السبت, ديسمبر 21, 2024

الحرب الخاصة على الإدارة الذاتية؛ الظاهرة وسبل التصدي

*سيهانوك ديبو

يشَكِّل الميل إلى الحروب ظاهرة قديمة أخذ بها الإنسان أو المجتمعات بعد تعذر إيجاد الحلول المناسبة. من المهم معرفة أن الحروب تأتت بحد ذاتها بعد ظهور الدولة التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ البشرية ورسمت حدوداً قطعية بين المجتمعين الطبيعي والنوعي. رغم أن في كليهما أي الإنسان في المجتمع الطبيعي والنوعي يغدو مسألة لظاهرة طبيعية أفقية أقحمت فيها وعليها الدولة كواقعة اصطناعية/نوعية فرعية. لم يرَ الإنسان بهدف التخفيف من وطأة الدولة و/ أو محاولات قبولها وتمجيدها إلى درجة بأنها إله هابط من السماء أفضل من اعتماد الحروب واللجوء إليها لفرض مسائل ووقائع تناسب مقاساته من كافة منابع الأطر التي يحتمي بها: ثقافية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. لكن التاريخ حينما يُترك دون فكر ديمقراطي ونظرية متماسكة تفيد الاجتماع البشري وتنطلق منه؛ فإنه لا يضل طريقه وحسب إنما يؤدي دوراً وظيفياً يؤدي إلى إهلاك كامل للجنس البشري وللبيئة، وأول ظواهر الهلاك: الممشى في دروب الطغاة والإصرار على إعادة نماذج الفشل على أنها طرق الخلاص وأطواق النجاة.

الحروب شأنها شأن كل ظاهرة بشرية عرضة للتطور والتبدل. والإنسان بعد مغادرته المجتمع الطبيعي أصبح بارعاً في سُبل فناء النوع البشري. وما نعيشه اليوم تحت بند (الإنسان يبلغ القمة في اصطناع الدول القومية المركزية الخاصة به) لا يحتاج كثيراً لتأويل مغاير في ذلك إنما بمثابة أمثلة صارخة تثبت صحة ما أنشدنا أعلاه. والحروب الحالية باتت غير عسكرية فقط؛ تعدى الأمر ذلك إلى حروب الاقتصاد والثقافة، وأخطر أنواع الحروب هي التي تحقق الغاية المثالية من شنّ أي حرب من جهة إلى مقابل لها بقصد الإبادة والإنهاء وليس الاحتكام فقط للخسارة؛ فهي حروب الاجتماع أو ما يسمى بالحرب الخاصة. فممتهنو الحروب الخاصة مولّعون بالتفاصيل؛ ولهون بالتجزيئي، هيامى بالدقائق. المجتمعات المستهدفة لديهم لا يتناولونها ككل وحسب إنما كأجزاء. يمتهنون الصبر ويجيدون اصطياد الأخطاء التي تُرتكب وخاصة التي تبدو بأن حداثتها ليست جديدة فقط بالنسبة للمجتمع إنما غير منسجمة مع العادات والتقاليد في ذلك المجتمع نفسه. كما أن المجتمعات المستهدفة تتناولها جهة خصمة ومعادية بهدف تقطيع أوصالها وتقييدها فسهولة قيادتها فيما بعد؛ يتعمّد تسليط عشرات الوقائع والنفخ فيها كي تتحول إلى حديث الساعة، يتحول فيها المجتمع إلى منغمس ومنقسم إلى درجة التفصيل في تلك الوقائع فقط. حيناً يتم استخدام الإعلام المقروء والمسموع وحيناً تجده من خلال شبكات مجندة وظيفتها الضخ في مسألة معينة واذكائها وتناولها كحدث أبرز علماً أنها لا تستحق هذا التركيز فقط وإنما تبدو بأنها غير صحيحة إلى درجة الابتذال. وحيناً عبر تجنيد شخصيات تقوم بنشر مجموعة كبيرة من الأفكار الهدامة في مجتمع ما بقصد التشويش والتضليل على حقيقة يُراد تثبيتها في ذلك المجتمع؛ شخصيات تقوم بعمل التكامل الحلقي أو العمل كحلقة لكل منهم مهمة تُخْرَج مجتمعة ما يمكن تسميته اللوحة أو المشهد الكلي. وقد يضطر العدو في ذلك إلى اللجوء لأحزاب وجمعيات والعمل تحت عباءة جمعيات ومنظمات خيرية. اختباءها تحت هذه العباءة تحقق لها غاية الوصول إلى أكبر عدد من شخصيات ووجهاء كنقاط علامة في المجتمع المستهدف.

لا تستطيع أي جهة أن تنكر مدى تعرّض المجتمع في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا إلى سلسة من نماذج الحروب الميدانية. وإلى سلسلة متشعبة -ما تزال متلمسة- من شتى أنواع الحروب الخاصة أو الحرب على الاجتماع وبحقه.

استهدف مطلقو الحرب الخاصة بالتركيز على الفكرة بالأساس: جهات كثيرة نعتت الإدارة الذاتية بأنها بالضد من القضية الكردية، وآخرون في المقلب نفسه وصفوها كتمهيد للتقسيم والانفصال. حاول أغلب أفرقاء الأزمة السورية –المتناقضين ظاهرياً- رفض الإدارة الذاتية إما لعدم فهم أو عدم قبول أو شيءٍ ما متعلق بالوجل منه أو كلها سوياً؛ فوجدت هذه الأطراف وغيرها غير مهمومة في حروب تركيا الأردوغانية –الميدانية والخاصة- على الإدارة الذاتية والمجتمع في الإدارة الذاتية. تصرف أغلبهم كفرد في جوقة. رغم ملاحظة بعض التعديل في الموقف إلا أنها لم ترتقِ إلى مستوى الانفكاك الكلي والخلاص من ربقة أنظمة الاستبداد المركزي حيال التعامل الإيجابي أو بجدية مع فكرة حل الإدارة الذاتية. في السياق نفسه نجد من سلّط مفاهيم كثيرة على مجتمع الإدارة الذاتية وفكر الأمة الديمقراطية فيما يتعلق بحرية المرأة ودورها الريادي في الثورة التي أنتجت الحل؛ عدوا ذلك الخروج عن المألوف والتفكير خارج النمط السائد، لكن بقيت فئة الشباب أكثر الفئات المستهدفة للخروج منها كفئة لا منتمية، لا تعنيها الذي يحدث، وبغير مهتمة بالذي ينضج، وبأن ما يحدث خارج إطار تفكيرها، وبأن الحلول تكمن فقط بالانصياع لفكرة بأن في الهجرة تتموجد الحلول. حقيقة الأمر أقصى مراحل الضياع يكمن في ذلك. ما من شجرة تقلع من جذورها لتخضر خارج ترابها. إنه المثال الأقرب لفئة الشباب ولكافة فئات مجتمعات الشرق.

من يستطيع اليوم إنكار بأن الحل الديمقراطي يكمن في الإدارة الذاتية، ويعد النموذج الأكثر فعالية لحل الأزمة السورية وفق مقاصد وأهداف القرار الدولي 2254 في المرحلة الانتقالية بسلالها الـأربعة؟ ولأنه كذلك فإن الإدارة الذاتية بجميع مكوناتها السياسية والمجتمعية وثقافاتها مطلوب منها تصويب الأخطاء التي تحصّلت، ووضع حلول جذرية للأخطاء والعيوب التي اعترت مشروع الإدارة الذاتية. في مقدمة هذه المعالجات تقديم المعالجة المناسبة لظاهرة الهجرة وتوفير ظروف مناسبة ليس لمكافحتها وحسب إنما القيام بما يلزم لنكون أمام ظاهرة عكسية عنوانها العودة.

مكافحة الحروب الخاصة والتصدي لها لا يمكن عدّها مسألة نظرية فقط رغم الأهمية لكل بعد نظري في أية مسألة فكرية ومعرفية، ولكل مبادرة تهدف صنع البديل الديمقراطي. على العكس فإن إدراك كل بُعد عملي يبدأ أولاً تشخيصاً فكرياً وإطاراً نظرياً. لكن من المسؤولية التاريخية عدم التوقف عند ذلك إنما القيام بكل خطوة فعلية عملية تعزز الأهداف والمقاصد التي قامت وفقها وتأسست الإدارة الذاتية وتصبّ في تحقيق نموذج المجتمع الديمقراطي المتماسك؛ جبهته الداخلية عصية على التفرد بها فالنيل منها، تتطور من اخلال إدراك هذا المجتمع لنفسه عبر ثقافة الشعوب المتآخية لها المصير نفسه وهي تقتنع بعيشها المشترك. مجتمع بهذا القدر يستصعب على كل الخصوم فتح قلاعه من الخارج والداخل. ولا يهم حينها حجم ومستوى الحروب المسلطة –منها الحرب الخاصة- على مجتمعنا. والفكرة هنا هي الأهم، وهي التي يُكتب لها النجاح والاستمرار لنكون بالفعل أمام عصر – كل ما موجود الآن- يمهّد نحو مرحلة الأمم الديمقراطية.

*(الرئيس المشترك لمكتب العلاقات العامة في حزب الاتحاد الديمقراطي)

شارك هذه المقالة على المنصات التالية