قامشلو/ علوان العباس –

خرجت الحركة الثقافية في شمال وشرق سوريا في العقد الأخير من العباءة السوداء، التي كانت تغطي حقيقة جسد منهك من الداخل، يقوم على نسيج قومي وديني ومذهبي وطائفي مختلف الألوان، واستطاعت أن تعيد نسج ثوب جديد بألوان جميع شعوب المنطقة، بصورة تظهر مدى تداخل وترابط مكونات المجتمع دون الانتقاص من خصوصية أحد، بل زادت من التواصل الفكري والروحي، والوجداني بين شعوب شمال وشرق سوريا.

وللحديث عن الواقع الثقافي في شمال وشرق سوريا كان لصحفية“روناهي” لقاء مع الروائي والناقد عبد المجيد خلف.

الواقع الثقافي بين الماضي والحاضر

كان النشاط الثقافي قبيل عام 2011م، يظهر في حدوده الدنيا، لفرض الضغوط، وممارسة حالة القمع والتهميش الممنهج من السلطات الحاكمة على الحراك الثقافي، والاجتماعي والسياسي عموماً في سوريا، فبينما كانت اللغات غير العربية محظورة رسمياً في مجالات التعليم والنشر، كانت المؤسسات الثقافية والأدبية تؤسس بشكل غير رسمي، حيث كان النظام الحاكم يرفض ترخيص أي منظمة أو مؤسسة مجتمعية، وكان الحراك الثقافي الكردي، الذي كان يمارس سواء بالسر، أو العلن يخضع للرقابة الصارمة، حيث كانت تعقد محاضرات وأمسيات ثقافية متنوعة، وثمة كثير من الأدباء والمثقفين الكرد، اُعتقلوا وخضعوا للتحقيق أو سُجنوا جراء ممارستهم أنشطة ثقافية وأدبية. بينما كان الفن من المسرح والغناء والرقص الفلكلوري، يمارس بشكل سري وفي مناسبات رسمية خاصة كأعياد النوروز.

ففي تلك الفترة كان من النادر أن ترى كتاباً باللغة الكردية أو كتاباً عن الكرد والقضية الكردية في المكتبات العمومية، بل كان ممنوعاً تداول وبيع أي كتاب يتضمن تأكيدات على الوجود القومي الكردي في سوريا، ولكن تغير كل شيء بعد انطلاقة ثورة شعوب شمال وشرق سوريا في تموز 2012م.

يقول عبد المجيد خلف بهذا الصدد:” طرأت تغيرات جديدة على المنطقة في المجال الثقافي، وأصبح هناك نشاط محموم في المجالات الثقافية، وهذا يلاحظ بشكل واضح في الفعاليات، التي تقام بشكل مستمر في المنطقة، سواء أكانت من قبل هيئة الثقافة، أم من قبل المؤسسات والاتحادات الثقافية، وتتنوع هذه الفعاليات ما بين المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية والقصصية والفنية وغيرها، ناهيك عن المسابقات الثقافية والأدبية، التي شهدتها المنطقة وللفئات العمرية كافة (الكبار- الصغار- الشباب)، وهذا نابع بالطبع من رغبة كبيرة لدى القائمين عليها في دفع الحركة الثقافية إلى أفق أكثر تطورا، وجعل الثقافة تواكب المرحلة الحالية التي نمر بها، ولكن هذا لا يمنع من القول طبعا: إن هناك بعض المنغّصات التي تطرأ بين الفينة والأخرى، وهذا هو طبيعة العمل، فمن يعمل بالطبع سيجد صعوبات في مجال عمله، وخاصة الثقافة، لما تتطلب من جهود كبيرة وعلى الأصعدة كافة.

