الزرادشتية… نار لا تخمد وذاكرة تبحث عن أهلها

لورنس الشعير

هناك أديان تُطوى صفحتها حين تسقط ممالكها، وأديان تظلّ تتنفّس حتى لو انكمش أتباعها إلى حفنة من الناس. من بين تلك التي لا تموت بسهولة، تبرز الزرادشتية، الدين الذي حمل للنار معنى يتجاوز الاحتراق، لتصبح رمزًا للحقيقة، وللخير الذي لا يخجل من مواجهة الظلام.

في الجبال الممتدة بين كردستان وإيران وآسيا الوسطى، وُلد زرادشت في زمن قديم، فلم يعرف تاريخ ولادته، يختلف الباحثون فيه: من قال إنه عاش منذ ثلاثة آلاف سنة، ومن قال قبل ذلك بقرون. لكنهم يتفقون على أنّه سبق الكثير من رموز البشرية الدينية: قبل بوذا وكونفوشيوس، وربما قبل موسى. كان العالم وقتها ضاجاً بآلهة متعددة، كل واحدة تطلب دماءً وقرابين. وسط ذلك الزحام، خرج زرادشت ليقول شيئًا يشبه إعلان تمرّد: هناك إله واحد، اسمه أهورامزدا، ربّ الحكمة والنور.

يحكي التراث، إن البعض عرفوا خطر هذا الرجل قبل أن يكبر، فحاولوا التخلص منه طفلاً. قيل إنه أُلقي في النار فلم يحترق، ووضع بين الذئاب فلم تفترسه. هذه الأساطير ليست حكايات، بل إعلاناً مبكراً عن طبيعة الرجل: شخص مكتوب عليه أن يشتبك مع العتمة طوال حياته.

عندما بلغ الثلاثين من عمره، تجلّى له النور ـ وفق الرواية الدينية ـ ومن تلك اللحظة بدأت رحلته في تغيير العالم. دعوته لم تلق ترحيبًا في البداية. مواجهة الكهنة ورجال السلطة لم تكن سهلة، حتى ظهر الملك فيشتاسب، الذي آمن برسالته ودفع بدعوته إلى فضاء الدولة والسلطة. عندها خرجت الزرادشتية من ضيق الاضطهاد إلى رحابة الإمبراطوريات.

في هذه الجغرافيا ذاتها، حيث تتسرّب الأسطورة في التربة، يرى كثير من الباحثين الكرد أن زرادشت ابن هذه الأرض. يقولون: لغته الأصلية “الأفستية” تتقاطع بوضوح مع جذور اللغة الكردية، وإن انتشار الزرادشتية التاريخي في كردستان ليس صدفة. بحثاً عن هوية أقدم من الجراح السياسية الراهنة، عاد الكرد إلى زرادشت لا باعتباره نبيًا فقط، بل رمزًا ثقافيًا. منذ سنوات قليلة، اعترفت حكومة إقليم كردستان بالدين الزرادشتي رسميًا، وبدأت النار تُشعل في معابد جديدة، كأنّ ذاكرة قديمة تستيقظ من سباتها.

في قلب هذه الديانة يقف كتابها المقدّس: الأفستا. اسمه وحده يحمل رهبة الأزمنة. لكنه؛ لم يصل إلينا كاملًا. الحروب، الغزوات، الفتوحات… كلها مزّقت صفحاته. يقال إن الأفستا كان في الأصل واحدًا وعشرين كتابًا؛ ضاع معظمها ولم يتبق سوى جزء صغير. أقدم ما وصلنا منه “الكاثات”، وأناشيد يُعتقد أنّ زرادشت نفسه كتبها أو أملاها. لاحقًا ظهرت “الزند”، وهي شروح للنص، ثم شاع لدى الناس مصطلح “زند أفستا” الذي جمع الأصل والتفسير في معنى واحد.

اللافت في هذا الكتاب أنه لا يقدّم أخلاقًا كأوامر فوقية، بل كخيار حرّ يحدد مصير الإنسان. يقول: أنت مسؤول عن الخير الذي تفعله، والشر الذي تسمح له بالعبور. الإيمان وحده لا يشفع… العمل وحده يشهد لك.

من هنا يمكن فهم حضور النار في حياتهم الدينية. النار عندهم ليست معبودًا، بل مرآة للصدق؛ لا تخفي شيئًا. يتوجّهون في صلواتهم نحو الضوء ـ شمسًا أو نارًا ـ خمس مرات في اليوم. يرتدون قميصًا أبيض يسمّى “السدرة” رمزًا للنقاء، وحزامًا بعُقد ثلاث تذكّرهم بأن أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم يجب أن تكون نقية.

النقاء في الزرادشتية لا يعني الطقوس فقط، بل صون العناصر الأربعة: الماء، النار، الهواء، والأرض. لهذا كانوا يرون أن دفن الجثث ينجّس الأرض، فابتكروا طريقة مختلفة لمواراة الموتى: وُضعت الجثامين فوق أبراج عالية يسمّونها “أبراج الصمت”، لتأكلها الطيور، ثم تُجمع العظام لاحقًا في حفرة مخصصة. اليوم تغيّر الزمن، فتبدّلت بعض الممارسات، لكن الفكرة الجوهرية بقيت: احترام الطبيعة بوصفها هدية من النور.

