الثلاثاء, يناير 28, 2025

القطب المنافس لأمريكا في عهد ترامب – 2/3

د. محمود عباس

في ظل هذه التحولات، يبدو أن التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة وأوروبا يشكل ملامح جديدة للنظام العالمي، خاصة مع تصاعد هيمنة الشركات التكنولوجية العملاقة، التي تؤثر بشكل متزايد على اقتصادات جميع الأطراف، بما في ذلك الطرف المهيمن، الولايات المتحدة. هذا التأثير يتسع ليشمل حتى مجريات الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي دفعت إدارة ترامب، تحت ضغط الدولة العميقة العصرية، إلى تقليص الدعم المادي والعسكري لأوكرانيا، ويعد هذا الضغط بحد ذاته تحديًا كبيرًا للقارة الأوروبية، التي تُرهبها فكرة مواجهة روسيا بمفردها، إلى جانب تقليص المساعدات لأوكرانيا، هددت الولايات المتحدة الدول الأوروبية من خلال الناتو بزيادة نسبة مشاركتها في ميزانية الحلف إلى 5% من دخلها الوطني، مما يمثل وسيلة ترهيب لدفع أوروبا إلى قبول الشروط الأمريكية في مجالات الاستيراد والتصدير، وفتح أسواقها أمام الشركات التكنولوجية الأمريكية كبديل منافس للشركات الأوروبية.

ومع توجه البشرية نحو هيمنة الشركات التكنولوجية العملاقة، التي لا تحدها الجغرافيا وتتشعب جذورها في معظم أنحاء العالم، تبرز قيود جديدة على فعالية استراتيجية ترامب. رفع الاقتصاد الأمريكي من خلال التعريفات الجمركية والضغوط الاقتصادية على أوروبا والدول المنافسة قد يثبت أنه تكتيك محدود التأثير، خاصة إذا كان محصورًا في إطار الصراعات الجيوسياسية. فالولايات المتحدة، مهما بلغت هيمنتها، ستظل بحاجة إلى التعاون مع أوروبا، الصين، وغيرها من القوى المنافسة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي.

وبالنظر إلى الأفق الأوسع، فإن صعود أقطاب التنافس التكنولوجي والاقتصادي يدفع الإمبراطورية الأمريكية إلى الرضوخ لمصالح الدولة العميقة العصرية، على حساب الأجندة العسكرية التقليدية. إزالة أو تقليص الرسوم الجمركية قد يصبح ضرورة استراتيجية، ليس فقط لتطوير العلاقات الاقتصادية الدولية، ولكن أيضًا لدفع عجلة الابتكار والتعاون العالمي. بعكس الصراع العسكري، فإن التعاون التكنولوجي يحمل في طياته أبعادًا إنسانية، حتى وإن كان مدفوعًا بجني الأرباح. ومع ذلك، لا يمكن للدولة العميقة العصرية أن تحقق الهيمنة في ظل التصاعد المستمر للتعريفات الجمركية، دون أن تتبنى سياسات تقوم على المشاركة والتعاون الحر مع القوى الاقتصادية العالمية المماثلة، مثل أوروبا والصين بشكل خاص.

تصريحات ترامب في الأيام الأولى من ولايته الثانية، التي بررها بحجة استنزاف أوروبا للاقتصاد الأمريكي، واتهامه للإدارة السابقة بالجهل تجاه هذه الخسائر، تعكس دعمًا واضحًا للاستراتيجية الجديدة التي تتبناها الدولة العميقة العصرية في الولايات المتحدة من جهة وإسعاد منتخبيه من الشعب الأمريكي.

ولإدراك الدول الأوروبية أن العالم لن يزدهر دون تجاوز القيود الجمركية وتعزيز التنسيق العالمي بين الشركات الرأسمالية الكبرى، ومع الانتباه إلى أن ترامب يفضل مصالح أمريكا الآنية على حساب التطور العالمي المتكامل، وهو نهج يتعارض إلى حد ما مع أهداف الدولة العميقة العصرية، جاءت ردود فعل الاتحاد الأوروبي سريعة ومباشرة.

أبرز هذه الردود كانت من رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي تحدثت في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في اليوم الأول بعد تنصيب ترامب، ورغم أن تصريحاتها بدأت بعبارات دبلوماسية، إلا أنها حملت رسائل حازمة وواضحة، قائلة: “يجب التواصل معه كمحاولة لتجنب التداعيات الاقتصادية المدمرة.” لكنها أضافت بوضوح أن أوروبا ليست مبنية على الضعف أو الرضوخ للشروط الأمريكية، وأكدت أن الاقتصاد الأوروبي لا يزال الأكثر تكاملًا عالميًا، وأن سلاسل التوريد عبر الأطلسي تجعل المصالح المشتركة كبيرة بين الجانبين، كما حذرت من خطر “السباق نحو القاع”، في إشارة إلى السياسات الحمائية التي تبناها ترامب، مشيرة إلى أن النظام العالمي التعاوني الذي كانت أوروبا تأمله لم يتحقق، وفشله سيكون وبالا على الجميع.

تصريحات أورسولا تضمنت تحذيرًا صريحًا بأن أوروبا مستعدة للحياة بدون أمريكا إذا لزم الأمر، قائلة بإننا لن نتسول، مؤكدة انفتاحها على تعزيز العلاقات التجارية مع دول مثل الصين والمكسيك، هذه التصريحات جاءت ردًا على سياسات ترامب، الذي وضع نفسه في مسار تصادمي مع العديد من الدول، بما في ذلك الحلفاء التقليديون، وفي الواقع هنا يأخذ مسارا مختلفا عن إستراتيجية الدولة العميقة العصرية.

على الرغم من هذه الردود الحادة، من غير المتوقع أن يتراجع ترامب، أملا الدعم اللا محدود من الدولة العميقة العصرية، لفرض شروطه الاقتصادية على أوروبا، وهنا يظهر مدى محدودية استيعاب ترامب لأبعاد الدولة العميقة، تحت جموح الحصول على الأرباح السريعة لأمريكا.

من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى خلق شرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا، مما قد يؤثر سلبًا على الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، وبالتالي تدخل أوسع للدولة العميقة في استراتيجية إدارة ترامب، رغم أن سياسات ترامب قد تكون مناسبة لشركات رأس المال العالمية، إلا أنها لا تتماشى مع رؤية أمريكا كإمبراطورية اقتصادية شاملة يجب أن تحوي الجميع، ما يعني أن استمرار فرض التعريفات الجمركية والحصار على الاستيراد والتصدير العالميين قد يُضعف الهيمنة الأمريكية مع مرور الوقت.

في ظل هذه السياسات، وإذا لم تحتضن الدولة العميقة سياسة ترامب الاقتصادية وتشديده على التعاريف الجمركية وغيرها، قد تبرز أوروبا كقطب اقتصادي منافس بدلاً من أن تبقى حليفًا استراتيجيًا، هذا قد يعمق الخلافات بين إدارة ترامب والدولة العميقة العصرية كما ذكرنا، مماثلة للخلافات السابقة بين ترامب والدولة العميقة العسكرية التقليدية، السبب وراء ذلك هو أن الاستراتيجية الحمائية ستُفقد أمريكا أسواقًا عالمية، وستُضعف قدرتها على التوسع الاقتصادي، خاصة مع توجه الدول الأوروبية نحو أسواق بديلة مثل الهند، والصين، وأمريكا الجنوبية.

 

الولايات المتحدة الأمريكية

22/1/2025

شارك هذه المقالة على المنصات التالية