ب. د. فرست مرعي

1- في الحادي عشر من شهر يوليو/تموز عام1850م ترك الآثاري والدبلوماسي البريطاني هنري لايارد (1817 – 1894م) مدينة الموصل مقر اقامته قاصداً كردستان العثمانية حيث يقول:” … تركت الموصل الى الجبال (= جبال كردستان)، وكان هناك قسم من وسط كردستان لم يزره الرحالة الاوروبيون، كانت المقاطعات التابعة للزَيباري من الاكراد بين رهواندوز (= رواندوز) ووادي النساطرة ( = العشائر النسطورية في منطقة هكاري). واستهل رحلته بمنطقة عقرة، وذكر بأن عدد عوائلها حوالي (600) عائلة، واشتملت مقاطعة عقرة على حوالي 300 قرية وحامية، وهي تشكل واردات لا بأ بها لباشالِق(= ولاية) الموصل. وفيها زار آثار قرية كوندوك، وفي كوندوك كانت 20 عائلة ما زالت على دينها النسطوري مع أقلية من اليهود أيضا… وبينما كنت أتفحص تلك المنحوتات ( = آثار كوندك) جاءني راهب نسطوري، كان برتبة شماس(شدياق) وقد بدا رجلاً وقوراً حسن المظهر تتدلى لحيته البيضاء حتى صدره، ولقد قال لي بأن المنحوتة العليا تمثل القديس يوحنا على حصانه وهذا يعطي الكهف اسمه، أما السفلى فهي تمثل طقوس كنيسة لم يستطع تفسيرها بوضوح، رجعت معه إلى مسكنه حيث جهز إفطاراً دسماً، وأمضينا فترة حرارة النهار في رواق يطل على السهل.هناك عدد من القرى النسطورية من الكلدان أسفل تلك التلال، وعلى بعد 3 أميال إلى شمال كوندوك (قرية كوندك الواقعة غرب عقرة) كانت شوش ووراءها شيرمين (= قرية شرمن) وهي موطن مار شمعون البطريرك النسطوري، وعلى مسافة قصيرة من شيرمين نحو الشمال يوجد وادي باويان Bavian= )بافيان) الضيق مع منحوتاته الصخرية المميزة (= منحوتات الملك الاشوري سنحاريب في خنس).ينظر: أوستن هنري لايارد، مكتشفات أطلال نينوى وبابل مع رحلات الى أرمينيا وكردستان والصَحراء، ترجمة : شيرين إيبش، هيئة أو ظبي للسياحة والثقافة، ص458 – 460.

ويمضي لايارد قائلاً: تمكن أصدقائي في 17 يوليو/ تموز (عام1850م) من السير إلى أعلى الجبال، وكنا جميعاً نتوق إلى الطقس البارد ومع شروق الشمس اجتمعنا وغادرنا جنتنا، كانت البلدة التي عبرناها تحتوي على بضع منازل حجرية متقنة الصنع تقع الواحدة فوق الأخرى وكان هناك مسجد وحمام وقلعة خربة كانت فيما مضى حصناً لزعيم مستقل كان يحمل لقب الباشا ويفتخر كقريبه في العمادية بكونه من سلالة الخلفاء العباسيين، وكان آخرهم محمد سيد الذي كان سجيناً في الموصل. مررنا بطريق شديدة الانحدار تصل حتى أعلى الجبل، ومن قمتها تجول بعينيك فوق سهول ناوكور(= نافكور) وشيخان والبلاد المحيطة بالتل المنقسم حول إربيل ومسارات الزاب والخازر، وعلى الجهة المقابلة واد عميق يفصل تلال عقرة عن سلسلة ثانية أكثر ارتفاعاً( = جبال بيرس). المصدر نفسه، ص461.

وبعد أن غادر لايارد عقرة وبعد أن عبر منطقة الزيباري التي كان يحكمها (نعمت آغا) الذي كانت سلطته تصل الى قبائل شيروان، يقول:”دخلنا الآن منطقة أشجار البلوط الصغيرة وتوقفنا بعد رحلة يوم قصير في بلدة هشتاغ Hashtgah الكردية الصغيرة التي تحيط بها أشجار عملاقة وترويها جداول عدة، وتقع في منطقة زيباري الكردية التي يحكمها بالوراثة أحد آخر الزعماء المتبقين. كان يمر عبر الوادي جدول واسع صافي المياه وهو أحد فروع الزاب يسميه الأكراد دروشو Durusho أو بيرايشو Bairaisho الذي سرنا على طول ضفته لمدة ساعة تقريباً. وبخصوص هذا الفرع من الزاب يذكر لايارد (وصلني 3 أسماء لهذا الوادي: حصاوة، حسن ميمة ونهالة [= نهلة]، والاسم الأخير من رئيس الزيباري، هناك صعوبة كبيرة في معرفة اسم شخص أو مكان من رجل كردي، والرحالون يقعون في أخطاء عديدة من جراء ذلك، فالاسم ينطق بطرق مختلفة ويخضع الإضافات وحذف، ولو أنها كانت ذات معنى لسهل علينا). ثم دخلنا شقاً ضيقاً مشجراً بشجر البلوط، وكان هناك معبر شديد الانحدار بيننا وبين مقاطعة زيباري الرئيسية، ومن قمتها يبدو جدول (= نهر) الزاب وهو يجري عبر الوادي الخصب وتبدو وراءه جبال كردستان العالية (= جبل شيرين وما وراءها) مع قممها الثلجية، نزلنا إلى المنطقة المنخفضة حتى قرية بيريكبرا Birikapra (= بيراكبره) وهي مكان إقامة (مصطفى آغا)

