الخميس, فبراير 27, 2025

الذاتُ صدى الوجود في “تبصراتٍ رماحة” للشاعر إبراهيم محمود

تقديم: مثال سليمان

توطئة؛

الشاعر في حوارٍ داخليّ تأمّلي، مخاطباً ذاته المتعالية التي تشكل صدىً للوجود.

هكذا يمكن الولوج إلى عوالم هذا النص المنشور في موقع “ولاتي مه” الذي وافق تاريخ نشره الخامس والعشرين من الشهر الجاري/شباط، للشاعر والناقد إبراهيم محمود.

كما هو معلومٌ، فإن  إبراهيم محمود ليس مجرد شاعر، بل هو فيلسوف إذا جاز التعبير، إذ تتسم نصوصه بعمقٍ فكري ورؤية جمالية تتجاوز حدود الشعر التقليدي إلى أفق فلسفي وتأملي رحب. لطالما قرأتُ له العديد من القصائد عبر المواقع الإلكترونية، ووجدتُ أنّه من الإجحاف ألا نتوقف عند نصوصه، حيث تستدعي قراءتها اشتغالاً نقدياً دقيقاً يعيد تفكيك بنيتها وإعادة تشكيلها تأويلياً.

إن تفكيك أي نص، وإعادة إنتاجه ضمن أفقٍ نقدي، ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو فعل إبداعي قائم بذاته، إذ يمنح النص بُعداً جديداً، ويكشف عن طبقاته العميقة، ممّا يسمح له بالتنفس في فضاءٍ جمالي مختلف. فالنقد، حين يُمارس بروحٍ إبداعية، لا يكون مجرد أداة تحليل، بل يصير امتداداً للعمل الفني ذاته، حيث يعيد تشكيله ويمنحهُ إمكانية أن يُرى بوهجٍ آخر.

وإذ أشرعْ في تقديم قراءة نقدية متواضعة لهذا النص، الذي يزهو بالجمال،  آمل أن أوفق في سبر أغواره واستكشاف بنيته الجمالية والفكرية، بما يليق بقيمته الإبداعية وثرائه الفني.

العتبة النصية: العنوان كمدخلٍ تأويلي:

“البداهات/العتبات النصية سرعان ما تضعنا أمام مأزق الدهشة: لماذا اختار الكاتب هذا العنوان؟ وما علاقته بالنص؟ هل انبثق العنوان مصادفةً أم أن المقصدية تمارس غوايتها في هذا المجال؟”ص١٧ *٢

“تبصرات رماحة” عنوانٌ مشحونٌ بتوترٍ دلالي يجمع بين التأمل العميق والاندفاع الحيوي، بين استبطان الفكر واختراق الفعل. التبصّر إحالة إلى وعي استشرافي يتجاوز الإدراك السطحي، فيما تستدعي الرماحة ديناميكية الحركة والاختراق. هذا التضاد الظاهري يُنتج فضاءً تأويلياً متحركاً، يحرّض القارئ على مساءلة العلاقة بين الفكر والممارسة، بين السكون والتدفق.

تنتمي البنية العنوانية إلى الحداثة عبر تفكيك الثنائيات التقليدية، حيث لا يعود التأمل انكفاءً ولا تصبح الحركة اندفاعاً أعمى، بل يتداخلان في جدلية تنتج رؤية غير مألوفة. التأويلات تتعدد بين البعد الصوفي حيث يكون التبصر كشفاً والرماحة تجلياً، والبعد الفلسفي حيث يتحول الفكر إلى قوة فاعلة، والبعد الشعري حيث الإيقاع الداخلي يعكس التوتر بين الثبات والانطلاق.

يأتي العنوان كعتبة دلالية تنبئ بنص يخرق التوقعات، يراوح بين الحكمة والتمرد، بين الرؤية العميقة والمفارقة الحادة. إنه ليس مجرد تسمية، بل بنية إشارية تُعيد تشكيل العلاقة بين الدال والمدلول، وتفتح المجال لتأويل لا نهائي يُعيد إنتاج المعنى في سياق حداثي متجدد.

“يذكُرك القمر

تتنفس السماءُ الصعداء

تنام الأرض ملء غدها

يستنشقك الورد عشقاً

تباشر الحديقة دورتها زهواً

تبتهج السنة طوع سكَينتها”

يؤسس النص لميتافيزيقا جديدة للطبيعة، حيث تتحول الموجودات إلى كائنات تمتلك وعياً خاصاً، خاضعة لمنطق داخلي يعيد تشكيل العالم وفق أنساق رؤيوية تتجاوز الإدراك الحسي التقليدي، مما يمنح الأشياء حضوراً يتخطى دورها كخلفية جامدة لعالم الإنسان. في هذا الأفق، تتبدد الحدود بين الذات والموضوع، ويصبح الكون كياناً ينبض بالحياة، حيث لا تظل الطبيعة مجرد مشهدٍ صامت، بل تتحول إلى ذاتٍ فاعلة تتنفس، تشعر، وتبني دلالتها الخاصة بمعزل عن المركزية البشرية. هذا التحول يتم عبر تفكيك بنية الدلالة السائدة وإعادة إنتاجها ضمن خطابٍ شعري يتجاوز أنظمة التصنيف التقليدية، فيكشف عن تشابك كينوني تتداخل فيه العناصر وتتبادل أدوارها في فضاءٍ تأويلي رحب.

