سلمان حسين -هولندا
تُعد القيادة مفهومًا محوريًا في كل من علم السياسة وعلم الإدارة وعنصرًا أساسيًا في نجاح المجتمعات والدول والمنظمات. غير أن هذا المفهوم يتباين عند دراسته من زاوية كل من الحقلين فعلم السياسة يركّزعلى الشرعية والتأثير الجماهيري والمصلحة العامة، بينما تهتم الإدارة العامة بتحقيق الكفاءة والفعالية داخل المؤسسات وضمان استدامة الأداء. وعلى الرغم من هذا الاختلاف الظاهري إلا أن القواسم المشتركة بين المسارين أوسع مما يبدوإذ يشكّل مفهوم القيادة تقاطعًا خصبًا بين السياسة والإدارة ويفتح المجال لفهم أكثر شمولًا لديناميكية الحكم والإدارة. ويتجلى هذا التقاطع بشكل واضح عند إسقاطه على واقع الأحزاب والمنظمات الكردية في سوريا، التي تجمع في ممارساتها بين الطابع السياسي النضالي من جهة والطابع الإداري التنظيمي من جهة أخرى، مما يجعل دراسة القيادة في هذا السياق ضرورة لفهم طبيعة حالة التشرزم في هذه المنظمات ودورها الخجول في المشهد السوري والإقليمي.
في علم السياسة تُفهم القيادة على أنها القدرة التي يمتلكها فرد أو مجموعة للتأثير في النظام السياسي وتوجيهه نحو أهداف محددة غالبًا ما تتعلق بالمصلحة العامة أوالحفاظ على الاستقرار وتُبنى هذه القيادة على شرعية سياسية تُستمد من مصادر متعددة مثل الانتخابات الديمقراطية أو التوافق المجتمعي والإقناع الجماهيري أوحتى الكاريزما الشخصية التي تمنح القائد قبولًا واسعًا لدى الجماهيرويتمحوردورالقائد السياسي حول صناعة القرارفي القضايا المصيرية، لا سيما في مجالات السياسات الداخلية والخارجية للحزب، إضافةً إلى الحفاظ على وحدة الحزب أو التنظيم السياسي الذي يمثله، وإدارة الأزمات التي قد تهدد الحزب أو المجتمع. وتتطلب القيادة السياسية جملة من المهارات الأساسية، في مقدمتها القدرة على الخطابة والتأثير الجماهيري، وفهم ديناميكيات السلطة والصراع، وبناء التحالفات الاستراتيجية، فضلًا عن امتلاك رؤية مستقبلية قادرة على توجيه الحزب أو الحركة في مسار مستقر وفعّال.
أما في علم الإدارة ، فتُعدّ القيادة إحدى الوظائف الأساسية ضمن العملية الإدارية إلى جانب كل من التخطيط والتنظيم والرقابة وتتمحور القيادة الإدارية حول تحقيق الكفاءة والفاعلية داخل المؤسسات، وذلك من خلال تحفيز العاملين وتوجيههم نحو تحقيق الأهداف المحددة سلفًا واتخاذ قرارات تنظيمية تصبّ في مصلحة المؤسسة. كما يلعب القائد الإداري دورًا محوريًا في إدارة الصراعات الداخلية، وتعزيز الانسجام بين الفرق، وبناء ثقافة تنظيمية إيجابية تسهم في رفع الأداء العام. وعلى خلاف القيادة السياسية التي تُقوَّم أحيانًا بالكاريزما أو الشرعية الجماهيرية، فإن تقييم القيادة الإدارية يعتمد بدرجة أساسية على النتائج العملية وجودة الأداء، ومدى تحقيق الأهداف التشغيلية للمؤسسة، بعيدًا عن التأثير الخطابي أو الشعبي.
أمثلة وحقائق كردية وعالمية:
قبل البدء يهمني الإشارة إلى أنّ عرض هذه الشخصيات والنماذج، سواء الكردية منها أو العالمية، لا يأتي من باب التأييد أو الاختلاف معها، بل من باب تسليط الضوء على دورها في زمانها وموقعها، وكيف ساهمت في صياغة تصوّر مغاير لمفهوم القيادة في سياقاتها المختلفة.
ونستون تشرشل 
قاد تشرشل بريطانيا في واحدة من أحلك فتراتها لم يكن دوره تقنيًا أو إداريًا، بل كان قياديًا بامتياز ألهم الشعب البريطاني عبرخطاباته الشهيرة مثل ( لن نستسلم أبدًا ) اعتمد على الكاريزما الخطابة والرؤية الواضحة لمقاومة النازية .