الموروث الثقافي والشعبي

يرى بعض العلماء، أن التراث الشعبي هو أشكال الثقافة والمعرفة، التي انتقلت مشافهة بشكل عام، وهنا نجد أن العلماء قد وسعوا دائرة التراث الشعبي حيث لم تصبح مُنصبة على الأدب الشعبي وحده، ولكنها شملت كل ما يتصل بالثقافة والمعرفة الشعبية من عادات وتقاليد وعرف سائد، إضافة إلى الممارسات والمعتقدات الخرافية، أي أن التراث الشعبي يمثل المظاهر المختلفة للثقافة، التي يأخذ بها العامة مع وجود ثقافات متحضرة تعيش جنباً إلى جنب، مع إمكان وجود ارتباط فكري بين كل منها، وتدوين كل القيم والعادات والتقاليد والفنون التقليدية.

يقول خلف: “استطاعت الحركة الثقافية في المنطقة، وفي ظل التغيرات الجديدة التي شهدناها أن تستقطب الشعوب والأديان المتعددة، وتعمل على الاهتمام بالموروث الشعبي والفلكلور الموجود والخاص بكل شعب من تلك الشعوب، وتعمل على بلورة ذلك الموروث، والعمل عليه بشكل أكبر لكي يواكب متطلبات المرحلة الراهنة، ويعبر عن تطلعات أبناء المجتمع، وأحلامهم وأمانيهم، ومعاناتهم أيضا، لذلك جاءت العملية متبادلة بين الطرفين، وتطور ذلك الموروث في ظل النشاطات الثقافية الكثيرة التي أقيمت في المنطقة”.

نتاجات ثقافية مبشرة

شهدت المنطقة ثورة في حركة الطباعة والتأليف والتنظيم الثقافي، فأُنشأت دور نشر وتوزيع المطبوعات وفُتحت مطابع حديثة لطباعة الكتب، يشير عبد المجيد خلف إلى ذلك: “أصبحت العديد من الصحف والمجلات والإذاعات والمحطات التلفزيونية تصدر وتبث في المنطقة وبكل اللغات الرسمية، وفي الوقت نفسه أصبح الأدباء والكتاب يلقون تشجيعاً. وأُسِّست العديد من اتحادات الكتاب والمنظمات الثقافية، وأُنشأت الجامعات والأكاديميات الثقافية والفنية وغير ذلك من المظاهر الأدبية والثقافية”.

خلف يتابع حديثه في هذا الجانب: “إلا إن تلك التغييرات ولجملة من الأسباب لم تصل أو تتطور لمستوى يجاري فيه الأحداث والتطورات المتسارعة في المنطقة ويتعلق جزء من الأسباب بالظروف السياسية ويتمثل بعدم الاستقرار في المنطقة والحصار وهجمات المحتل التركي، وبالتالي فإن الإدارة الذاتية أصبحت مضطرة للتركيز على أولوية الدفاع والقطاع العسكري مقارنة بالقطاعات الأخرى. ورغم ذلك كان هناك اهتمام لافت من جانب الإدارة الذاتية للمؤسسات الثقافية والأدبية والإعلامية، فأُنشأت المراكز الثقافية والفنية وأَسَّست اتحادات المثقفين في المناطق كلها، كما أُسِّست شبكة من وسائل الإعلام سواء إن كانت مرئية أو مطبوعة أو مسموعة، وتَوفرَ مناخ ملائم لتأسيس المنظمات الثقافية والإعلامية من جانب الجهات الخاصة والعامة في المنطقة”.

ويضيف الناقد عبد المجيد خلف في حديثه عن الناتج الثقافي عامة: “تعددت النتاجات الثقافية، وإصدارات الكتب في الفترة الأخيرة، وتنوعت الأجناس الأدبية أيضا، وصار بالإمكان القول إن هناك تطوراً ملحوظاً في مستوى العدد، أو الكم، وهذا ما يدفع بنا إلى التفاؤل، ولكن يجب أن تكون أيضا هناك نتاجات جيدة ضمن النتاجات المطبوعة، والأمر بالطبع لا يخلو من ذلك؛ فنحن نجد نتاجات جيدة بين الكتب المطبوعة، وهي تحتاج إلى التشجيع أكثر كي نحقق ارتقاء أكثر في مستوى الكم والكيف معاً”.

دور الاعلام في الحركة الثقافية

في هذا الزمن ومع ثورة المعلومات ودخول وسائل اتصال وتواصل كثيرة أصبحنا في حاجة ماسة إلى إعلام ثقافي يكون له دور في تطوير وتنمية فكر المجتمع وتوجيهه، وحول هذا الموضوع تحدث عدد من المثقفين والأكاديميين.

ويؤكد الباحثون عن ضرورة الانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى، ففي الوقت الراهن، في زمن العولمة والزخم المعلوماتي؛ برزت الحاجة الماسة لوجود إعلام ثقافي موجه، الذي بدوره يهدف لتنمية الفرد أولاً، والمجتمع ثانياً، ويتمثل وجود هذا النوع من الإعلام عبر تطبيق مفهوم التربية الإعلامية، الذي ينص على أن الفرد كمشاهد لديه القدرة على الفهم والتحليل والتقييم وإبداء الرأي فيما يتلقاه من صور وأشكال إعلامية متعددة على الصعيد الإعلامي التقليدي كالتلفاز، والراديو، والصحف أو في وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات الرقمية.

يؤكد الروائي خلف أنّ للإعلام دوراً إيجابياً بالطبع في دعم النشاطات الثقافية، كي تجد صدى لها في المجتمع، ويتعرف أبناء المجتمع إلى الأصوات الثقافية، والفعاليات التي تقام، إضافة إلى نشرها عبر وسائله على مدى واسع، ليتعرف الآخرون في المناطق أو الدول الأخرى إليها، وهذا أمر جيد، لذلك لابد من رفد الإعلام للحركة والنشاط الثقافية من أجل ذلك، وبالإمكان القول: إنه انتفى خطاب الكراهية تقريبا وبشكل كبير في المجال الإعلامي في الفترة الأخيرة، وهذا نابع من وعي أبناء المجتمع بضرورة الابتعاد عنه لما له من آثار سلبية عليهم.

للثقافة دور كبير في تطور المجتمع

تمثل الثقافة دوراً رئيسياً في تشكيل حياة الإنسان، وبناء المجتمع، إذ تعد وسيلة لنقل المعلومات حول الخبرات البشرية، وتجميعها، بالإضافة إلى تخزينها، كما تساهم في تشكيل الإنسان عند تعلمه اللغة، والقيم، بالإضافة إلى العادات والتقاليد، كما تلعب الثقافة دوراً مهماً في طريقة تعبيرنا عن ذواتنا وتشكيل هويتنا، وذلك لأثرها الكبير في تكوين تاريخنا، وقيمنا، وتساعد في تطوير حس الانتماء، وزيادة الوعي الشخصي والمعرفي. وتساهم الثقافة في تشكيل القدرة على التواصل، وبالتالي تعميق شعور التعاطف ونشره، وتولد الشعور بالأمن، والأمان المبني على أساس وحدتنا، وترتبط الثقافة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ، وتبني الهوية المستقبلية بناءً على التاريخ الماضي ويستطيع الشخص الحكم على المجتمعات، ونسبة تطورها، وذلك من خلال معرفة ثقافتهم بمختلف أشكالها، مثل؛ التاريخية، والسياسية، بالإضافة إلى البيئية، والاقتصادية.

وهذا ما بينه الروائي والناقد عبد المجيد خلف في ختام حديثه: “للمثقف بالطبع دور كبير في ذلك، وهو يستطيع بما يمتلك من وعي دفع حركة التطور في المجتمع إلى الأمام، ولا بد من أن يقوم بذلك، فالثقافة تبين أوجه النشاط في المجتمع، وتجعل المجتمع واعيا، مدركا لحقوقه وواجباته، وتبصره بها، وهذا بالضبط لا يقتصر على طرف بعينه، إنما يحتاج إلى تضافر جهود الجميع في ذلك، رجالا ونساء، ومؤسسات ثقافية، ومؤسسات المجتمع المدني، حتى نستطيع بناء مجتمع أكثر تطورا، وإبداعا”.

​الثقافة – صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية