بوتان زيباري
في زحمة الحروب التي لا تُعد ولا تُحصى، وفي متاهة السياسة التي تُدار بحساباتٍ لا تُعلن، يبقى الكردي واقفًا، لا يطلب شهادة رثاء من التاريخ، بل يطالب بمكانه في الحياة. ليس سؤاله عن الحدود أو الجنسية أو اللغة مجرد مطلب إداري، بل هو صرخة وجود، صرخة شعب تجاوز الثلاثين مليونًا، يعيش على أرضه كغريب، ويُعامل في وطنه كمُجرم. ووسط هذا الصراع الطويل، تبرز تركيا، أو بالأحرى تبرز سياسة رجب طيب أردوغان، التي تُبنى على مبدأ واحد: أن الكردي، أينما كان، هو تهديد. ليس لأنه يحمل السلاح، بل لأنه يحمل الذاكرة، وله لغة، ولديه حلم.
أردوغان، الذي يحكم بيد من حديد منذ عقود، لم يُخفِ يومًا عداءه للقضية الكردية. لم يكن هذا العداء مجرد موقف سياسي، بل أضحى جزءًا من بنية النظام نفسه. كل خطوة يخطوها، داخل تركيا أو خارجها، تُقاس بمدى قدرتها على كبح صوت الكردي، على تهميشه، على تفتيته. يتحدث عن “السلام”، ويُرسل الطائرات الحربية إلى جبال قنديل. يدّعي التفاوض، ويعيد فتح الجبهات في الشمال السوري. يُعلن عن “فرص متقدمة” في الحوار مع عبد الله أوجلان، وفي الوقت نفسه يُصعّد من القصف على مناطق يقطنها مدنيون أكراد، يسقطون كل يوم كأرقام لا تُهم، بينما تُكتب التقارير ببرود دبلوماسي.
لكن الأغرب من ذلك كله هو محاولته تجميل هذا العداء بعباءة “محاربة الإرهاب”. فحزب العمال الكردستاني، الذي يُصنفه أردوغان عدوًا رقم واحد، لم يُخلق من فراغ، بل هو نتاج عقود من القمع، من حرمان، من إلغاء الهوية. وحين يُصرّ أردوغان على أن المشكلة ليست مع الشعب الكردي، بل مع “الإرهاب”، فإنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على العالم. كيف يمكن أن تُفاوض شعبًا من خلال سجنه لقائده؟ كيف تتحدث عن حقوق ثقافية ولغوية في دستور جديد، بينما تُدمر القرى الكردية بالطائرات، وتُهجر العائلات، وتُبنى “مناطق آمنة” على أنقاض بيوت المهجرين؟
وإذا كان أردوغان يعتقد أن بإمكانه أن يُحلّ القضية الكردية بضربة جوية أو بصفقة مع ترامب، فهو واهم. لأن الشعب الكردي لم يُهزم يومًا بالحروب، بل نما فيها. لم يُقتل صوته بالرصاص، بل ازداد ارتفاعًا. وحين يُرسل جنوده إلى جيبوتي، كما لو أن هناك تهديدًا كرديًا يُهدد أنقرة من هناك، فهو لا يُظهر قوة، بل يُظهر هشاشة مشروعه. مشروع يقوم على الخوف من الآخر، من المُختلف، من المُطالب بحقوقه.
وفي سوريا، حيث تُرسم الخرائط على وقع المدافع، تُحاول تركيا تحويل الحكومة المؤقتة إلى أداة لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية، كأنها تريد إشعال فتيل صراع لا ينتهي، يُضعف الجميع، ويخدمها وحدها. لكن قسد ليست مجرد تشكيل عسكري، بل هي تجربة سياسية، تجربة لامركزية، تجربة ديمقراطية حقيقية، تُعطي صلاحيات حقيقية للإدارة المحلية، تُطبّق ما لم يطبّقه حزب البعث في عقود. وحين تُحاول تركيا عرقلة هذه التجربة، فهي لا تُحارب مسلحًا، بل تُحارب فكرة، فكرة التعايش، فكرة التنوع، فكرة أن سوريا يمكن أن تكون وطنًا لكل أبنائها.
ومن المفارقات أن الولايات المتحدة، التي تُتهم أحيانًا بالاستغلال، تُصبح في هذا السياق حليفًا أكثر وعيًا من بعض الجوار. فرغم تقلبات السياسة الأمريكية، ورغم تغريدات ترامب التي كانت تُغيّر الموقف في لحظة، إلا أن الواقعيّة جعلت من الكرد حلفاء موثوقًا بهم. لم يُخيبوا ظنّها في معركة داعش، وهم يُمسكون اليوم بأكثر من ألفي أسير من التنظيم، يُحذرون من كارثة إن لم تُؤخذ قرارات جادة. والأخطر أن بعض الدوائر الإسرائيلية تُعلن بصراحة أن “سوريا المقسمة” هي الأفضل، ما يُكشف عن مشروع تفتيتي أكبر، لا يخدم إلا من يُريد المنطقة ضعيفة، مشتتة، تابعة.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي أن الموقف الأمريكي ليس موقفًا واحدًا. هناك مؤسسة عسكرية، وهناك مؤسسة دبلوماسية، وهناك مراكز قوى داخلية تُدرك أن الوجود في شرق الفرات ليس ترفًا، بل مسألة أمن قومي. فالنفط، والأنابيب، والموقع الجيوسياسي، كلها عوامل تجعل من بقاء أمريكا في سوريا حتمية استراتيجية، وليس خيارًا ترفيهيًا. وتجربة أفغانستان، وانسحاب 2019 الذي خذل القادة الأكراد، لا يمكن أن تتكرر بسهولة، خصوصًا بعد أن بات من الواضح أن الانسحابات المفاجئة تُعيد إنتاج الفوضى، لا الاستقرار.
أما العلاقة بين أردوغان وترامب، فهي ليست علاقة حلفاء، بل علاقة صفقة. رجل مبادئ مقابل رجل تجارة. وحين يُراهن أردوغان على هذه العلاقة، فهو يراهن على رملٍ متحرك. لأن المؤسسة الأمريكية، رغم كل ما يُقال، لا تُبنى على التغريدات، بل على مصالح استراتيجية طويلة الأمد، لا تتفق غالبًا مع الطموحات السلطوية لأنقرة.
وفي النهاية، لا يمكن لأي شعب أن يُهزم طالما يُؤمن بقضيته. والكردي اليوم أمام اختبار كبير: أن يُعيد ترتيب بيته الداخلي، أن يُوحّد قواه السياسية، أن يُصبح يدًا واحدة، لا أصابع متفرقة. لأن القوة لا تُبنى بالسلاح وحده، بل بالوحدة، بالرؤية، بالوعي. وحين يقف الكرد معًا، سيأتي اليوم الذي تضطر فيه كل القوى، من أنقرة إلى واشنطن، إلى الجلوس على طاولة المفاوضات ليس كمُنتصر ومُنهزم، بل كأطراف متساوية في الحقوق، في الأرض، في الحلم.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=73415





