العودة المؤجَّلة: ستة أعوام من التهجير وغياب العدالة في رأس العين/سري كانيه وتل أبيض

مقدمة:

يستذكر مهجّرو/ات رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، في 9 تشرين الأوّل/أكتوبر من كل عام، سقوط مدينتَيهم تحت الاحتلال التركي، بمشاركة فصائل سورية مسلّحة منضوية في “الجيش الوطني السوري”، إثر العملية العسكرية المسماة “نبع السلام” والتي رُوّج لها بحجّة إنشاء “منطقة آمنة”. غير أنّ الوقائع منذ الأيام الأولى كشفت نتائج كارثية: تقويضٌ للأمن والاستقرار، وتواصلٌ لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ في ظلّ انعدام فعلي لسيادة القانون وغياب آليات مساءلة فعّالة.

وعلى الرغم من التحوّلات السياسية والأمنية الكبرى التي شهدتها البلاد عقب سقوط “نظام الأسد” في 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2024 وتشكيل الحكومة الانتقالية، وما رافق ذلك من عودة لما يزيد على 1.76 مليون نازح داخلي إلى مناطقهم، ما يزال أكثر من 150 ألفاً من السكّان الأصليين لرأس العين/سري كانيه وتل أبيض مهجّرين قسراً؛ ويعيش نحو 40 ألفاً منهم أوضاعاً إنسانية متردّية في مخيمات ومراكز إيواء تفتقر إلى الاعتراف والدعم الأمميَّين، غير قادرين على العودة بسبب الانتهاكات المتواصلة التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” تحت أنظار القوات التركية و/أو بمشاركتها.

وخلال الأعوام الستة الماضية، سُجِّلت انتهاكات ممنهجة وواسعة النطاق للقانوني الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ على يد القوات التركية والفصائل السوريّة المدعومة منها؛ شملت القتل خارج نطاق القانون، والإعدامات الميدانية، والاعتقال التعسّفي، والتعذيب وسوء المعاملة، إضافةً إلى الاستيلاء الواسع على الممتلكات العائدة لسكّانٍ أصليين من الكُرد والعرب والأرمن والسريان والايزيديين والشيشان وغيرهم.

وخلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر 2019 حتى تشرين الأول/أكتوبر 2025، وثّقت رابطة “تآزر” مقتل 70 مدنياً، (بينهم 8 نساء وطفل رضيع)، واعتقال ما لا يقل عن 890 شخصاً (بينهم 92 امرأة و56 طفلاً)، وتعرّض 766 محتجزاً للتعذيب؛ توفّي منهم 7 تحت التعذيب، إضافةً إلى 346 حالة إخفاء قسري ما يزال مصير أصحابها مجهولاً. كما شهدت المنطقة 81 تفجيراً أودت بحياة 147 مدنياً وأصابت 320 آخرين، واندلاع 74 مواجهة مسلّحة/اقتتالاً داخلياً بين فصائل “الجيش الوطني السوري” أسفرت عن مقتل 6 مدنيين وإصابة أكثر من 50 آخرين.

وبالتوازي، جرت تغييرات ديموغرافية عميقة مست أحد أهمّ ركائز التنوّع في المنطقتين: فقد هُجّر أكثر من 85% من سكان رأس العين/سري كانيه، وتراجع الوجود الكُردي من نحو 70,000 إلى أقلّ من 50 شخصاً، وتضاءل حضور الأرمن والسريان والايزيديين إلى أفراد معدودين، كما تأثر الوجود العربي بصورة ملحوظة. وفي تل أبيض، انحسر الوجود الكُردي إلى بضع عائلات بعد أن كان يقارب 30% من السكّان.

وعلى الرغم من تعزّز الآمال بعد 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2024 بعودة تدريجية للمهجّرين إلى مناطق سورية عدّة (ريف دمشق، إدلب، حمص، حلب وغيرها)، لم تشمل هذه العودةُ رأس العين/سري كانيه وتل أبيض (وعفرين ومناطق أخرى)، حيث بقيت هذه المناطق خارج شروط العودة الطوعية الآمنة والكريمة التي تصون الحقوق والكرامة، بسبب استمرار الانتهاكات وغياب الضمانات الفعلية لاسترداد السكن والأراضي والممتلكات والحماية.

