التراث والهوية من ضيع تراثه ضاع

خديجة مسعود كتاني

لطالما كان كبارالسن حراس الذاكرة وحماة المعارف التقليدية، إنها عبارة في مخزون اللاوعي وصورة في الذاكرة لا تمحى تقود الى التجذر٠لاحاضر لأمةٍ تجهل ماضيها، قد تكون معرض لسؤال في أي لحظة (من أنت ؟) ذلك الرابط المتين بين التراث والهوية، يحمل الفلسفة الوجودية النابعة من حقائق تشكل الذات الشخصية والجماعية

إذن التراث هو حاصل جمع الناتج الثقافي بما يحمل من تطورات و شواهد ووقائع لأحداث فرزتها طبيعة العصور والعوامل المؤثرة ، فهو لايتوقف عند حدود أو محطات تأريخية معينة، بل هو كل ما تعكسها عجلة الحياة ضمن الواقع الحضاري المستمر بأخذه وعطائه كمؤشر للمستوى الحضاري الذي بلغه شعب ما على ضوء إنجازاته وإخفاقاته. مبيناً ذلك الإمتداد بكل تحولات الحاضر وإحتمالات المستقبل،  كسمة أصيلة لا يمكن الفكاك منها لانها تحمل كينونتنا٠ فالتراث لايقتصر فقط على الصروح والشواخص الأثرية، بل هو كل ماتوارثناه من معطيات مادية ومعنوية تجسد مسيرة التطور المجتمعي.

العوامل المعنوية : كالفلكلور الذي يتضمن  الرقصات، الأغاني والموسيقى، مختلف العادات، المطبخ، الأعمال والنشاطات اليومية من العاب، مهن ومهارات.

العوامل المادية : الصروح المعمارية المختلفة، الحلي والمجوهرات، المقتنيات والعُدَدْ بأنواعها، الملابس  … الخ ٠ فهو مصدر ثري لاينضب من الحقائق والمعرفة والأصالة والإعتزاز بالنفس فهو في الواقع جزء لايتجزأ من الثقافة الشعبية والعامة والهوية الوطنية٠

ومن الجدير بالذكر أنَّ موضوع (العلاقة بين التراث والهوية) إكتسب اليوم أهمية متزايدة في ظل إشكالات الحداثة والعولمة الكاسحة والباسطة نفوذها على كل شيء، كالخوف من الإنصهار في الثقافات الأخرى في وقت بات فيه الكثير من مظاهر الثقافة الشعبية مهددة بالإندثار. مما يدعو الى إعادة النظر بشكل جدّي والتشبث بالقيم التراثية قدر المستطاع وعدم غض النظر عن أهميته، لانه مهما لمعت مظاهر الحضارة فتراثنا الأصيل يشكل العمود الفقري لخصوصيتنا وإرثنا الحضاري عبر العصور ٠

علماً أنَّ العالم يتجه اليوم الى طمس الهويات الوطنية للشعوب، تذويبها وتهجينها بوسائل متعددة، ضمن إحدى صيغ المواجهة الحضارية التي يخوضها العالم المتقدم لتوسيع الفجوة بين الإنسان وجذوره التأريخية٠هذا لايعني عدم الإستقاء من الحضارة الحديثة ولكن ضمن حيز متوازن، على سبيل المثال : كأنك تبدل قطعة أثرية أصيلة تحاكي هويتك بقطعة أخرى مزيفة لاتعبر عن أي عمق تأريخي.

لذا يجب أخذ الحيطة والتزود بالوعي التام في كيفية الحفاظ على ذلك الرابط الأصيل في عصر تلاطم الإسباب والدوافع التي تسحبنا تحت هيمنة ثقافات تسعى لمحو هويتنا بمرور الزمن٠المحافظة على التراث كركيزة أساسية وبنى تحتية مهمة، إضافةً كونها مسؤولية ورسالة وواجب وطني مقدس٠ فهدم الماض يجعل عودته ضرب من المستحيل٠

خطوات نحو الإرتقاء بتراثنا

  1. وضع برامج خاصة لدعم هذا المجال المهم، مثل بناء وترميم المناطق الأثرية بشكل فني بمساعدة ذوي الإختصاص في مجال ألآثار، نظراً مما أصابها من تكسر وتشوه على مر السنين٠ ليصبح ملاذاً لذوي الاهتمام من علماء الآثار والتأريخ سواء من داخل الوطن أوخارجه. إضافة الى طلاب الدراسات والهواة والسواح وغير ذلك٠
  2. تشجيع ودعم الفعاليات الشعبية الفلكلورية كالرقصات (الدبكات الكوردية الأصيلة المتعددة التي تعبر عن الوحدة، الوحدة والقوة) والإشتراك في المهرجانات الدولية سواء داخل البلاد أو خارجه على مستوى (دولي) خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي ضمن إطار تنسيقي وطني٠تقديم عروض خاصة للملابس الكوردية بأنواعها سواء للنساء أو الرجال بتفاصيلها وتغيراتها عبر العصور ٠ تعريف المطبخ الكوردي الثري والمتنوع كوجه حضاري، تراثي وسياحي حيوي مهم٠ إعادة تأهيل مناطق التصييف ضمن شروط السياحة المتقدمة لاستقطاب السواح وإبراز الوجه الحضاري الحقيقي لمناطقنا ٠