نيلسون مانديلا 
مثّل مانديلا نموذجًا للقيادة السياسية الأخلاقية حيث قاد بلاده نحو المصالحة بعد عقود من الفصل العنصري جمع بين الصمود السياسي والقدرة على توحيد الأمة في مرحلة انتقالية.
المهاتما غاندي :
قدم غاندي نموذجًا عالميًا للقيادة السلمية والثورية الفكرية، حيث قاد حركة استقلال الهند بأسلوب اللاعنف والمقاومة المدنية، معتمدًا على قوة القيم والأخلاق في التأثيرالجماهيري. جمع بين القيادة السياسية والفكرية، وبيّن أن القوة لا تُقاس بالعنف بل بالقدرة على إلهام الناس وقيادتهم نحو التغيير.
قاضي محمد :
قاضي محمد لم يكن مجرد زعيم محلي، بل مثّل نموذجًا مبكرًا للقائد السياسي الكردي الذي يجمع بين
الشرعية الاجتماعية والدينية بالأضافة الكفاءة التنظيمية، درة على بناء كيان سياسي في بيئة دولية معقدة.
وما يميزه أنه لم يتراجع أو يساوم، بل واجه محاكمته وأعدامه بثبات مما عزز مكانته الرمزية بوصفه شهيد الدولة الكردية الأولى .
الملا مصطفى البرزاني :
لم يكن دوره تقنيًا أو إداريًا، بل كان قياديًا بامتيازويعد حجرالأساس في السياسة الكردستانية قاد النضال الكردي المعاصرفي أحلك فتراتها ، ويُنظر إليه كرمز قومي للأكراد ليس فقط في العراق، بل في عموم كردستان الكبرى. كانت حياته سلسلة طويلة من الكفاح المسلح والسياسي من أجل حقوق الشعب الكردي في تقرير المصير أدار صراعات طويلة رغم الإمكانيات المحدودة اعتمد فيها على الكاريزما الخطابة والرؤية الواضحة عبر أقواله الشهيرة مثل ( اذا كان حب الوطن جريمة فأنا سيد الجناة و ﻧﺤﻦ ﺷﻌﺐ ﻟﻢ نخف ﻳﻮﻣﺄ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻨﺎﺩﻕ ) و( كركوك قلب كردستان)
عبدالله أوجلان :
يُعتبر عبد الله أوجلان ( آپو ) قائدًا سياسيًا وإداريًا ناجحًا بامتيازأسّس حزب العمال الكردستاني عام 1978، وتمكن من تحويله من مجموعة صغيرة إلى واحدة من أقوى الحركات الكردية المسلحة في الشرق الأوسط. وضع هيكلًا تنظيميًا صارمًا، مبنيًا على مبدأ المركزية والانضباط ما مكّن الحزب من البقاء والصمود لعقود، رغم التحديات الأمنية والسياسية الهائلة ومنذ اعتقاله في عام 1999 لم يتراجع تأثيره بل لا يزال يُعد المرجعية الفكرية والسياسية الأعلى لدى أنصاره. قدرته على مواصلة التأثير وقيادة الحزب فكريًا وتنظيميًا من داخل السجن تُعد دليلاً واضحًا على كفاءته الإدارية العالية وعمق رؤيته الإستراتيجية .
عثمان صبري
يُعد عثمان صبري أحد مؤسسي أول حزب كردي في سوريا عام 1957، حيث لعب دورًا محوريًا في إطلاق العمل السياسي الكردي المنظم داخل البلاد. ركّز صبري على بناء الوعي القومي والسياسي، مؤمنًا بأن نهضة الشعوب تبدأ من الفكر، لا من السلاح أو السلطة. وبالرغم من أنه لم يتولّ قيادة إدارية مؤسساتية كما في حالة قاضي محمد، أو الزعيم مصطفى البرزاني، أوالسيد عبدالله أوجلان إلا أن تأثيره كان عميقًا في تنظيم العمل السياسي والثقافي ضمن الحركة الكردية السورية حيث مثّل عثمان صبري نموذجًا واضحًا لـالقيادة الفكرية الهادئة، إذ ركّز على النضال الثقافي والسياسي السلمي، وعلى بناء شرعية قومية من خلال المعرفة والوعي، لا من خلال السلطة أو العنف. وقد ساهمت أفكاره ومبادئه في الحفاظ على وحدة الخطاب القومي الكردي، رغم الانقسامات الحزبية، وجعلت منه مرجعية أخلاقية وفكرية ما زال أثرها قائمًا حتى اليوم.