عودة المهجّرين/ات: التزام مُعلَن وتعطيلٌ مُستمر

حين وُقّع اتفاق 10 آذار/مارس 2025 بين الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية، كرّس البند الخامس التزاماً أخلاقياً وسياسياً بعودة جميع المهجّرين/ات إلى بلداتهم/ن وقراهم/ن وتأمين حمايتهم من قبل الدولة السورية. لكن الطريق بين الورق والواقع ظلّ أطول من معاناة ستّ سنوات: لا ترتيبات وصول آمنة، ولا بيئة حماية، ولا آليات فعّالة لاسترداد المساكن والممتلكات.

وبعد سبعة أشهر على الاتفاق، لم يُسجَّل أي تقدّم ملموس في ملف مهجّري رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، ما يؤكّد الحاجة إلى أولوية وطنية عاجلة لتنظيم عودةٍ آمنة وكريمة ومنصفة، بمعزل عن المساومات السياسية والترتيبات الأمنية المؤقتة.

فعلياً، ما تزال المنطقتان خاضعتين لسيطرة القوات التركية والفصائل الموالية لها، التي أُدمجت شكلياً ضمن هيكلية وزارة الدفاع السورية الجديدة، فيما تتلقى دعماً وتوجيهاً من أنقرة. هذا الواقع أبقى نفاذ الحكومة الانتقالية ضعيفاً هناك، ولم تُتّخذ خطوات عملية لضمان حقوق السكن والملكية أو تهيئة شروط عودة آمنة.

ويتجاوز أثر الانتهاكات نطاق المنطقتين ليطال عموم محافظة الحسكة عبر استخدام المياه كسلاح؛ فمنذ السيطرة التركية على المنطقة، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، تعرّضت مياه محطّة علوك شرق رأس العين/سري كانيه لعمليات قطعٍ متعمّدة ومتكرّرة، ما حرم نحو 800 ألف شخص من سكان الحسكة وأريافها من المياه، في انتهاك صارخ لحق أهالي المنطقة في الحصول على مياه صالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي.

الإطار القانوني والمسؤوليات:

  • الحكومة الانتقالية السورية:

تتحمّل الحكومة الانتقالية مسؤولية مباشرة عن حماية الحقوق الأساسية للسكان الأصليين والمهجّرين/ات عبر ضمان أمنهم ومنع الانتهاكات وفتح تحقيقات فعّالة ومستقلة تُفضي إلى محاسبة الجناة وجبر ضرر الضحايا، وبالتوازي تهيئة شروط عودة آمنة وكريمة من خلال ترتيبات وصول موثوقة وضمانات حماية فردية وجماعية وآليات سريعة لاسترداد السكن والأراضي والممتلكات.

يتعين على الحكومة السورية تأمين نفاذ إداري وخدمي فعلي إلى منطقتيّ رأس العين/سري كانيه وتل أبيض بالتنسيق مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، والجهات الإقليمية والدولية ذات الصلة، وتوفير الخدمات الأساسية -المياه والصحة والتعليم- من دون تمييز، وإدماج الانتهاكات المرتكبة في مسارات العدالة الانتقالية؛ بما يشمل (الاعتراف بالضحايا، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار) اتساقاً مع التزامات سوريا في مجال حقوق الإنسان. ويُستكمل ذلك بتمكين سكان المنطقة من إدارة شؤونهم عبر هياكل محلية منتخبة وشاملة تعزّز الثقة وتكرّس سيادة القانون.

  • سلطات الاحتلال التركية:

تركيا، بحكم السيطرة الفعلية، تُعدّ قوة احتلال ملزمة بموجب المادة 43 من لوائح لاهاي 1907 واتفاقية جنيف الرابعة 1949 باتخاذ جميع التدابير الممكنة لاستعادة النظام العام والسلامة العامة، وحماية السكان المدنيين، وضمان احترام القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان. كما التزمت أنقرة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار مع الولايات المتحدة (17 تشرين الأول/أكتوبر 2019) بحماية حقوق الإنسان وسلامة ورفاه السكان وتجنّب إلحاق الأذى بالمدنيين والبنى المدنية.

مع ذلك، لم تُتخذ إجراءات ملموسة وفعّالة لوقف الانتهاكات أو حماية المدنيين، وأسهم غياب المساءلة في تفشّي الجرائم واستدامتها. وبغياب شروط العودة الطوعية والآمنة والكريمة وفق معايير الأمم المتحدة، تبقى المنطقتان غير مؤهلتَين للعودة حالياً، ما يُحتم إدماج ملفّهما ضمن الأجندة الوطنية للعدالة الانتقالية وجبر الضرر.

إنّ إنهاء الاحتلال التركي لمنطقتيّ رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، وتأمين عودةٍ آمنة وكريمة للمهجريّن/ات، وجبر الضرر والتعويض، مع محاسبة الجناة وضمان عدم التكرار، ليست مطالب سياسية فحسب، بل استحقاقات قانونية لازمة لتحقيق سلامٍ شاملٍ ومستدام يعيد الحقوق إلى أصحابها ويحمي كرامتهم.

 

مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض حافلة بالانتهاكات الحقوقية (2019-2025):

منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، تشهد منطقتا رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، الخاضعتان للسيطرة التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري”؛ أنماطاً ممنهجة وواسعة النطاق من الانتهاكات ضد السكّان الأصليين من الكُرد والعرب والأرمن والسريان والايزيديين والشيشان وغيرهم.

تشمل هذه الانتهاكات القتل خارج نطاق القانون، والاعتقال التعسّفي والإخفاء القسري، والتعذيب وسوء المعاملة، والنهب ومصادرة الممتلكات، والإجبار على النزوح، وعرقلة عودة الأهالي، إلى جانب سياسات تتريك وتغيير ديمغرافي. وقد أسهم غياب المساءلة على استمرار هذه الانتهاكات، وضاعف من معاناة السكان المحليين.

اعتمدت رابطة “تآزر” في رصدها للحصيلة الممتدّة حتى تشرين الأوّل/أكتوبر 2025 على شبكة باحثين/ات ميدانيين/ات، ومقابلات مباشرة مع الضحايا والناجين/ات وأسرهم/ن وشهود العيان، إضافةً إلى التحقّق من مصادر متاحة للعموم (مصادر مفتوحة) وتقاطع الأدلة والقرائن المادية، مع التزام صارم بمعايير الموافقات المستنيرة وحماية البيانات والحساسية للصدمة. وتمثّل هذه الحصيلة ما أمكن توثيقه والتحقّق منه؛ وعليه يُرجَّح أن تكون الأرقام الفعلية أعلى من المعلن بسبب صعوبات الوصول واستمرار الانتهاكات.

القتل والاعتقال التعسّفي:

منذ احتلال مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وثّقت «تآزر» مقتل 70 مدنياً، بينهم 8 نساء وطفل رضيع، واعتقال ما لا يقلّ عن 890 شخصاً، بينهم 92 امرأة و56 طفلاً، على يد القوات التركية وفصائل «الجيش الوطني السوري» المدعومة منها.

وبحسب التوثيقات، تعرّض 766 محتجزاً للتعذيب، وتوفّي 7 منهم تحت التعذيب، فيما سُجّلت 346 حالة إخفاء قسري ما يزال مصير أصحابها مجهولاً. كما أكّدت «تآزر» تورّط تركيا في نقل ما لا يقلّ عن 121 محتجزاً من شمال شرق سوريا إلى داخل الأراضي التركية، حُكم 62 منهم بأحكام تعسّفية تراوحت بين 13 عاماً والسجن المؤبّد.

 

التهجير القسري والاستيلاء على الممتلكات:

أفضى الاحتلال إلى استمرار تهجير أكثر من 150 ألفاً من السكّان الأصليين لمناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، مقابل توطين أكثر من 3,400 عائلة نازحة من مناطق سورية أخرى في منازل المُهجّرين قسراً.

وتحقّقت «تآزر» من إسكان ما لا يقلّ عن 120 عائلة من نساء وأطفال مقاتلي تنظيم «داعش» -غالبيتهم عراقيون- في منازل مُستولى عليها ضمن رأس العين/سري كانيه وتل أبيض.

ما يزال أكثر من 85% من سكّان رأس العين/سري كانيه مُهجّرين قسراً، وتحوّل الكُرد فيها إلى أقلية بعد تراجع عددهم من نحو 70,000 إلى أقل من 50 شخصاً فقط؛ وتضاءل حضور الأرمن والسريان والايزيديين إلى أفراد معدودين، كما تأثر الوجود العربي بصورة ملحوظة. أما في تل أبيض، فقد انحسر الوجود الكُردي إلى بضع عائلات بعد أن كان يقارب 30% من السكّان

كما وثّقت الاستيلاء على أكثر من 6,200 منزل و1,200 محل تجاري/صناعي ونحو مليون دونم من الأراضي الزراعية (100 ألف هكتار)، وإفراغ 52 قرية من سكّانها الأصليين.

