حيث تلتقي دراسات التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والقانون الدولي ضمن بناء معرفي متكامل.

ولا يكتفي الكتاب بتأريخ الوقائع، بل يسعى إلى تفكيك المنظومات التي أنتجت فكرة الإبادة، من الخطاب القومي والديني إلى البنية البيروقراطية للسلطة الحديثة.

كما يعتمد منهجًا مقارنًا يضع “الإبادة الكردية” في حوار نقدي مع حالات مثل الأرمن والبوسنة ورواندا، ليكشف أن منطق الإبادة ليس استثناءً في التاريخ، بل هو جزء من عقل الدولة الحديثة حين ترفض التعدد والاختلاف.

المحور الثاني: البنية التاريخية والسياسية

يستعيد القسم الأول جذور الإبادة في المسألة الكردية منذ انهيار الدولة العثمانية وصعود الدول القومية في الشرق الأوسط.

تُظهر الفصول أن العنف ضد الأكراد لم يكن وليد الحرب أو الصراع المسلّح فقط، بل هو نتاج مشروع سياسي متراكم يقوم على الإقصاء والإنكار، أي “نفي الوجود الثقافي والسياسي للكرد” بوصفه مقدّمة للعنف المادي.

في هذا السياق، تمثّل حملات الأنفال (1987–1988) ذروة هذا المسار، حين تحوّل الإنكار إلى سياسة منظمة للإبادة، استخدمت فيها أدوات الدولة الحديثة: الجيوش، القانون، الإعلام، والمبررات القومية.

المحور الثالث: الإبادة كحدث اجتماعي وثقافي

يتقدّم الكتاب خطوة أبعد من التحليل السياسي، حين يطرح سؤالًا محوريًا:

ماذا يحدث للمجتمع بعد الإبادة؟

تتناول كازيوه صالح وزملاؤها مفهوم “الإبادة الممتدة” (Extended Genocide) أي أن العنف لا ينتهي بانتهاء القتل، بل يستمر في الذاكرة، في اللغة، في بنية الوعي الجمعي.

فالمدارس التي تمحو اللغة الكردية، والخرائط التي تلغي القرى، والمناهج التي تُنكر الهوية، كلّها امتداد للعنف نفسه.

هنا يتداخل السوسيولوجي بالأنثروبولوجي، في تحليل العلاقة بين الذاكرة والهوية، وكيف تتحوّل الثقافة إلى مساحة مقاومة للإنكار.

المحور الرابع: العدالة والاعتراف

أحد أهم فصول الكتاب يناقش فشل العدالة الدولية في الاعتراف الكافي بالإبادة الكردية، وغياب الإرادة السياسية في معالجة آثارها.

يرى الكتاب أن الاعتراف ليس حدثًا قانونيًا فحسب، بل هو فعل أخلاقي ومعرفي؛ لأن الاعتراف بالحقيقة يعني مقاومة النسيان وإعادة الاعتبار للضحايا.

من خلال هذا المنظور، تتحوّل العدالة إلى مشروع ثقافي طويل المدى، يقوم على التعليم، التوثيق، وإعادة بناء الخطاب العام حول الإبادة.

المحور الخامس: ما بعد الإبادة – الهوية والمستقبل

يختتم الكتاب بقراءة في تحولات الهوية الكردية المعاصرة بعد المأساة.

يرى أن الإبادة، رغم فظاعتها، ساهمت paradoxically في تعزيز الوعي الجمعي الكردي بضرورة الوجود، والحفاظ على الذاكرة كفعل مقاومة.

كما يتناول أثر الشتات والمنفى في تشكيل سرديات جديدة للانتماء، تفتح المجال أمام ثقافة سلام لا تنكر الجرح، بل تبني عليه وعياً إنسانياً جديداً.

التحليل النقدي:

من الناحية الأكاديمية، يمتاز الكتاب بثلاث نقاط أساسية:

1. الموسوعية: جمع عدد كبير من الباحثين من خلفيات مختلفة لتكوين رؤية شاملة.

2. العمق التحليلي: الانتقال من “السرد” إلى “البنية” — من الحدث إلى نظام العنف الذي صنعه.

3. البعد الإنساني: الحضور القوي لشهادات الناجين وأصوات الضحايا يمنح النص بعداً وجودياً لا يمكن اختزاله في الأرقام.

أما من زاوية النقد، فقد يُلاحظ أن التنوّع المنهجي جعل بعض الفصول متباينة في الأسلوب والاتجاه الفكري، وأن الكتاب لا يقدّم نموذجًا موحدًا للتأريخ بقدر ما يفتح المجال لحوار أكاديمي مفتوح حول مفهوم الإبادة.

الخاتمة:

يشكّل The Palgrave Handbook of Kurdish Genocides منعطفًا معرفيًا في دراسات الإبادة، لأنه ينقل مأساة الأكراد من الهامش الإنساني إلى مركز النقاش الأكاديمي العالمي.

إنه ليس كتابًا عن الماضي فقط، بل عن ذاكرة لم تكتمل بعد — ذاكرة تستدعي التفكير في معنى العدالة، وفي إمكان بناء مستقبل يرفض التكرار.

يذكّرنا هذا العمل بأن دراسة الإبادة ليست بحثًا في الموت، بل في كيفيّة إعادة إحياء الذاكرة كي لا يُعاد إنتاج القتل من جديد. القيمة العلمية للكتاب:

أوّل عمل شامل باللغة الإنكليزية يغطّي الإبادات ضد الأكراد من القرن العشرين حتى اليوم.

يجمع بين الدراسات الأكاديمية والشهادات الشخصية، ما يمنحه عمقًا إنسانيًا. يعدّ مرجعًا ضروريًا في مجالات: دراسات الإبادة، الشرق الأوسط، حقوق الإنسان، دراسات الذاكرة الثقافية

المصدر: المسرى

 

Scroll to Top