 

أجدادنا

أجدادنا ذاكرة المعارف التقليدية، ونحن في عصر التسارع التقني والتحول الاجتماعي، يبقى هؤلاء الكبار الشواهد على التأريخ، وكنز محفوظ  يحمل ثمار الحكمة والمعرفة وتجارب الحياة٠ فالتناقل الشفاهي على مدار القرون وجدت ملاذها في (صدر الحفاظ) أي أولائك الذين تتبعوا مسيرة الحياة بادق تفاصيلها ومستجداتها ضمن يومياتهم ، ووفق الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية، هذه المعارف ليست عشوائية أو إرتجالية كما يضن البعض بل هو ثمرة نظام معرفي نابع من تفاعل طويل بين الإنسان وبيئته٠ فهم بمثابة مكتبات متنقلة تضم خلاصة الفهم الشعبي،  وتتضمن وقائع، حكايات قصص مختلفة، أمثال أهازيج، الطب الشعبي، الحرف، العادات والتقاليد، المناسبات على أختلافها وكافة الإحتياجات التي تُفَعِّل النشاط البشري لتوفيرها عبر مسيرة الحياة٠ فمثلاً في القرى يعرف الفلاح المخضرم متى يزرع ويجني، لا بتقويم رقمي بل بالنظر الى القمر أو طلوع النجم أو تفتح الزهرة ويعرف الصياد موسم الصيد وتوقيت الزمن، فكل معلومة مخزونة لدى أصحاب الخبرة، تتناقل عبر العلاقات (الإحتكاك الشعبي) حتى أطلق (اليونسكو) على أولائك الكبار (الكنوز البشرية الحية) كونهم يمتلكون مهارات تقليدية نادرة تشكل جزء أصيل من التراث الثقافي الغير المادي للبشرية٠

ومن الأمثلة البارزة على الطب الشعبي، ما كانت تمارسه جدة والدي، السيدة أسمر، وهي من سكنة قرية (دير كشنيك)، (دێر گژنیک) من قرى كوردستان العراق، خبيرة في الطب الشعبي ولقبت (بحكيمة منطقة الدوسكي)، في زمن شحة وقلة الأطباء في مناطقنا ونظراً لمزاولة الناس الكثير من الأعمال في الجبال والمناطق المحيطة، كقطع الأخشاب للتدفئة والصيد وجني النباتات للطهي والعلاجات المرضية وغيرها من الأعمال التي تسببت في زيادة الحوادث وخاصة التعرض للحيوانات الضارية أوالسقوط من المناطق العالية والوعرة، خاصة في الفصول الباردة عند زيادة السواقط من ثلوج وأمطار٠ فمن الحقائق الملفتة أنَّ جدة والدي (أسمر) ذات الخبرة الواسعة في النباتات الطبية من حيث أماكن تواجدها والتعرف عليها وكيفية إستخدامها في الخلطات العلاجية والحالات المختلفة كصنع المراهم والمعقمات وخياطة الجروح البليغة حتى جروح الرأس باستخدام خيوط خاصة من أمعاء الخرفان بعد دباغتها وتعقيمها والكثير من الحالات النادرة ٠ وكان لجدته السيدة أسمر أثر كبير في حياته، إذ نهل الدكتور مسعود كتاني من خبرتها الواسعة في الطب الشعبي، مما شكّل أساسًا مبكرًا لاهتمامه بهذا المجال، وحصل على (لقب طبيب نباتي) من المجلس العلمي العربي، ووزارة الصحة العراقية بعد دراسة وأبحاث مستفيضة أثناء الدكتوراه في النمسا. اختار أن يجعل من الطب الشعبي اختصاصًا ثانويًا إلى جانب دراسته الأساسية، وأجرى أبحاثًا ميدانية في جبال الألب، حيث قارن بين النباتات الطبية هناك وتلك التي تنمو في جبال كردستان. وكان دائمًا يردد بإعجاب: (منطقة كردستان صيدلية كبيرة لا يُستهان بها)، في إشارة إلى غنى تنوعها النباتي وقيمته العلاجية.  وأهالي المنطقة وخاصةً كبار السن تميزوا بألخبرة والدراية في كيفية جلب هذه النبات المختلفة لاستعمالها في الوصفات الغذائية نظراً لفوائدها ولذتها، ومن ضمنها النباتات الطبية التي لها دور مهم في معالجة الكثير من الحالات النادرة التي لم تلقى النجاح آنذاك٠ (الطب الشعبي) ساعد في علاج الكثير من ألحالات المرضية في زمنٍ يفتقر الى الأطباء وذوي الإختصاص٠كان الوالد يقول في أيام شبابنا لم يوجد طبيب في العمادية سوى موظف صحي واحد،ا كأحد الدوافع للجوء أهالي تلك المناطق الى الأعشاب الطبية وخاصة في موسم الربيع لعلاج الكثير من الحالات المرضية ٠ والدكتور مسعود كتاني أصبح مصنف نباتي بعد أن الهمه ( الطب شعبي) ٠

 

Scroll to Top