الزعيم السابق القبائل زيباري، أما الزعيم الحالي فيدعى (نعمت آغا)

ويسكن في حرين Heren (= هه رنى)على بعد ميلين. ولقد كان مؤخراً في الموصل ليحصل على عباءة ترمز لتولي منصبه من الباشا وخلال زيارته حل ضيفاً علي، كانت قدراته وكفاءاته تضاهي الرجل الكردي العادي فكان يتكلم الفارسية بطلاقة ويعرف العربية، وكان على معرفة بخارطة كردستان وعلمت منه خصائص هامة حول مقاطعات الجبال غير المعروفة.

ينتمي الأكراد إلى مذهب إسلامي متشدد، حيث تناول الآغا طعامه وشرابه طوال الليل وهو الآن ينام في النهار خلال فترة الصّوم، كان مستلقياً على سجادة ثمينة تحت الأشجار وحوض الماء خارج جدران قصره الطيني الصغير، وقد ألقي عليه رداء مطرز بالحرير وخيوط الذهب بينما وقف خادم ملوحاً بمروحة فوق رأسه، ووقف آخر ليدلك قدمه العارية، ولقد الححت بعدم إيقاظه وتابعنا مسيرنا لنجلس تحت الأشجار، إلا أن الاهتزاز بطبيعة الحال كان قد أيقظ الزعيم فرحب بي بسلام ودي ومع أنه كان ممتنعاً عن الطعام فلم يهمل واجب الضيافة، وقد يكون الإفطار الذي أحضره لنا من مكان النساء من لحم لذيذ وأطباق متنوعة شهية وحلويات رائعة أظهرت مهارة النساء الكرديات، كنت أحمل رسالة له من الباشا تتعلق بضرائب جديدة وهو موضوع كريه عادة، وتتضمن التبغ والقطن والفاكهة ولقد دعي أكراد زيباري لدفعها للمرة الأولى، كما أن الضرائب على الأملاك قد ارتفعت من 25 إلى 60 ألف قرش (حوالي 550 جنيها)، إذ أن الحملات الناجحة الأخيرة التي قام بها الباب العالي ضد شيوخ بوطان(= بدرخان باشا أمير امارة بوتان) والهكاري (= نور الله بك أمير امارة هكاري) شجعته على طلب المال من القبائل التي كانت مستقلة برئاسة (نعمت آغا) ومع أن القوات التركية (= العثمانية) لم تدخل جبالهم، فإن الأكراد وجدوا أنه من الحكمة الانصياع للأمر عوضاً عن التعرض لخطر الاحتلال أو الأسوأ من ذلك التجنيد الإلزامي. المصدر السابق، ص461 – 462

كان هناك حوالي 50 عائلة كاثوليكية كلدانية قد ارتدت عن النسطورية في حران(= هه رنى الزيبارية) وعندهم كنيسة وليس لهم أي مبرر للتذمر من أسيادهم الأكراد خاصة خلال فترة حكم الزعيم الحالي. امتدت سلطة (نعمت آغا) إلى زيباري وشروان وگردي و بارادوست(= برادوست) وشمدينان من عقره Akra وحتى الحدود الفارسية. وتحتل تلك المقاطعات قبائل كردية مختلفة ولكل قبيلة شيخها إلا أنهم خضعوا جميعاً لآغا الزيباري ودفعوا الجزية من خلاله إلى حاكم الموصل، ولقد تركني )نعمت( تحت حماية ابن عمه (الملا آغا) الذي أمر بمرافقتنا للحماية حتى تخوم پاشالق الهكاري الذي تحتله القوات التركية الآن، كان دليلنا رجلاً جبلياً طويلاً يلبس ملابس ملونة فضفاضة وعمامة )حمراء ضخمة( التفت حول قبعة مخروطية طويلة وهذا يعطي سكان وسط کردستان مظهراً قاسياً غير مألوف، وكان يصحبه 3 من أتباعه مشياً ذلك أن الممرات الصخرية شديدة الانحدار في الجبال كانت صعبة السلوك حتى على الأحصنة التي كان من النادر اقتناؤها إلا من الشيوخ، ولقد حملوا بنادقهم الطويلة على أكتافهم وخناجر ضخمة في حزامهم. ويظهر من النص المار الذكر بوجود سلطة قوية لقبيلة الزيباري ما بين مدينة عقرة والى منطقة شمدينان، فضلاً عن لبس البعض العمامة الحمراء في هذا التاريخ المتقادم. المصدر السابق، ص462 – 463.

تركنا حرين Heren (هه رنى الزيبارية) في الصباح الباكر يوم التاسع عشر(= شهر تموز 1850م) ووصلنا بعد فترة وجيزة إلى الزاب فسرنا مدة ساعتين على ضفافه إلى بقعة حيث كان هناك طوف جاهز لحملنا عبر النهر، وكانت هناك قرى منتشرة عبر الوادي على جانبي النهر قد زرعت أراضيها بكثافة ملحوظة، ولم يسهل خوض الزاب في هذا المكان فلقد جعلت الدوامات الشديدة التي سببتها الصخور المغروزة في النهر من عبوره مهمة صعبة حتى على الطوف باستثناء وقت طوفانه في الربيع، واجهنا صعوبة في عبوره وأجبرنا على تمضية الليل في قرية ريزان الصغيرة قرب العبارة لأن أحد البغال المحملة قد حرن (= عاند) ورفض السباحة في النهر ولم نتمكن من إجباره إلا في فجر الصباح التالي(= العشرين من شهر تموز). وقرية ريزان كما هو معلوم تقع شرق بارزان ومطلة على نهري روكجوك والزاب، ولم يتطرق الرحالة الى قرية بارزان لأنها لم تكن واقعة في خط سيره، فضلاً عن ذلك انها لم تشتنهر في عام1850م إلا بعد أن أخذ شيوخ بارزان الحاليون الطريقة النقشبندية من شيوخ نهري في تاريخ لاحق، وقاموا بالدفاع عن حقوق الناس البسطاء المسلوبة حقوقهم في وجه المستبدين والطغاة76). المصدر السابق، ص463.

دخلنا الآن نفس المسار الذي ربما سلكته كل القبائل الجبلية خلال فترة هجرتها المنتظمة منذ عصور، وبالإضافة إلى سكان المقاطعات من الحضر كانت هناك قبائل كردية من الرحل تسمى الكوجر الذين يعيشون على قطعانهم، وبما أنهم لا يمارسون الزراعة يعتمدون على مراعي آشور(= كردستان) الخصبة ويبدلون مراعيهم خلال فصول السنة فيصعدون تدريجياً من السهول التي يرويها دجلة والزاب نحو القمم الشامخة في الصيف ويعودون إلى الأراضي المنخفضة عندما يبدأ فصل الشتاء بالاقتراب، وقبائل الكوجر الرئيسية الموجودة في هذا الجزء من كردستان هي الهكاري الذين رأينا خيامهم خلال زيارتنا لقبيلة طي (= العربية) في أوائل الربيع، وهم يشتهرون بأعمال السلب والنهب إذ أنهم خلال هجرتهم السنوية يسطون على سكان المقاطعات من الحضر وبشكل خاص على المسيحيين، وبما أن لديهم قطعاناً كبيرة من الماشية فتبدو الطرق التي يسلكونها أراضي مطروقة مناسبة لحيوانات الحمل والجر. وتنقسم البلاد ما وراء الزاب إلى عدد من السلاسل المتوازية من التلال (= الجبال) المشجرة تفصلها وهاد ضيقة، وتنتشر قرى صغيرة على الجبال هنا وهناك وسط مدرجات من المصاطب المزروعة بالقمح وأشجار الفاكهة، ويبدو المشهد جميلاً وبهياً عندما يتفتح الوادي الأخضر العميق تحت أقدام المسافر وتبدو جبال رهواندوز(= رواندوز) المغطاة بالثلج شامخة في السماء الزرقاء الصافية، كانت الليالي دافئة بعض الشيء بحيث تمكنا من النوم في الهواء الطلق، أما حرارة النهار فقد ألجأتنا إلى اللجوء إلى الظل، وكانت استراحتنا الأولى بعد أن تركنا الزاب حدائق كوران ونصبنا خيامنا في الليلة الأولى في قرية باني الصغيرة على منحدر الجبل. المصدر نفسه، ص462 – 464.

