الجمعة, يناير 31, 2025

الكورد في سوريا: جدلية الهوية والسلطة في متاهة التاريخ

بوتان زيباري

في الشرق الأوسط، حيث تتلاطم أمواج التاريخ والمصالح السياسية، تبرز القضية الكوردية في سوريا كمأساة متكررة، لكنها في الوقت ذاته كبوابة لفهم أعمق لمسألة الهوية والسلطة. إنها ليست مجرد إشكالية سياسية عابرة، بل معضلة وجودية تتشابك فيها أسئلة الانتماء، والمواطنة، وإرادة العيش المشترك. وعلى مر العقود، ظل الكورد في سوريا عالقين بين مطرقة التهميش وسندان التحولات الجيوسياسية، يبحثون عن موطئ قدم في كيانٍ لم يعترف يومًا بتعدديته الحقيقية.

لطالما نظرت الدولة السورية إلى الكورد بعين الريبة، معتبرة إياهم جسدًا غريبًا ضمن مفهومها القومي الصارم. فمنذ عهد الانفصال وحتى حكم البعث، لم يكن هناك متسعٌ لاعترافٍ جادٍّ بالوجود الكوردي، بل جرى التعامل معه إما بالقمع أو بالإقصاء الناعم عبر سياسات تذويب الهوية. وحتى حين صعد عسكري كوردي مثل حسني الزعيم إلى الحكم، لم يُنظر إلى ذلك بوصفه اختراقًا كورديًا للسلطة، بل كجزء من لعبة القوة الخالية من الاعتبارات القومية أو الإثنية.

وحين سقط النظام السوري في ديسمبر، بدت اللحظة وكأنها ولادة جديدة لسوريا متعددة، حيث يمكن لكل المكونات أن تجد موطئ قدم لها. لكن التاريخ لا يغيّر مساراته بسهولة، فالفراغ الذي خلّفه النظام لم يُملأ بمشروعٍ جامع، بل فتح الباب لصراعات جديدة، أعادت تدوير المخاوف القديمة ولكن بأقنعة مختلفة. ففي ظل الفوضى، عاد الكورد ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في دائرة الاتهام بالانفصالية، وكأن التاريخ قرر أن يعيد نفسه دون أي تعديل في السيناريو.

في هذه البيئة المضطربة، ظهرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كلاعب رئيسي، مستندة إلى دعم دولي، لكن ببرنامج سياسي يثير جدلاً واسعًا. تبنّت قسد مفهوم “الأمة الديمقراطية”، وهو طرحٌ يتجاوز القومية الضيقة نحو نموذجٍ تشاركي يُشرك مختلف المكونات في بناء كيان سياسي جديد. ومع ذلك، لا تزال هذه الفكرة تواجه معارضة شرسة من القوى التقليدية، سواء في النظام السوري الذي لا يزال يتمسك بالمركزية المطلقة، أو في المعارضة التي ورثت الكثير من عقلية الدولة الأحادية.

التحدي الأكبر أمام الكورد اليوم ليس مجرد نيل الاعتراف القانوني، بل إثبات أنهم جزءٌ لا يتجزأ من سوريا الجديدة، وليسوا مجرد ضحية دائمة أو لاعبًا هامشيًا. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل معادلة سياسية لا تزال تُعاد صياغتها وفق مصالح إقليمية ودولية؟ إن التجربة الكوردية في العراق توضح أن بناء الكيان السياسي لا يتم فقط بالاعتماد على الدعم الدولي، بل يحتاج إلى وحدة داخلية ورؤية واضحة، وهو ما لا يزال غائبًا عن المشهد الكوردي السوري، حيث تتوزع الولاءات بين أربيل وقنديل، وتتجاذب القوى الدولية مصير هذه المنطقة الهشة.

عندما نعود إلى مأساة عفرين أحد أبرز الأمثلة على التحديات التي يواجهها الكورد في سوريا. ففي هذه المنطقة، تعرض الكورد لعملية اقتلاع ديموغرافي ممنهج تحت الاحتلال التركي، نجد أنفسنا أمام فصل جديد من الظلم التاريخي الذي لحق بالكورد، ولكن هذه المرة وسط لامبالاة سورية عامة، وحتى انقسامات داخل البيت الكوردي ذاته. إن عمليات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي التي شهدتها المدينة لا تقلّ فداحةً عن المآسي التي شهدتها المنطقة في فصولها السابقة، لكن الصدمة الحقيقية كانت في الصمت، سواء من المجتمع الدولي، أو حتى من بعض القوى السورية التي لم ترَ في ذلك سوى تفصيلٍ هامشي في معركة كبرى.

غير أن المسألة الكوردية ليست معركة سلاح فحسب، بل هي معركة وعي وشرعية سياسية. فالقضية لا تكمن فقط في الاعتراف بوجود الكورد، بل في الاعتراف بأن سوريا، كمفهوم سياسي، لا يمكنها الاستمرار كنموذج أحادي قومي. فهل يمكن إعادة صياغة الهوية السورية لتكون أكثر شمولًا؟ وهل يمكن تخطي النموذج التقليدي للدولة القومية الذي أثبت فشله في إدارة التنوع؟

الإجابة على هذه الأسئلة ليست سهلة، لأن الحلول ليست مجرد قرارات سياسية، بل تحتاج إلى تحول فكري عميق في طريقة فهم الهوية الوطنية. إن مجرد إزالة كلمة “العربية” من اسم الدولة السورية قد يبدو أمرًا رمزيًا، لكنه يعكس تحولًا جذريًا في كيفية تصور سوريا كدولة متعددة القوميات. فالتاريخ يعلمنا أن الدول التي تفشل في الاعتراف بتعددها، غالبًا ما تنتهي إلى تفككٍ أو صراعٍ مستمر.

في ظل هذه التحديات، يظل مستقبل الكورد في سوريا مفتوحًا على احتمالاتٍ متعددة. فهل يستطيعون تجاوز الخلافات الداخلية وبناء مشروع سياسي موحّد؟ وهل يمكنهم تحويل وجودهم العسكري إلى شرعية سياسية قابلة للاستمرار؟ الأهم من ذلك: هل يمكن لسوريا نفسها أن تعيد تعريف هويتها بحيث تكون دولةً لجميع مكوناتها، لا مجرد امتدادٍ لمنظومات الإقصاء السابقة؟

قد يبدو هذا الطرح مثاليًا في سياقٍ مليء بالتعقيدات، لكن التجربة أثبتت أن الإقصاء لا يؤدي إلا إلى مزيد من التشظي. وسوريا، التي أنهكتها عقودٌ من الديكتاتورية ثم سنواتٌ من الحرب، تحتاج اليوم إلى رؤية جديدة، لا تقوم فقط على محاصصة القوى، بل على إعادة التفكير في مفهوم المواطنة نفسه. فإذا لم يتحول الاضطهاد الكوردي إلى قضية سورية عامة، فإن النزيف سيستمر، ليس فقط في عفرين، بل في ضمير سوريا بأكملها.

في النهاية، فإن التاريخ لا يُكتب بالسلاح وحده، بل يُصنع أيضًا بالوعي والقدرة على تجاوز إرث الماضي نحو مستقبل أكثر عدلًا واستقرارًا. ربما يكون الحل بعيدًا اليوم، لكنه ليس مستحيلًا. فكما علّمنا التاريخ، لا شيء يدوم إلى الأبد، لا القمع، ولا الإقصاء، ولا حتى الخرائط السياسية التي نعتقد أنها ثابتة.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية