السلام في الداخل، السلام في الخارج
أعلنت تركيا عن استثمارٍ بقيمة 14.2 مليار دولار ضمن مشروع تنمية جنوب شرق الأناضول حتى عام 2028. وتأمل أن يسهم المشروع في رفع مستوى الدخل وزيادة فرص العمل في جنوب شرق تركيا، حيث المنطقة الكردية. كما تأمل أن يُحفّز هذا الاستثمار السلام مع حزب العمال الكردستاني. ومع ذلك، فإن هذا الأمل غير واقعي ما لم يشمل الاستثمارُ في البنية التحتية إصلاحاتٍ سياسيةً وثقافية. فالسلام ليس سلعة تُشترى، بل تتحقق شروطه من خلال “نزع السلاح، والتسريح، وإعادة الإدماج”، بما في ذلك العفو عن الكرد الذين يتخلون عن العنف السياسي.
مشروع “تنمية” جنوب شرق الأناضول ليس مبادرة جديدة. فقد استثمرت الحكومة التركية في تسعينات القرن الماضي مبالغ كبيرة في البنية التحتية والصناعات الريفية في الجنوب الشرقي. لكن المشروع فشل كأداة لبناء السلام بسبب توقيته السيئ وتنفيذه الضعيف. علاوة على ذلك، اعتقدت السلطات خطأً أنّ الكرد يمكن التأثير عليهم بالحوافز المالية، لكنها لم تدرك أنّ دعم الكرد لحزب العمال الكردستاني ينبع من دفاعه عن كرامتهم في مواجهة انتهاكات الدولة التركية.
يُعدّ “نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج” ابتكاراً يمكن أن يُنهي الصراع الكردي-التركي الذي أودى بحياة 40,000 شخص منذ عام 1985. يساهم البرنامج في تعزيز الأمن من خلال نزع الأسلحة من أيدي المقاتلين، وتفكيك الهياكل العسكرية غير النظامية، ومساعدة المقاتلين على الاندماج اجتماعياً واقتصادياً في المجتمع. ولكن “تحويل الأسلحة إلى محاريث” يتطلب التزاماً مشتركاً من الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني للتخلي عن العنف والسعي لتحقيق الأهداف عبر المفاوضات.
نزعُ السلاح هو جوهر البرنامج، ويتضمن جمع الأسلحة وتوثيقها والتحكم بها والتخلص منها. أما التسريح، فيعني إخراج المقاتلين النشطين من المجموعات المسلحة. وإعادة الإدماج هي عملية يُمنح من خلالها المقاتلون السابقون صفة مدنية، وتُؤمَّن لهم فرص عمل وحياة مستدامة خلال فترة التعافي بعد النزاع. تعالج إعادة الإدماج القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ما يجعل هؤلاء الأفراد شركاء في عملية السلام. وبينما تعمل الطرق والمستشفيات والمدارس على تحسين نوعية الحياة، يمكن ربط مشروع تنمية جنوب شرق الأناضول بعملية بناء السلام ليكون جزءاً محورياً منه.
لكن “نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج” لا يحدث في فراغ. فعادةً ما يُعرَّف ضمن اتفاقٍ لوقف إطلاق النار أو اتفاقيةَ سلامٍ تُوفر إطاراً سياسياً وقانونياً لبناء السلام. لا يُعلَن البرنامج بشكل أحادي الجانب أو يُفرَض من قِبل المنتصر على المهزوم. وغالباً ما يفشل كإجراء حكومي مركزي، إذا افتقر إلى التنسيق مع المسؤولين المحليين والمجتمعات المتضررة مباشرة. توفر مفاهيم إعادة الإدماج المتمحورة حول المجتمع نموذجاً بديلاً يربط بين احتياجات المقاتلين السابقين والضحايا واحتياجات المجتمع ككل.
إنّ “نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج” وحده لا يبني السلام، ولا يمنع الجماعات المسلحة من العودة إلى العنف. ينبغي أن يكون جزءاً من استراتيجية شاملة لبناء السلام وإعادة الإعمار، تشمل إصلاح القطاع الأمني والإصلاح السياسي والقضائي، وتحقيق العدالة الانتقالية، وترتيبات العفو.
كما يمكن ربط البرنامج بعملية كشف الحقيقة، حيث يعترف المسؤولون الأمنيون والمقاتلون بأفعالهم الخاطئة. فبينما يتم تحديد تاريخ محدد لاتفاق وقف إطلاق النار، فإن بناء السلام هو عملية مستمرة وليست حدثاً واحداً، ويشمل العديد من الأطراف.
ما يحدث في سوريا يؤثر على تركيا والعكس صحيح. يعيش العديد من الكرد ضمن عائلات ممتدة على جانبي الحدود، وتُعتبر الكرمانجية اللهجة المشتركة بينهم. يعتقد الرئيس رجب طيب أردوغان أنّ قوات سوريا الديمقراطية، وهي ميليشيا موالية للغرب تتكون من كرد سوريا وعرب سُنّة معتدلين، جماعةٌ إرهابية وهدّد بـ”إبادتهم.” صحيح أن قوات سوريا الديمقراطية تستلهم مبادئ عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني، مثل الديمقراطية الشعبية، وتمكين المرأة، والعدالة البيئية. لكنهما منظمتان منفصلتان لهما هياكل قيادية مختلفة. الخلط بينهما يُظهر “فوبيا الكرد” التي يستغلها أردوغان لحشد قاعدته القومية.
يتطلب السلام المستدام حلولاً مماثلة في كل من تركيا وسوريا. يمكن أن تساهم التنمية الديمقراطية واللامركزية في تحقيق هذا الهدف. يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً مساعداً. فقد أوقف البرلمان الأوروبي مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في 2019 بسبب التراجع في الديمقراطية. يمكن استئناف المفاوضات إذا أوقفت تركيا قمعها للحقوق الثقافية والسياسية للكرد. كما أنّ اتفاقيةً تمنح العفو لحزب العمال الكردستاني قد تُمهّد الطريق لاستئناف المباحثات حول انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
ينبغي على تركيا أن تسعى لاستعادة علاقاتها الجيدة مع الناتو، الذي يضع معايير ديمقراطية. وسيُرحّب الغرب بإلغاء تركيا شراء صواريخ إس-400 من روسيا. مستقبل تركيا يكمن في الغرب وليس في أوراسيا. يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رفع العقوبات وتطبيع العلاقات العسكرية مقابل إصلاحات حقيقية وقابلة للتحقق.
سيتحقق التقدم عندما تختار تركيا تبنّي روح المصالحة مع الكرد. يمثل سقوط بشار الأسد لحظة فاصلة. يمكن لأردوغان أن يسلك طريق “عدالة المنتصر”، مما سيزيد من عزلة تركيا عن المؤسسات الأوروبية الأطلسية، أو أن يتصرف كزعيم دولة حقيقي ويسعى لتحقيق المصالحة.
لا يوجد في شخصية أردوغان أو سجلّه ما يشير إلى استعداده للتسوية. لكن الدبلوماسية والحوافز تستحق المحاولة. القيادة تربط بين المصالح الوطنية والصالح العام. يمكن لإرث أردوغان ومصالح تركيا أن تُخدم بشكل أفضل من خلال تحقيق تقدم للكرد في الداخل والمنطقة.
ترجمة عن الإنكليزية: مركز الفرات للدراسات-قسم الترجمة.
الكاتب ديفيد إل. فيليبس، أستاذ مساعد في جامعة جورج تاون, عن برنامج دراسات الملفات الأمنية الدولية.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=59530