أعيادهم أيضًا لها قصص تقول الكثير. نوروز مثلاً، عيد رأس السنة الذي يتلاقى فيه الكرد والفرس وشعوب كثيرة، هو في الأصل زرادشتي؛ يحتفل بعودة الشمس وانتصار الضوء على الشتاء. هناك أيضًا عيد السده الذي يشعلون فيه النار في قلب الشتاء، تذكيرًا بأن الدفء يربح في النهاية.

الخيال الشعبي لا يتوقّف عند هذا الحد. هناك رواية لدى بعض المؤرخين الكرد تقول إن زرادشت هو نفسه جدّ النبي إبراهيم، أو حتى إنهما شخص واحد بوجهين في التاريخ. كلاهما واجه مجتمعًا وثنيًا. كلاهما حمل فكرة التوحيد. كلاهما ارتبط بالنار بطريقة فريدة: إبراهيم نجا منها، وزرادشت تحدّث من خلالها مع الحكمة. القصة جذّابة بلا شك، لأنها تمنح الكرد جذورًا في شجرة النبوّات الإبراهيمية. لكنها تبقى فرضية قومية لم تثبت تاريخيًا بعد، بسبب الفارق الزمني والجغرافي الواضح بين الشخصيتين. العلم لا يحسم، لكنه أيضًا لا يقدّم ما يكفي من الأدلة للجزم.

حين بلغت الزرادشتية ذروة حضورها، كانت ديانة الإمبراطوريات الكبرى. قورش الأخميني وداريوس حكاما لنصف العالم تقريبًا، وحملوا معهم مبادئ زرادشت. أسطوانة قورش، التي يعتبرها كثيرون أول إعلان لحقوق الإنسان، كانت ثمرة رؤية ترى أن البشر متساوون أمام النور. الساسانيون لاحقًا نظموا مؤسسات دينية وتعليمية واسعة، جعلت الزرادشتية قادرة على إدارة مجتمع كامل بقوانين وأخلاق.

لكن أهم أثر تركته الزرادشتية ربما ليس سياسيًا ولا عسكريًا. الأثر الأكبر كان في الروح البشرية. بعد السبي البابلي، احتك اليهود بالزرادشتيين، فتسرّبت إلى تراثهم أفكار عميقة: كيوم القيامة، الحساب، الجنة، النار، ووجود “الشرير”… ومن اليهودية وصلت هذه الأفكار إلى المسيحية ثم الإسلام. الزردشتيه دين صغير اليوم، لكنه زرع بذورًا في الحقول الكبرى للأديان العالمية.

قصصهم كثيرة وتستحق أن تُروى. قورش العظيم الذي لم يفرض دينه بالقوة وسمح لكل شعب أن يعبد بطريقته. الطفل زرادشت الذي أسقطه خصومه من الجبل فنجا، ليقول لهم إن سقوطه هو بداية صعوده. النار التي لا تُطفأ داخل كل معبد، حتى يشعر الناس أن الحقيقة تحتاج من يحرسها. وفيلسوف ألماني بعد آلاف السنين ـ نيتشه ـ يعيد زرادشت إلى الحياة في كتاب شهير، مستعيرًا اسمه رمزًا للإنسان الذي يريد أن يخلق قيمه بيديه.

ورغم هذا التاريخ العريق، أصبح عدد الزرادشتيين في العالم اليوم أقل من مائتي ألف نسمة. أكثرهم في إيران، وتحديدًا في يزد وكرمان. وهناك جماعة البارسيين في الهند، الذين اشتهروا بنجاحهم الاقتصادي والعلمي. وفي كردستان العراق، تستيقظ هذه الديانة على مهل… تشعل نارًا بعد أخرى، كأنها تختبر الواقع الجديد بحذر العائدين من منفًى طويل. التحديات كبيرة: تناقص أعداد المواليد، وتشتت الجاليات في بلدان العالم، وصعوبة التعايش أحيانًا مع قوانين دينية قديمة في عصر سريع الحركة. لكن الإحياء الثقافي والديني يقول شيئًا مشرقًا: الشعوب لا تنسى جذورها مهما طال الغياب.

الزرادشتية اختصرت الأخلاق كلها في جملة ثلاثة أفعال: “فكر حسن، وقول حسن، وعمل حسن”. كأن الدين رسالة قصيرة تستقر في القلب وتكفي لتصنيع إنسان جيد. هذا هو جوهر الدين الذي لم يخلق لإخافة الناس من النار، بل ليدعوهم ليكونوا نورًا يمشي على الأرض.

حين نتأمل هذه الديانة نكتشف أننا لا نقرأ مجرد تاريخ قديم، بل نتأمل في مرآة تُظهر لنا سؤالًا حديثًا جدًا: كيف نعيش الخير اليوم؟ كيف نقاوم الشر الذي ليس في الخارج فقط، بل مقيم في أعماقنا؟ وكيف نصنع مساءً يشبه صباحًا لا يخجل من ضوئه؟

زرادشت لم يأت ليؤسس دولة خالدة، بل ليضع شرارة في وعي البشر. الإمبراطوريات تنهار، والجيوش تفنى، والكتب تتمزق… لكن؛ الفكرة التي تشبه النار الحقيقية تبقى تتوهّج مهما حاولت الرياح إسكاتها. لهذا تبدو الزرادشتية كأنها نار صغيرة في ليل طويل: قد لا ترى من بعيد، لكنها تكفي لمن فهم المعنى أن يبصر الطريق.

والإجابة الأخيرة على سؤال: لماذا لا تنطفئ؟ لأنها دينٌ علّم أتباعه ألا يعبدوا النار… بل يشعلوها.

صحيفة روناهي

 

Scroll to Top