عمر صحناوي -السويداء
تشكل الانتخابات البرلمانية التي جرت في سوريا وفق نظام التعيين والتزكية نموذجاً واضحاً للانحراف عن جوهر الديمقراطية. ففي المظهر العام تبدو العملية وكأنها انتخابية، غير أنها في الحقيقة تفتقر إلى أبسط مقومات الاختيار الحر والمباشر الذي يضمن للمواطنين حقهم في تحديد ممثليهم، إذ تُدار العملية من خلال نظام انتخاب غير مباشر يعتمد على لجان فرعية تختار بدورها أعضاء البرلمان، ما يجعلها خاضعة لإرادة مجموعة محدودة من الأفراد تملك سلطة القرار، فتتحول الانتخابات إلى إجراء مغلق بعيد عن المشاركة الشعبية الواسعة.
جاء الترشح لعضوية مجلس الشعب ضمن شروط مقيدة وقوانين مُسبقة تستبعد فئات وشخصيات سياسية عديدة، خصوصاً أولئك الذين يحملون مواقف مغايرة للسلطة القائمة، وهو ما ضيّق هامش التنافس وألغى التعددية الفكرية والسياسية. ونتيجة لذلك، فقد البرلمان دوره الطبيعي كمؤسسة رقابية وتشريعية تعبّر عن إرادة الناس، ليغدو في كثير من الأحيان تابعاً للسلطة التنفيذية. إن ما يجري ليس إلا محاولة لإضفاء شرعية شكلية على النظام السياسي القائم أكثر مما هو ممارسة ديمقراطية حقيقية.
ورغم تبرير النظام الانتخابي الجديد بأنه مؤقت ويستند إلى ظروف استثنائية، كضعف البنية التحتية لإجراء انتخابات مباشرة، إلا أن جوهره يقوم على تكريس سلطة التعيين وإقصاء مبادئ الشفافية والمساءلة التي تشكل أساس أي عملية ديمقراطية حقيقية. وهكذا يُعاد إنتاج مركزية السلطة، ويُحرم الشعب من حقه في الاختيار والمشاركة الفاعلة في صنع القرار، ما يوسع فجوة الثقة بين المجتمع والحاكم ويُضعف منظومة الحوكمة والمجتمع المدني على حد سواء.
آلية الانتخابات وتكريس السلطة
اعتمدت آلية الانتخابات البرلمانية في سوريا شكلاً غير مباشر قُدِّم بوصفه وسيلة انتقال سياسي مرحلي، لكنها عملياً جسّدت آلية لترسيخ السلطة بيد الحُكام الجدد. لم تُجرَ عملية اقتراع مباشر من الشعب، بل جرى تعيين اللجان الفرعية في المحافظات بعناية من قبل الحكومة الانتقالية، وهذه اللجان اختارت بدورها “هيئات ناخبة” محلية تقوم بانتقاء أعضاء البرلمان، لتصبح العملية برمتها مغلقة ومتحكمًا بها من الأعلى إلى الأسفل.
يمثل هذا النظام أحد أبرز مظاهر استمرار هيمنة السلطة، فهو ليس مجرد إجراء إداري بل يحمل أبعاداً سياسية عميقة تحافظ على مركزية القرار. إذ تحولت العملية الانتخابية إلى ميدان للمحسوبية والولاءات السياسية والشخصية، فيما غاب المبدأ الأهم في الديمقراطية: الكفاءة والتمثيل الشعبي الحقيقي. وهكذا بات البرلمان مؤسسة تخضع لتوازنات ضيقة، لا تعكس تنوع المجتمع السوري، بل تعبّر عن إرادة الجهات التي صاغت المشهد الانتخابي مسبقًا.
هذا الإقصاء الممنهج للقوى السياسية المستقلة والمجتمع المدني أضعف أي إمكانية لتطوير مؤسسات ديمقراطية فاعلة، وأبقى النظام السياسي رهينة حكم مركزي بعيد عن التعددية والمنافسة. وتحول البرلمان، في هذا الإطار، إلى أداة لإضفاء الشرعية الشكلية على السلطة دون أداء أي وظيفة رقابية أو تشريعية حقيقية، مما خلق فراغاً في الرقابة والمساءلة وأضعف الثقة بالمؤسسات العامة.
التأثيرات السلبية على الواقع السياسي
كرّست هذه الآلية الانتخابية نموذجاً لبرلمان يساهم في إعادة إنتاج السلطة بدلاً من مراقبتها. فقد أُبعدت المساءلة القانونية والسياسية، وتوحّدت المسارات ضمن دائرة تضحي فيها حرية التعبير والمنافسة السياسية لصالح بقاء السلطة. هذا الواقع عمّق أزمة الثقة بين المواطن والنظام السياسي، وزاد من حدة الاستقطاب الداخلي، وأبعد المواطنين عن المشاركة في إدارة شؤونهم، ما أدى إلى عزلة سياسية وضعف مؤسساتي متفاقم.
إضافة إلى ذلك، فإن استبعاد محافظات ومناطق كاملة من المشاركة في الانتخابات يمثل خرقاً خطيراً للمبدأ الدستوري القاضي بالمساواة بين المواطنين. فالعملية الانتخابية لم تشمل جميع المناطق ولم تعبّر عن التنوع الجغرافي والاجتماعي والسكاني الحقيقي، مما فاقم شعور الإقصاء والتهميش وأضعف شرعية البرلمان الجديد، وفتح الباب أمام مزيد من الانقسام السياسي والاجتماعي، ما يجعل من الصعب بناء توافق وطني جامع أو إطلاق عملية سياسية متوازنة.
إن ما يسمى بالانتخابات البرلمانية في سوريا لا يمكن النظر إليه كخطوة انتقالية نحو الديمقراطية، بل كوسيلة لاستدامة السلطة ضمن قوالب مؤسساتية ظاهرها انتخابي وباطنها تعييني. فالعملية الانتخابية القائمة لا تُنتج تمثيلاً حقيقياً للشعب، بل تعيد تدوير نفس النخب السياسية ضمن بنية سلطوية مغلقة، تُقصي التعددية وتحاصر الأصوات المستقلة.
وبذلك، يتحول البرلمان إلى واجهة شكلية لنظام يرفض المشاركة الشعبية ويخشى المحاسبة، ما يجعل الديمقراطية في سوريا أقرب إلى عنوان رمزي منها إلى ممارسة سياسية فعلية. إن استمرار هذا النهج يعني إدامة الانفصال بين الدولة والمجتمع، وإضعاف أسس الدولة المؤسساتية التي تقوم على التمثيل والمساءلة، لتبقى فكرة التغيير الديمقراطي مجرد أمنية مؤجلة في ظل نظام يُحكم قبضته باسم الإصلاح والانتقال.
المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=77809