في النص لا تحضر الطبيعة بوصفها موضوعاً خارجياً خاضعاً لهيمنة الذات، بل تتجلى ككيان يمتلك حساسية خاصة، حيث تنبض الأشياء بدينامية داخلية تجعلها شريكة في تشكّل المعنى. السماء تتنفس، الورد يستنشق، والصخور تتشبع بالمشاعر، في عملية إسناد للصفات الإنسانية إلى الكائنات الطبيعية، تخلخل التصورات السائدة حول الفصل بين الإنسان والعالم. هذا الانزياح الدلالي لا يمثل مجرد مجازٍ شعري، بل هو تفكيك جوهري للثنائيات التي قامت عليها أنماط الإدراك الحسي والمفاهيم الأنطولوجية التقليدية، حيث لا يعود الإنسان مركز الكون، بل جزء من شبكة علاقات كونية تتفاعل عناصرها فيما بينها وفق منطق يتجاوز الحضور الفيزيائي المباشر.

“من خفقة لقلبك الظليل

ترسِل الينابيعُ باقةً من ألحانها البنفسجية

الطبيعة تعلِن ولادتها الأولى

صخرة الماء تمتلىء مشاعرَ لمرآك

أي شلال يفلتر صداها السامي

عرائس المروج تؤمّن التجلّي لحور عينها”

يتأسس البناء الأسلوبي للنص على تفكيك الحجب اللغوي عبر انزياح مكثّف يتجاوز المعايير النحوية والدلالية السائدة، حيث تتفجر البنية التقليدية للجملة لصالح تراكيب مفارقة تخلخل منطق اللغة المعتاد.

الشلال لا يعود مجرد تدفق مائي، بل يتحول إلى مصفاة للصدى والمعنى، والصخرة تفقد صلابتها لتغدو مشبعة بالمشاعر، في انزياح مستمر يعيد توزيع الأدوار بين الأشياء. التشخيص والأنسنة هنا ليسا مجرد أسلوب بياني، بل هما استراتيجية تفكيكية تهدف إلى خلخلة الحدود بين الذوات والأشياء، حيث يصبح العالم شبكة من الذوات المتجاورة التي تمتلك حساسيتها الخاصة، فلا تعود العناصر الطبيعية مجرد ديكور صامت، بل فاعلة في إنتاج الدلالة.

وعلى الرغم من أن النص ينتمي إلى الكتابة النثرية، إلا أنه يستند إلى إيقاع داخلي ينبثق من التكرار، التوازي، والتجاور الصوتي، حيث تتكرر البنيات التركيبية في إعادة إنتاجٍ دائرية للصوت والمعنى، ما يمنح الخطاب طاقة موسيقية تتجاوز الوزن التقليدي إلى نوع من الإيقاع الشعري الحر، الذي يؤسس لمساحة تأملية تتكاثف فيها الأزمنة والأمكنة ضمن تدفقٍ دلالي متشظٍ. هذه البنية الإيقاعية ليست مجرد زخرفة شكلية، بل هي جزء من استراتيجية النص في تفكيك الحضور الزمني والفضائي، حيث تصبح اللغة نفسها جسداً ينبض بالإيقاع، ويخلق تداعياته المفتوحة على احتمالات لا نهائية للقراءة والتأويل.

“درب وعر يطرب لخطوك

الساعة لا تكف عن النفْخ في جرسها

ثمة أرواح تنبت على الجانبين

تناهى همسك إلى حسون متوحد مع نفسه

أخرجه جناحاه من عشه توقاً

اهتز فضاء بكامله لطارىء سعيد”

النص يتحرك في أفق فلسفي مفتوح على تعدد القراءات، حيث يمكن تأويله ضمن سياق صوفي يتماهى مع الرؤية القائلة بانمحاء الذات الفردية في الكلّي، حيث لا يعود الإنسان وجوداً معزولاً، بل نقطة تلاقٍ بين العدم والوجود، في استدعاء مستتر لثنائيةِ الفناء والبقاء التي تشكل جوهر التجربة الصوفية. الهُوية هنا ليست معطى ثابتاً، بل فضاء للانزلاق المستمر، حيث يتداخل الـ”أنا” مع الكائنات الأخرى، فتغدو الذات مرآة للكون، والكون انعكاساً لها. ومن زاوية أخرى، يشتغل النص على تفكيك الأنماط الثنائية التي حكمت العلاقة بين الإنسان والطبيعة، لصالح رؤية تؤسس لعالم لا تقوم فيه الأشياء بوظائفها التقليدية، بل تتجاوز حدودها نحو فضاء من التشابك الحي، حيث تصبح الموجودات أطيافاً متداخلة في نسيج كوني لا نهائي، يتجاوز منطق التقابل نحو أفق من التداخل والتماه.

“المكان الذي ينتسِب إلى ظلك

الظل الذي يمضي على الجهات

الأرض تدور آمنة مطمئنة

من قال أن السماء تنام ولست حلمها

من قال أن الطبيعة تتنفس ولست ساعتها

من قال أنك لست أنت وأنت ضمان وجوده ؟”

الذات في هذا الخطاب لا تتحدد ككيان فردي معزول، بل تتماهى مع الوجود، حيث يصبح الظلُّ امتداداً أنطولوجياً يتجاوز كونه مجرد انعكاسٍ مادي، ليحضر بوصفه كينونة تمتلك تأثيرها الخاص على المكان. الزمن ذاته لا يعود خطياً، بل يتشظى إلى لحظات كثيفة تتوالد باستمرار، حيث تتحول الساعة إلى كائنٍ ينفخ في جرسه، ويغدو الزمن نفسه جسداً يتنفس ويمارس فعلاً حيوياً يتحدى منطق التراتبية الزمنية التقليدية. هذا التلاعب بالزمن والمكان يعيد تشكيل البنية الإدراكية للنص، فيحوله إلى تجربة شعرية تلتقي فيها أبعاد الحضور والغياب ضمن إيقاعٍ كوني متدفق، تتشابكُ فيه الذوات مع العناصر الطبيعية في نسيج من التبادلاتِ الوجودية المتراكبة.

عن تكرار السؤال في النص:

يبدو النص محمّلًا بتوترٍ دلالي يتجلى في الانتقال من الجملة التقريرية المؤكِّدة إلى البنية الاستفهامية المتكررة، مما يخلق حالة من التذبذب بين اليقين والتساؤل. فالشاعر يبدأ بتوكيد حضور السماء وتنفسها، مستخدمًا إيقاعاً دلالياً يوحي بالثبات والرسوخ: “ يذكرك القمر، تتنفس السماء”. بيدَ أنَ هذا اليقين سرعان ما يتشظّى عبر سلسلة من الأسئلة التي تفتح النص على أفق تأويلي متعدد: “أيّ شلال يفلتر صداها السامي. من قال…من قال… من قال أنك لست أنت وأنت ضمان وجوده؟

ولمَ تنازل الشاعر هنا عن أحقية علامة الاستفهام (؟)

هنا، يتحول الاستفهام إلى أداة زعزعة، تتجاوز وظيفته التقليدية بحثاً عن يقينٍ ضائع أو حقيقة غائبة. فالتكرار الاستفهامي( أيّ، مَنْ، مَنْ، من قال..؟)  لا يأتي بغرض الحصول على إجابة، بل بوصفه آلية تشكيك في المسلّمات، وكأنّ النص يُقيم مفارقة بين لحظة التوكيد الأولية وحالة الارتياب اللاحقة.

“في أحايين نسأل، لا في باب طلب معرفة شيء لا نعرفه إيضاً، بل في باب قولٍ ما نعرف تمام المعرفة، لكن غرض السؤال تذكير المخاطب”*٣

إن إدراج الاستفهام في هذا السياق ليس مجرد تنويع إيقاعي، بل هو انعكاس لقلق وجودي يتسرب بين طبقات المعنى، حيث يصبح السؤال ذاته فعلاً احتجاجيًا ضد الثبات، ورغبة في تفكيك المألوف وإعادة تشكيله وفق منظور جديد.

وهكذا ختاماً ونحو شعرية ما بعد الحداثة:

النص المعنون بـ” تبصراتٍ رماحة” يعكس اشتغالاً حداثياً متجاوزاً، حيث يتحرك ضمن منطقة وسيطة بين الشعر والتأمل الفلسفي، موظفاً آلياتِ التفكيك وإعادةِ التركيب، ما يجعله نصاً مفتوحاً على قراءات متعددة، تتراوح بين الحس الصوفي، والوعي الكوني، وتفكيك المركزية الأنطولوجية للذات. إنّه نص يتجاوز الحضور البسيط للكلمة إلى صناعة فضاء شعري ينبض بميتافيزيقا مفتوحة على الاحتمالات.

١-ولاتي مه: موقع إلكتروني أدبي-ثقافي تُنشر فيه المشاركات باللغتين العربية والكردية.

٢-في نظرية العنوان: خالد حسين عن دار التكوين.

٣-السؤال وعلامته: مجلة القافلة الثقافية

٤-إبراهيم محمود كاتب وناقد وشاعر كردي-سوري مقيم في دهوك.

المصدر: مدارات كرد

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية