الثلاثاء, يوليو 2, 2024

الطريق الى برده ره ش.. لعبة الأقدار ج 4

القسم الثقافي

ماهين شيخاني

كانت التحركات في المجمع على قدم وساق، تشي بأن هناك أمر ما يُحضَر له ..؟. توجهت نحو أحد ” البيشمركة ” حاملاً بيده جداول سألته بفضول :
– عفواً “كاك ” ربما ليس من حقي هذا السؤال، ربما تحسبونه تدخل في شؤونكم ..؟.
– لا يا أخي تفضل هاتِ ما لديك ..؟.
– هل سنبقى هنا طويلاً ..أم هناك مشوار آخر أمامنا ..؟.
– ثمة تحضيرات لبعض الوقت وعلى الأغلب بعد الغداء ستنتقلون الى مخيم ” برد ره ش ” ..؟.
– ماذا قلت : برده ره ش وأين تقع و لأي محافظة تابعة، لأول مرة اسمع باسم ” برده ره ش ” ، لم أخفي ابتسامتي حيث تفاءلت ضمنياً، تخليتها كتلك المصايف المشهورة بكوردستان : سر سنك، صلاح الدين، كلي علي ….الخ .

– هي تابعة لمحافظة دهوك إدارياً، لكنها قريبة من هولير، وننتظر موعد وصول الحافلات والانطلاق سيكون الساعة الثانية .
– هل المسافة بعيدة أم قريبة..؟.
– تبقى على التيسير، هل جنابك أخصائي في مجالات عمل نظم المعلومات الجغرافية..؟. لكن بشكل عام هي بحدود أربع ساعات .
– لا لست مختصاً بالجغرافية، لكني أعشق كل العلوم ولي اطلاع بسيط على الجغرافيا، أشكرك .
– العفو، لا شكر على الواجب، نحنُ إخوة .
رجعت الى الخيمة الكبيرة وهناك صادفت و رأيت قريبي ” محمود “، نعم هو محمود الذي شبهته في الليل، سلم عليَّ قائلاً : وأنت أيضاً أستاذ، بعد هذا العمر تشرد وعذاب، ماذا عملنا بحق السماء مع هؤلاء الوحوش حتى نرى هذا ..؟.
– نعم ..أنا أيضاً ..؟. نحن ضمن لعبة قذرة من سياسة المصالح الدولية، كان بإمكانهم بمكالمة هاتفية وقف كل إساءة، لكن مصالحهم فوق الانسانية، بالمناسبة البارحة بعد وصولنا إلى هنا رأيتك منشغلاً بالنت ..؟.
– لم انتبه لذلك ولم أراك إلا الآن ..
– أظن كنتَ موظف في المصرف الزراعي أو في المخبز الآلي …؟. أليس كذلك ..؟.
– كنت حارس في المخبز .
– هل جئت لوحدك أم مع عائلتك .
– ليتها عائلتي فقط يا أستاذ، بل جئت لأجل أن أنقذ والدتي المشلولة و والدي المريض، وتركت سيارتي في الطرف الأخر في إحدى القرى القريبة من الحدود .
– أوه لا تقل لي بأن والدك كان يرتدي كلابية بيضاء ويغطي رأسه بشماغ أبيض دون عكال .
– هو بالذات ..هلكنا إلى أن رأيناه، تعلم أنه فاقد السمع وقد تاه منا وسط تلك المعمعة ونحن مشغولون بتوصيل والدتي .
– لقد صادف أن جاءنا أحد المهربين يسأل عن أهله، ورأيته جالس في الوادي ومن ثم رأيته على ظهر أحدهم أثناء عبورنا، للأسف حتى سقوطه أيضاً ولن أنسى تلك الوقعة التي كادت أن تهشم رأسه، تألمت كثيراً، لكنني لم أعرفه بل لم أتوقع أن يكون معنا في تلك الظلمة، كنا بضع أسر وأعتقد معظمهم كانوا يمشون وهم كالعميان، بل كنا عميان حقاً، أين هما الآن ..؟.
– أشر بسبابته نحوهما وقال : تلك المرأة الجالسة على المقعد المتحرك ووالدي قريب منها .
– حسناً . لنذهب لأسلم عليهما وأطمئن على الوالد…؟.
– هما الآن بصحة جيدة وفي أمان ..؟.
أخبرت أهلي والناس الذين أعرفهم، ليستعدوا بعد الطعام للانتقال الى مكان آخر، منطقة تسمى ” برده ره ش “، ردَّ أحدهم بتشاؤم نتمنى أن لا تكون مثل بختنا …؟.