ستيف جوبز- مؤسس شركة آبل
رغم أنه لم يكن سياسيًا إلا أن جوبز قاد شركة آبل بثقافة الابتكار وتحفيز العاملين واتخاذ قرارات استراتيجية، مثل تطوير الآيفون مزج بين الحس الإبداعي والانضباط الإداري .
دونالد ترامب
يُعد دونالد ترامب نموذجًا فريدًا في تاريخ السياسة الأمريكية، حيث انطلق من عالم الأعمال والعقارات والإعلام ليصل إلى أعلى منصب سياسي في البلاد دون أي تجربة سياسية سابقة. تمكن من التفوق على سياسيين مخضرمين، متحديًا المؤسسة السياسية التقليدية ومؤكدًا أن الشعب الأمريكي كان يتوق إلى التغيير وبأسلوبه الحازم وغير المألوف، اعتمد ترامب سياسة داخلية وخارجية قائمة على مبدأ (أمريكا أولاً) نجاحه في إدارة شركات كبرى وبرامج إعلامية ثم دخوله بقوة إلى عالم السياسة يثبت أنه إداري فعّال وزعيم له رؤية مختلفة .
لي كوان يو:
قاد( لي كوان يو) سنغافورة في مرحلة مفصلية من تاريخها حيث حوّلها من دولة صغيرة وفقيرة تفتقر إلى الموارد الطبيعية إلى واحدة من أقوى الاقتصادات في آسيا والعالم. اعتمد في قيادته على مزيج فريد من الرؤية السياسية بعيدة المدى والصرامة الإدارية والانضباط المؤسسي فأسس بنية تحتية قوية ونظامًا تعليميًا متقدمًا، وبيئة قانونية صارمة لمكافحة الفساد بفضل حكمته وإدارته الفعالة أصبحت سنغافورة نموذجًا عالميًا في التنمية والأدارة السياسية الرشيدة.
التكامل بين المجالين :
رغم الاختلاف إلا أن القيادة السياسية لا يمكن أن تنجح دون مهارات إدارية، كما أن القيادة الإدارية تحتاج إلى مهارات سياسية (مثل التفاوض وبناء العلاقات وفهم السياقات الاجتماعية والثقافية) فالقائد الناجح سواء في السياسة أو الإدارة هو من يستطيع فهم طبيعة السلطة وممارستها بشكل أخلاقي و استيعاب التغيير وقيادته بمرونة اتخاذ قرارات مدروسة في ظل تعقيد البيئة المحيطة.
وعليه فان القيادة سواء في السياسة أو الإدارة هي فن وعلم في آن واحد وهي تتطلب مزيجًا من الرؤية والمهارة والقدرة على التأثير. وبينما يركّزعلم السياسة على القيادة من منظور سلطة وتأثير جماهيري، ينظرعلم الإدارة إليها كأداة لتحقيق الأداء والتنظيم وبذلك، فإن التلاقي بين العلمين يقدم صورة شاملة عن القيادة بوصفها حجرالأساس في بناء المجتمعات والمؤسسات على حد سواء.
من خلال نظرة سريعة على التجارب الكردية السابقة، يتّضح أن القيادة الكردية سواء في سوريا أو في عموم كردستان، قد تشكّلت تحت وطأة الضغط لا في ظل ظروف دولة طبيعية ومؤسسات مستقرة حيث أنها وُلدت في سياقات من النفي والقمع والمقاومة الأمرالذي جعلها تتطور بصورة فريدة من نوعها، فبالقدرالذي اتسمت فيه بالتجريب، اتسمت أيضًا بالإبداع والابتكار في الفكر والتنظيم.
ومن قاضي محمد الذي قاد أول جمهورية كردية، إلى مصطفى البارزاني الذي جمع بين الزعامة القومية والعسكرية، ومن عبدالله أوجلان الذي أسس تنظيمًا ثوريًا فكريًا، إلى عثمان صبري الذي مثّل ضمير الحركة الكردية السورية فكريًا وثقافيًا. كل هذه النماذج توضح أن القيادة الكردية لم تُبنَ على الجغرافيا وحدها، بل على الإرادة والهوية والوعي القومي.
ورغم اختلاف المسارات والظروف بين هذه التجارب، فإنها تمثل اليوم رصيدًا حيًّا ومرجعية عملية يمكن الانطلاق منها لصياغة مشروع قيادة كردية مستقبلية أكثرنضجًا، وأكثر قدرة على التوازن بين السياسي والإداري، بين الفعل الثوري وبناء المؤسسات، بين الكاريزما والفكر، وبين المطالب القومية والمصالح الواقعية.
سلمان حسين -هولندا
1-11-2025
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79166


                
