القضية الكردية في تركيا “ملف داخلي بصدى خارجي”

م. أحمد زيبار

 

تبدو القضية الكردية في تركيا اليوم كأنها تقف على حافة زمن جديد، لكنها تحمل على كتفيها ثقل قرن كامل من الإقصاء وتكرار الأخطاء ذاتها. بالنسبة للكرد، ليست العلاقة مع الدولة علاقة عابرة بين شعب وحكومة، بل علاقة مع مشروع دولة تأسست من دونهم، وغالباً ضدّهم، فكانت الهوة منذ البداية أعمق من أن تُردم بخطابات أو وعود ظرفية.

منذ التحوّل من سيفر إلى لوزان، شعر الكرد بأنهم طُووا من النص، وأن الدولة الجديدة اختارت أن تبني هويتها على إنكارهم. كانت تلك اللحظة الأولى في سلسلة من اللحظات التي أوصلت الوعي الكردي إلى إدراك قاسٍ: أن الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الاعتراف لا يأتي بقرار مفرد، بل بتراكم نضال ووعي وصبر طويل.

وفي العقود الأولى للجمهورية، لم تكن الثورات الكردية مجرّد تمرّدات، بل صرخات شعب يريد مكانه في وطنه. ومن شيخ سعيد البيراني إلى سيد رضا ومجازر ديرسم، كان الرد الحكومي ذاته: القوة قبل السياسة، والإخضاع قبل الحوار. ورغم مرور الزمن، لم تتغير كثيراً قواعد التعامل؛ فما زالت الروح ذاتها تحكم هذا النظام، وكأن التاريخ لم يقل كلمته بعد.

ومع صعود حزب العمال الكردستاني، دخلت القضية مرحلة جديدة. فتح الصراع المسلّح جروحاً عميقة، لكن اعتقال عبد الله أوجلان لم يُنهِ شيئاً، بل كشف أن المشكلة أكبر من شخص واحد، وأن الدولة التي سعت لإنهاء المعادلة بالقبضة الأمنية تعود اليوم ثانية للبحث عن طريق للحوار، من موقع سجن إمرالي.

وفي هذا السياق، برزت مؤشرات غامضة: أحاديث عن زيارات إلى السجن، وإصرار مفاجئ من أطراف قومية تُعدّ تاريخياً الأكثر عداءً للكرد على لقاء أوجلان، إلى جانب تحركات تجري خلف الستار بلا شفافية. ويزداد المشهد التباساً مع ورود إشارات مقتضبة إلى قوات سوريا الديمقراطية بوصفها قوة سورية ترتبط تحركاتها جزئياً بمسار القضية الكردية، ما يضيف بُعداً إقليمياً خافتاً إلى المشهد. وتثير هذه التطورات سؤالاً مشروعاً في الشارع الكردي: لماذا كلما اقترب الحديث من الحل ابتعد الوضوح؟ ولماذا يُدار مستقبل شعب بأكمله في الظل، فيما كانت كل السياسات الموجّهة إليه تُنفَّذ دائماً تحت الضوء وبأسلوب قاس وواضح؟

وإذا كانت الدولة التركية تريد فعلاً الحوار مع عبد الله أوجلان، فإن الطريق الطبيعي واحد وبسيط: إطلاق سراحه أولاً، ثم التفاوض معه علناً وعلى مرأى الجميع. فالحوار الحقيقي لا يكون عبر الأسوار ولا عبر رسائل مشفّرة، بل عبر عملية سياسية واضحة يراها الشعب ويسمعها ويشارك في تشكيلها. هذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يمنح أي اتفاق شرعية واحتراماً داخل المجتمع الكردي.

أما إذا لم يكن الإفراج عنه مطروحاً لدى الدولة، لكنها مع ذلك ترغب في حلّ سياسي، فإن البديل المنطقي هو التفاوض مع القيادة السياسية للحزب خارج تركيا، في أماكن مثل أربيل، بعيداً عن القيود الأمنية وضغوط الداخل. فلا شيء يمنع الدولة من التواصل مع ممثلين شرعيين للحركة، إذا كان الهدف فعلاً حلاً لا مناورة تكتيكية.

إن إصرار الحركة القومية على زيارة السجن يزيد المشهد تعقيداً، لأن الخطوة تبدو متناقضة تماماً مع خطابها التاريخي. هذا الإصرار لا يبعث على الطمأنينة، بل يثير شكوكاً لدى الشارع الكردي حول طبيعة ما يجري: هل هو صراع داخل أجهزة الدولة؟ هل هو محاولة لاستخدام الورقة الكردية في لعبة انتخابية؟ هل هو استثمار في شخصية أوجلان كرمز أكثر منه بحث عن حل؟ ولماذا الآن تحديداً؟

وبين كل هذه الأسئلة تبقى الحقيقة واضحة للكرد: إن أي مسار لا يشارك فيه القادة الكرد بشكل فعال وواضح، ولا يُطرح أمام عيون الشعب، ليس مساراً للحل، بل مساراً آخر للالتفاف. فالقضية الكردية ليست ملفاً أمنياً ولا ورقة سياسية، بل قضية شعب وهوية ومستقبل. والحلول التي تأتي من فوق الجدار لا تبني جسوراً، بل تكرّر أخطاء القرن الماضي، فيما تفتح الباب مرة أخرى لألاعيب من يحاولون تجاوز إرادة الكرد وتجاهل حقوقهم.

نعم، قد لاقت الخطوة الأخيرة التي اتخذها حزب العمال الكردستاني ترحيباً واسعاً داخل الساحة السياسية الكردية، وتلتها زيارات لافتة إلى إقليم كوردستان بعد الاتصالات التي جرت مع إمرالي. كما حظيت مبادرة السلام وحلّ الحزب من قبل القائد عبد الله أوجلان بدعم واضح من زعيم الشعب الكردي مسعود البارزاني، في مؤشر على إمكانية تشكل مسار جديد، قد يترك آثاراً ملموسة في مختلف أجزاء كردستان، وربما على المشهد الإقليمي برمّته.

ومع ذلك، تبقى التجربة التاريخية مع الدولة التركية باعثة على الحذر، إذ لا تزال أنقرة تُعدّ غير موثوقة الجانب في نظر غالبية الكرد وما يزيد من ذلك تداولُ تسريبات حول مطالبتها بنزع السلاح في الجزء الغربي من كردستان، ومن غير المرجّح أن تُقدِم أنقرة على مثل هكذا خطوات جوهرية والتي من شأنها أن تخدم شعوبها، ما لم تكن لدى القيادة التركية، ومعها الدولة العميقة، رؤى استراتيجية جديدة حول مستقبل الشرق الأوسط وتوازناته المقبلة، فتسعى عندها إلى استباق التحولات عبر هذا المسعى.

إن مستقبل هذه القضية لن يُحسم بمشاهد مبهمة ولا تحركات رمزية، بل بقرار واضح يعترف بالكرد بوصفهم شركاء في الوطن، لا مشكلة يجري تسكينها. وما لم يتحقق ذلك، ستظل السردية غامضة، وسيظل الصراع قائماً بصور مختلفة، وستظل المسألة برمّتها دائرة من الأسئلة التي لم تجد بعد شجاعتها الكاملة للإجابة.

 

Scroll to Top