الجولاني من ساحات الإرهاب إلى عتبة البيت الأبيض

د. محمود عباس

لا عتب على أمريكا وهي تمارس السياسة بأقصى درجات الخباثة، فهي، ككلّ إمبراطورية مرّت في التاريخ، بل وككلّ دولة أو منظومة سياسية تمتلك الحنكة والوعي، تجعل المصلحة فوق الأخلاق، وتُسخّر المبادئ لخدمة الغايات، وتُلبس الأنانية ثوب البراغماتية، فتبدو الخديعة فنًّا، والنفاق دهاءً، والخيانة “حكمة دولة”.

أمريكا لا تتورع عن مصافحة أحطّ المنظمات وأقذر البشر، وتفضّل التعامل مع المجرمين على الوطنيين، ومع المنافقين على الصادقين. فحيث تكون الفائدة، هناك تكون واشنطن، سواء في دهاليز الأنظمة أو في كهوف الإرهاب.

وقد تتقاطع مصالحها أحيانًا، مصادفةً أو حسابًا، مع قوى وطنية حقيقية، والأمثلة عديدة، ومنها، كما حدث مع القوى الكوردية في محاربة داعش، أو مع البيشمركة تحديدا عندما استُخدمت لإسقاط صدام حسين. غير أن القادم، يحمل مؤشراتٍ أوضح لتقاطعٍ أعمق مع القوى الكوردية، تلك التي ستعيد إحياء القضية الكوردستانية وتدفع بها إلى المنابر العالمية، لتصبح ركيزة في مشروعٍ دولي جديد يطعن في إرث سايكس–بيكو ويُمهّد لتشكيل شرقٍ أوسط مختلف الملامح والحدود.

أما مشهد دعوة الجولاني فليس إلا فصلًا جديدًا من مسرحيةٍ قديمة، ظلّت تُدار خيوطها يومًا من أنقرة، وها هي الآن تُنسج مباشرةً من واشنطن. لقد جرى تحويل زعيم تنظيمٍ تكفيري إلى شخصيةٍ “شرعية”، ومن إرهابيٍّ في الظل إلى ضيفٍ في النور. كانت أمريكا تتعامل معه سرًّا، أما اليوم فقد قررت أن تمنحه ختم الاعتراف.

ولئلا يُقال إن البيت الأبيض صافح إرهابيًا، سبقت الدعوة صفقةٌ خفية، على الأرجح مع الصين، في مجلس الأمن، مهدت لمحو اسمه واسم وزيره من قوائم الإرهاب تحت شروط، أعقبتها وزارة الخزانة بخطوة مماثلة، في تناغمٍ بيروقراطي يليق بالإمبراطوريات التي تصنع الجريمة وتغسلها في آنٍ واحد. وأُدرجت سوريا تحت البند السابع، في مشهدٍ بدا وكأنه عمليةُ غسلٍ ممنهجة لتاريخ الإرهابيين على حساب تاريخ الشعب السوري المكلوم، وتطهيرٌ سياسيٌّ لجلادي الأمس عبر تشويه الضحية.

تحوّل القرار الدولي من أداةٍ للمحاسبة إلى غطاءٍ لإعادة تدوير القتلة، فاستُخدم البند السابع لا لردع الجريمة، بل لتلميع من صنعوها، وتحوّلت سوريا، كدولةٍ وشعبٍ، إلى مسرحٍ لتبديل الأقنعة بين القاتل والضحية، حيث يُمحى تاريخ المعاناة ليُسطّر مكانه تاريخٌ مزيف يُكتب بالحبر الأمريكي وتوقيع المصالح الدولية.

والمهمة المرسومة واضحة المعالم، الاعتراف بإسرائيل، وتصفية ما تبقّى من الفصائل السنية الرافضة للتطبيع، كتمهيد لخلق ثقافة نوعية جديدة بين المجتمع السني تحديدا تجاه إسرائيل، ثم التوجه لمحاربة حزب الله بذريعة “إنقاذ لبنان من الهيمنة الإيرانية”.

رغم كل ذلك، فإن الجولاني ومنظماته سيُعاد إدراجهم مجددًا على قوائم الإرهاب، ولكن بصيغ وأساليب مختلفة، إذا ما تخلّف عن تنفيذ الإملاءات المرسومة له، وحينها لن يترددوا في إزالته من المشهد تمامًا.

الولايات المتحدة الأمريكية

7/11/2025م

Scroll to Top