بعد الانتهاء من الغذاء، بدأنا نشاهد ونسمع صوت هدير الحافلات وصفها على نسق وتلاوة الأسماء المجدولة، وأقبلت الناس تخرج مع عوائلها حاملة الحقائب والأكياس وتتقدم حسب الأسماء بانتظام، صعدنا الحافلة وامتلأت المقاعد ثم صعدت بعدنا لجنة طبية قبل أن تتحرك الحافلة، طلبت تلقيح الأطفال، أقلقنا ذلك حيث معي ثلاثة أطفال التوأمتان أربع سنوات ومحمود ثلاث سنوات، وبالرغم من انني اعلم أن اللقاحات هي مُنتجات تُعطى عادةً أثناء الطفولة لحماية الأطفال من أمراض خطيرة، وأحياناً فتاكة. وتعمل اللقاحات على تحفيز الدفاعات الطبيعية في الجسم، مما يهيّئه لمكافحة الأمراض على نحو أسرع وأكثر فاعلية، و لكن ما زاد دهشتي ودهشة اللجنة الطبية حيث أطفالي الأثنان منهما لم يصرخان أو يبكيان باستثناء واحدة خافت وبكت، أعلم أن محمود قد تعود على حقن الإبر منذ ولادته وهو كان أحد الأسباب لمغامرتنا لأجله، لقد كان موعد تحليله وتصاويره ودارت المعركة وهرب الناس من مناطقهم خوفاً على حياتهم تاركين مثلنا وراءهم كل شيء .
صعد السائق يباشر القيادة كربان طائرة وقبل جلوسه في قمرته، ألتفت إلينا باسماً وبسلوك رائع سلم على الجميع، مسحت كآبتنا ودب الروح فينا، ثم طلب من مرافقه التأكد من العدد حسب الجدول وبدأ يتهيأ بالحركة خلف الحافلات ونحن ننظر من خلال النوافذ أشعة الشمس تظهر من حين لحين خلف الهضاب وتعكس بريق الحافلات التي تسير على رتل مقطورات ( فاركونات) القطار وفجأةً سمعت صراخ شخص يطلب من السائق التوقف بأسلوب غير مؤدب ودون أدنى احترام وكأن السائق يعمل لديه، كان الصوت بالمقاعد الخلفية، التفت إليه وقلت :
– زعيقك وأسلوبك بهذا الشكل المثير للانتباه، وَتَّر أعصابنا مثلما أزعج باقي الركاب وأفزعت الأطفال، أليس هناك طريقة أفضل للكلام، هل أنت في البراري وأمامك قطيع، أليس ذلك كافياً لتعكير أرواحنا فلم تعد لدينا القدرة على التحمل، ماذا بك يا أخ، لٍمَ هذا الصراخ .
– وما شأنك أنت ..؟. أنا أنادي السائق، إن طفلنا يريد أن يتبول ..؟.
– أسلوبك بالكلام ورفع صوتك، هيه توقف يا أنت ..؟.ألا تعتبرها قلة ذوق وعدم احترام الناس، ثم كيف تقف الحافلة وخلفنا عشرات الحافلات ..؟.
تدخلت امرأة كبيرة السن كانت جالسة أمامه ووجهت كلامها لي : وما دخلك أنت يا هذا لتجادل أخي ..؟.الطفل صغير محصور ويريد أن يبول ولا يعي ما الأمر، كانت حديثها ولهجتها تشبه لهجتنا، قلت :
– يبدوا أنك من منطقتنا، هذه لهجة الدرباسية – لكنني لم أنتبه الى انها فاقدة البصر – لكزتني أم محمود وهمست في أذني، دع المسكينة بحالها أنها لا تبصر، عمياء ..!.
– أترين هذه القافلة كلنا مثلها لا نبصر، كلنا تركنا منازلنا وأعصابنا تالفة لا يرممها سوى الله والعودة الى ديارنا، كان بإمكانه أن يحرك مؤخرته من مقعده ويقوم ويبلغ السائق، يهمس في إذنه بأن حالة طفله يتطلب الوقوف إن أمكن .
– أذهب أنت ربما تقنع السائق،.. قمت من مكاني وتوجهت نحو السائق ومرافقه أخبرتهما بأمر الطفل، هلّ بالإمكان رجاءً ان توقف الحافلة..؟ .. لو لديكما الأمر بالوقوف لحالات طارئة، رأيته مد يده الى مقبض ناقل الحركة لتخفيف السرعة وهدأ ثم جانب الطريق وتوقف، التفت الى والد الطفل وقال :
– تفضل يا عم أنزل مع طفلك ليقضي حاجته ..؟.
– قلت بصوت خافت ربما هي حاجته لكن تحجج بالطفل .
– عدت الى مقعدي، ثم رجع الرجل المشاغب مع طفله، مرَّ بجانبي رمقني بنظرة المنتصر، نافشاً ريشه كديك رومي، كأنه رجع ” رأس العين ” من الفصائل المجرمة.
– نظرت الى أم أولادي وابتسمت، يبدوا هذا معتوه لم يخرج من قريته أبداً ولا يمتلك ذرة من الأخلاق .
بعد دقائق قليلة من انطلاق الحافلة حيث سارت لمسافة قليلة، توقفت و توقف الحافلات بسبب عطل في حافلتنا … بعد محاولات عدة من السائق ومرافقه، يا لحظنا العاثر …. اضطروا الى توزيعنا على الحافلات، تسارع الناس الى حجز مقاعدهم وانتقلنا الى حافلتين وظفرنا في كل حافلة بمقعدين بسبب عددنا وأصبحنا منقسمين أنا مع الصغار وأمهم، وابنتاي الصبايا في حافلة أخرى، وأثناء ذلك لم أصعد كنت بالقرب من الحافلة حيث استغليت الفرصة كي أدخن سيجارة، سمعت أحدهم ينادي :
– أستاذ …أستاذ، التفت صوب الصوت وإذ بشخص في الحافلة القريبة منا يلوح بيده لي، اقتربت منه هل تناديني، أتعرفني :
– نعم أستاذ عز المعرفة، يا ما أخذت من مخبزكم وأنا صغير …أنا فلان الفلاني ساكن بحارتكم وصديقك على الفيسبوك
– أهلاً وسهلاً … عذراً لم أعرفك، انتقلت من الحارة منذ سنوات ..؟.
– لا عليك …كنت صغيراً حينها أما الآن معي أسرتي ..؟.
يا إلهي …ماذا جيء بهذا الشخص معنا، سيلطخ سمعة بلدي وناسي، يا رب أبعده عنا، قلتها في ذاتي ..؟.
كان الجو صحواً والسماء صافية، لا شيء يوحي بهبوب عاصفة، كان لطيفاً، معتدلاً في الجنوب وعندما سرنا باتجاه الشمال كانت قرص الشمس تميل الى الغروب لتودعنا بل كانت نسمات الهواء تتزايد وانقلب الى جو يوحي بهبوب الرياح وكان الطريق يبدوا لنا كثعبان أسود هائل الحجم على ظهره خطوط بيضاء وقبل أن ندخل مدينة دهوك والتي سمعت عنها من خلال المناظر والاصدقاء بل ولها نصيب في إحدى قصائدي، بدأ المطر ينهمر بشدة و ماسحة الزجاج الأمامي بدأت تتحرك لإزالة قطرات المطر وحل الظلام بحيث لم نستمتع بمشاهدة المدينة وقبل الخروج منها توقف القافلة لفترة قصيرة،نزلنا والمطر يتساقط لشراء الدخان وبعض المعجنات للأطفال واستفقدت الحافلة التي فيها بناتي وهل يحتاجان لشيء ما .
ناداني المرافق بالصعود للتحرك، خرجنا من دهوك آملاً أن أعود إليها وأن يكون مخيمنا على مسافة تساعدنا على زيارتها ورؤية الأصدقاء، وسرنا في ذاك الجو الماطر، لا نرى أمامنا سوى أضواء الحافلات و كان الركاب أغلبهم أستسلم للنوم، فترى انحناء رقابهم بأشكال كاريكاتورية مُسلِمةٌ للقدر، ومنهم من وضع رأسه على يديه على مسند المقعد الأمامي، وبعد أن قطعنا شوطاً لا بأس توقف المطر، تراءى لي أن أضواء انعكاس الحافلات كانت قليلة، عرفت حينها بأننا نسير في طريق فرعي ومن ثم بعد مسافة قليلة تباطأت السرعة شيئاً فشيئاً وأخذت تدريجياً بالنزول نحو مدخل الكامب الموعود، أنه كامب ” برده ره ش ” .
– انتهت –

شارك هذا الموضوع على