إنسانياً، يعيش نحو 40 ألفاً من المُهجّرين/ات أوضاعاً بائسة في مخيمات ومراكز إيواء تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المقوّمات ومن دون اعتراف أو دعم أممي، منها: واشو كاني (التوينة) الذي يضم 16,250 شخصاً (2,260 عائلة)، وسري كانيه (الطلائع) الذي يضم 16,691 شخصاً (2,615 عائلة) في ريف الحسكة، وتل السمن الذي يضم 6,960 شخصاً (1,247 عائلة) في الرقة.

ورغم إغلاق مخيّم الركبان بالكامل في 7 حزيران/يونيو 2025 (نحو 10,000 نازح/مهجّر داخلي) وإغلاق قرابة 130 مخيّماً صغيراً في إدلب بعد 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2024، ما يزال مُهجّرو رأس العين/سري كانيه وتل أبيض موزّعين بين الخيام ومراكز الإيواء ومدن وبلدات شمال وشرق سوريا بانتظار عودةٍ آمنة وكريمة.

 

فوضى السلاح وانعدام الأمان:

خلافاً للرواية التركية بأنّها ستُنشئ منطقة آمنة، لم تُتَّخذ تدابير حقيقية لضمان الأمن والسلامة العامة. كما تغاضت القوات التركية عن الاقتتال البيني لفصائل «الجيش الوطني السوري» وانتشار السلاح واستخدامه بين المدنيين في ظل غياب المساءلة واستمرار الإفلات من العقاب.

وبين 9 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 و9 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، شهدت مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض ما لا يقلّ عن 81 تفجيراً أسفر عن مقتل 147 مدنياً (بينهم نساء وأطفال)، وإصابة 320 آخرين، إضافةً إلى 74 حالة اقتتال داخلي بين الفصائل تسبّبت بمقتل 6 مدنيين وإصابة أكثر من 50. هذه المؤشرات تعكس بيئة أمنية منفلّتة تجعل العودة الآمنة والمتسقة مع المعايير الدولية أمراً غير متاح حتى الآن.

 

التوصيات:

تتضامن رابطة تآزر للضحايا مع مهجّري/ات سري كانيه/رأس العين وتل أبيض، وجميع الضحايا والمهجرين/ات في سوريا، وتطالب المجتمع الدولي والحكومة السورية الانتقالية والإدارة الذاتية والحكومة التركية وجميع الأطراف المعنية بما يلي:

  1. ضمان العودة: تأمين عودة آمنة وكريمة وطوعية وفورية لجميع المُهجرين/ات من رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، وفق معايير الحماية الدولية.
  2. استرداد الحقوق والممتلكات: إعادة الحقوق إلى أصحابها، بما يشمل ردّ الممتلكات المستولى عليها تعسفاً، وإنشاء آليات تعويض وجبر ضرر فعّالة.
  3. العدالة الانتقالية: تضمين الانتهاكات الواقعة في المنطقتين ضمن برامج العدالة الانتقالية الوطنية، بما يضمن الاعتراف بالضحايا، وكشف الحقيقة، والمحاسبة، وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار.
  4. الضمانات السياسية والحكم المحلي: ربط أي مسار تفاوضي بضمان عودة المُهجّرين/ات، وتمكين سكان المنطقة من إدارة شؤونهم عبر هياكل محلية منتخَبة وشاملة تعزّز الثقة وتكرّس سيادة القانون.
  5. حماية الموارد المائية: تحييد المياه والموارد الطبيعية عن التجاذبات السياسية، وضمان التشغيل المنتظم لمحطّة علوك، والامتناع عن استخدام المياه كوسيلة ضغط على المجتمعات المحلية.
  6. التعافي وإعادة الإعمار: إدراج رأس العين/سري كانيه وتل أبيض في خطط التعافي المبكر وإعادة الإعمار وعدم استثنائهما من الاستثمارات والخدمات الأساسية، بما يعيد مقومات العيش الكريم ويعزّز الاستقرار.

للاطّلاع على التقرير كاملاً بصيغة PDF، يُرجى النقر على هذا الرابط.

المصدر: تــآزر

Scroll to Top