في الحادي والعشرين من يوليو(= تموز) تركنا مقاطعة زيباري(= حالياً ومنذ بداية القرن العشرين مقاطعة بارزان) عابرين جبالاً عالية ودخلنا إلى شروان(= منطقة عشيرة شيروان التابعة للاتحاد البارزاني) حيث جاء زعيمها (ميران بيك) إلى لقائنا على رأس أتباعه المسلحين، وقادنا إلى قرية برسياه Bersiyah الكبيرة الواقعة تحت قمة عالية تدعى(= جبل) پیران Piran حيث أقيمت حفلة على شرفنا، ومن ثم استرحنا تحت شجرة لوز، كان يمر عبر الوادي تحتنا رافد لنهر الزاب(= لقد أعطيت لي 3 أسماء لهذا الغدير: آف شیراه، ورودبار ككليك، وبرازگرد). يقسم مقاطعات شروان وگردي، وخلال فترة العصر سرنا مسيرة 3 ساعات على طول الجدول عبر وديان مفتوحة وشقوق ضيقة إلى أن وصلنا هاروني في مقاطعة بارادوست(= برادوست)، ومعظم تلك القرى في الجبال تحتوي على قلاع صغيرة من الطين وفيها 4 أو 6 أبراج – وهي أماكن يلجأ إليها الشيوخ الصغار خلال فترة نزاعهم المتكرر وثار الدم، ولقد التقينا ببضع عائلات يهودية تجوب البلاد من قرية لأخرى، ورجالها يعملون صياغاً أو بائعة متجولين وترحب بهم العائلات حتى تلك الكردية شديدة التعصب لأنهم يعرضون حلياً وأزياء جديدة للنساء. وهناك قرية خاني رش (= كاني ره ش) الواسعة الواقعة على إحدى القمم المشرفة على هاروني وكانت غنية بالحدائق والبساتين، وهي مكان إقامة رئيس مقاطعة بارادوست، التي وصلناها عبر مرتقى سريع في ساعة ونصف.المصدر نفسه، ص464 – 465.

ويستطر السيد لايارد الحديث بالقول: استقبلنا المير فيض الله بيك في غرفة فسيحة تستند إلى دعائم خشبية وتفتح في الجهة المقابلة للوادي وتطل على منظر خلاب، أما عمامة الزعيم فكانت من الكشمير المخطط بالأبيض والأحمر وكانت ضخمة وربما كانت أكبر غطاء رأس رأيناه في كردستان، أما ملابسه فكانت من الحرير المطرّز بعناية ودقة، وما زاد في سواد عينيه ذلك الكحل الذي وضعه فيهما، وكان محاطاً بحشد من الأتباع المسلحين بشكل جيد الذين ارتدوا ملابس فاخرة كذلك، ولقد استقبلنا وكأنه ملك التلال، ومع أنه كان يدفع الجزية في السنين الماضيتين للعائدات التركية حوالي 8 أكياس من النقد (35جنيهاً) فإنه كان يتباهى باستقلاليته الكاملة، وقد خضع على مضض لإشراف آغا زيباري الذي وضعت قبائله تحت حمايته من قبل پاشا الموصل، ومع ذلك استقبل الملا آغا بالكثير من التحضر وقرأ رسائل نعمت پاشا(= آغا الزيبار) التي حملتها إليه، وكأغلب شيوخ الجبل كان يتكلم الفارسية وهي اللغة المعتمدة في كردستان لكتابة التقارير والكتب باستثناء القرآن وبعض الكتب الدينية الأخرى فهي بالعربية، أما اللهجة الكردية فهي فرع عن الفارسية ولا يكتب بها إلا نادراً(= الصحيح أن اللغة الكردية هي لغة تنتمي الى عائلة اللغات الآرية – الإيرانية مثلها مثل الفارسية وغيرها وليست لهجة فارسية). ألح علي المير لقضاء الليل ضيفاً عليه، إلا أنني بعد أن قاسمته الإفطار أكملت طريقي حتى وصلت وقت الغروب حصن بيگشني Beygishni الصغير. وعبرنا في اليوم التالي جانب قمة سيري رش Ser-i-Resh – (سه رى ره ش) عبر وادي خاباتا أو خَبنايا Chapnaia بالكلدانية.المصدر نفسه، ص464 – 465.

2- في سنة 1899م أطلقت السلطات العثمانية سراح الشيخ محمد عبدالسلام البارزاني من سجنه في مدينة بدليس، وقد حل ضيفاً على الشيخ بهاء الدين النقشبندي في قصبة بامرني. وقد حضر لاستقباله وجهاء العمادية ومجموعة من المريدين العائدين لتكية بارزان النقشبندية، وقد أرسل الشيخ بهاء الدين النقشبندي رسالة بهذه المناسبة الى العلامة الملا عبدالهادي أفندي الاتروشي مفتي ناحية أتروش. وتجدر الاشارة إليه أن الشيخ محمد البارزاني هو والد الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني.

المصدر: كردستان 24

شارك هذه المقالة على المنصات التالية