الإثنين 16 حزيران 2025

الشراكة اللامركزية السياسية هي الطريق لإنقاذ سوريا

د. محمود عباس

في خضمّ المعارك الدستورية المؤجلة، والمساومات الدولية التي تتقاذف مصير السوريين، يبرز سؤال حاسم، هل يكفي أن نمنح المحافظات بعض الصلاحيات الإدارية كي نُقنع شعوبها بالمشاركة، أم أن الإنقاذ الحقيقي يبدأ بإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس سياسية جديدة؟

بين من يروّج لـ “اللامركزية الإدارية” كمسكّن لأزمة الحكم، ومن يطالب بـ “اللامركزية السياسية” كحلّ جذري يعيد الاعتبار للتعدد والشراكة، تقف سوريا اليوم عند مفترق وجودي لا يحتمل التجاهل.

ففي غربي كوردستان، كما في السويداء ومنطقة الساحل السوري (العلويين)، لم يعد الناس يطالبون بالكهرباء والماء فقط، بل بحقهم في القرار، والهوية، والكرامة.

وهنا، يصبح الفارق بين إدارة المرافق، وحكم الذات، هو الفارق بين دولة ميتة بالوراثة، ووطن يُعاد بناؤه بالإرادة.

اللامركزية السياسية أم الإدارية؟ سؤال المصير السوري وشراكة الكورد في الوطن،

لم يعد النقاش حول شكل الدولة السورية القادمة ترفًا فكريًا أو تلاعبًا بالمفاهيم الإدارية، بل تحوّل إلى سؤال مصيري يرتبط بمستقبل الاستقرار الوطني، وإعادة تعريف العلاقة بين المكونات السورية، وفي مقدمتها الشعب الكوردي، والدولة المركزية التي طالما احتكرت السلطة والهوية والثروة. وبين من يطرح اللامركزية الإدارية كحدّ أقصى ممكن، ومن يطالب بـاللامركزية السياسية كحق وضرورة، تتحدد ملامح الصراع الدستوري القادم.

أولًا: تعريف ضروري

1-    اللامركزية الإدارية تعني توزيع بعض الصلاحيات التنفيذية من المركز إلى الإدارات المحلية، كالسماح للبلديات والمجالس الخدمية بإدارة الشؤون اليومية (كالمياه، الكهرباء، الصحة، التعليم المحلي)، دون أن تمتلك هذه الجهات سلطة تشريعية أو سياسية مستقلة. تبقى كل القرارات الكبرى بيد العاصمة، ويظل المحافظ أو المسؤول المحلي مجرد منفّذ لقرارات المركز، مهما كانت منتخبة صورياً.

2-    أما اللامركزية السياسية، فتعني الاعتراف القانوني والدستوري بوجود وحدات سياسية – إقليمية – تمتلك صلاحيات تشريعية، وتشارك في صياغة القرار السيادي. وهي حجر الزاوية في النظم الفيدرالية التي تعترف بتعدد المكونات والهويات داخل دولة واحدة. تمتلك الأقاليم في هذه الحالة برلمانات محلية، حكومات ذات صلاحيات واسعة، وقوانين خاصة بها، ضمن إطار الدستور العام.

ثانيًا: الفرق الجوهري

الفرق لا يكمن فقط في الشكل، بل في طبيعة الدولة ذاتها:

في الحالة السورية، تُطرح اللامركزية الإدارية كتنازل تجميلي يقدّمه النظام، أو بعض المعارضة المركزية، للإيحاء بقبول التعدد، دون أن يمسوا جوهر الدولة الأحادية المركزية. أما اللامركزية السياسية، فتُعد تحديًا مباشرًا للمنظومة الإستبدادية، التي تريد أن تختزل الوطن في مكون ديني، مذهبي، أو في حزب واحد، كما فعله حزب البعث طوال أكثر من نصف قرن، وبها يحصر الوطن في الشعب في القومية العربية، والقرار في قصر المهاجرين.

ثالثًا: لماذا تهم هذه التفرقة كوردستان الغربية؟

تجربة الإدارة الذاتية في منطقة شمال شرقي سوريا، وغربي كوردستان (روجآڤا) منذ عام 2012، طرحت نفسها كنموذج عملي للامركزية السياسية، حيث تم بناء مؤسسات محلية مستقلة، وتدريس اللغة الكوردية، وتشكيل هياكل أمنية ومدنية خاصة، مع المحافظة على مفهوم سوريا الموحدة. هذه التجربة، رغم ما لها وما عليها، فتحت بابًا حقيقيًا لتجريب شكل جديد من الحكم، لامركزية تضمن الشراكة، لا التبعية.

رفض الحكومة السورية الانتقالية، حتى اليوم الاعتراف بهذه التجربة، لأنه يدرك أن الاعتراف بها يعني نسف فكرة “الدولة المركزية المطلقة” التي بناها البعث منذ الستينيات، ومن هنا، فإن المعركة حول نوع اللامركزية ليست تقنية، بل سياسية بامتياز.

رابعًا: من المستفيد من اللامركزية السياسية؟

الشعب الكوردي، الذي يُطالب منذ قرن بالاعتراف به كشريك في الوطن، لا كجالية أو مكوّن ثانوي.

الأقليات الدينية والعرقية التي عانت من الإقصاء والتذويب.

المناطق المهمشة من دير الزور إلى السويداء، التي خُنقت تحت بيروقراطية المركز.

حتى قسم واسع من العرب السنة الليبراليين والذين يمثلون المعارضة الوطنية السلمية المدنية، الذين باتوا اليوم خارج دوائر القرار في الدولة المتجهة في الواقع العملي نحو التطرف والتكفير.

اللامركزية السياسية تفتح الباب لإعادة صياغة الوطنية السورية على قاعدة التعدد والمشاركة، لا الاحتكار والتسلط.

من يطرح اللامركزية الإدارية كحلّ لسوريا، يُبقي جذور المشكلة قائمة، الاستبداد المقونن، واحتكار القرار، وإنكار الآخر، أما من يسعى إلى اللامركزية السياسية، فإنه يخطو خطوة جريئة نحو بناء دولة مدنية، ديمقراطية، تعددية، تحترم مكوناتها وتُشركهم فعليًا في صياغة مستقبلهم.

وهنا، لا يكون الكورد خصومًا، بل شركاء في التأسيس؛ شركاء لا يطلبون الانفصال، بل الاعتراف، ولا يهددون وحدة البلاد، بل يسعون إلى إنقاذها من التآكل والانفجار، فإما أن تُبنى سوريا على شراكة سياسية فعلية، أو تظل تتآكل تحت وهم المركز المطلق، حتى تنهار كليًا.

الولايات المتحدة الأمريكية

10/6/2025م