اللغة والهوية: حق إنساني مشروع للشعب الكُردي في إطار العدالة الدولية

مروان فلو

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات فكرية وقانونية عميقة في مفهوم الحقوق الثقافية واللغوية، إذ باتت اللغة جزءاً لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان الشاملة. فبعد قرون من الصراعات التي سعت فيها دول كثيرة إلى فرض هوية لغوية واحدة، أدرك المجتمع الدولي أن التنوع اللغوي والثقافي ليس تهديداً لوحدة الدولة، بل هو عامل إثراءٍ واستقرارٍ متى ما أُدير ضمن إطار العدالة والمساواة.
ومن هذا المنطلق، يبرز الحق اللغوي للشعب الكُردي كأحد أهم القضايا الإنسانية في الشرق الأوسط. فالكُرد، الذين يشكلون أحد أقدم الشعوب في المنطقة، ينتشرون عبر أربع دول رئيسية، ومع ذلك لا يزال الكثير منهم يواجه قيوداً على استخدام لغتهم في التعليم والإدارة والثقافة والإعلام. هذا الواقع يتعارض بوضوح مع المعايير الدولية التي تكفل للشعوب والأقليات حقها في التعليم بلغتها الأم وحماية هويتها الثقافية (1)(2).

أولاً: الأساس القانوني للحق في التعليم باللغة الأم
ينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته (26) على أن “لكل شخص الحق في التعليم”، ويضيف أن التعليم يجب أن يهدف إلى “تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية”، ما يعني أن التعليم الذي يفرض على جماعة ما لغة غير لغتها الأم يُضعف قدرتها على المشاركة الفاعلة في الحياة العامة ويشكّل انتقاصاً من كرامتها الإنسانية (3).
كما يؤكد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 27) أن للأقليات “الحق في التمتع بثقافتها الخاصة أو استعمال لغتها”، وهو نصّ يُلزم الدول بتوفير الوسائل العملية لتطبيق هذا الحق، لا الاكتفاء بالاعتراف الشكلي به (4).
وتذهب اتفاقية حماية الأقليات الوطنية (Framework Convention for the Protection of National Minorities) إلى أبعد من ذلك، إذ تشدد على حق الأفراد في “تلقي التعليم بلغتهم” وتحثّ الدول على تهيئة الظروف الملائمة لذلك (5).
هذه الوثائق تشكّل الإطار القانوني الذي يجب أن تستند إليه أي دولة حديثة تُقدّر التعددية وتؤمن بالمساواة. وبناءً عليه، فإن اللغة الكُردية ليست مجرد لغة محلية، بل مكوّن أصيل من الموروث الثقافي الإنساني الذي يتوجب حمايته وفقاً لالتزامات دولية واضحة.

ثانياً: البُعد التنموي والتربوي للغة الأم
تُظهر الدراسات التربوية أن التعليم في اللغة الأم يُسهم في رفع جودة التعليم وتقليل الفوارق بين الفئات الاجتماعية. فقد أثبتت تقارير اليونسكو أن الأطفال الذين يتعلمون بلغتهم الأم يحققون نتائج أعلى في القراءة والكتابة، وتقل لديهم نسب التسرب المدرسي مقارنة بمن يتلقون التعليم بلغة مفروضة (6).
في المقابل، يُعدّ حرمان الكُرد من التعليم بلغتهم عائقاً تنموياً خطيراً، لأنه يؤدي إلى ضعف في الاندماج الاجتماعي ويُكرّس فجوة معرفية وثقافية. فالمتعلّم الذي يُجبر على التعلّم بلغة لا تعبّر عن وجدانه ولا تراثه، يصبح أقلّ ارتباطاً بهويته وأكثر عرضة للشعور بالتهميش.
وعليه، فإن تمكين الشعب الكُردي من تعليم أجياله بلغتهم الأم ليس عملاً سياسياً فحسب، بل استثمار في التنمية البشرية وفي بناء مجتمع أكثر إنتاجية ووعياً وتوازناً (7).

ثالثاً: التجارب الدولية في التعدد اللغوي
تُقدّم تجارب العديد من الدول دليلاً عملياً على إمكانية التعايش بين لغات متعددة ضمن دولة واحدة دون أن يُشكّل ذلك تهديداً لوحدتها. ففي كندا مثلاً، تعتمد الدولة لغتين رسميتين (الإنجليزية والفرنسية)، ويُدرّس الطلاب في مناطق مختلفة بلغتهم الأصلية بشكل متكافئ، ما ساهم في تعزيز الانتماء الوطني والانسجام الاجتماعي (8).
أما في سويسرا، فيتشارك المواطنون أربع لغات رسمية (الألمانية، الفرنسية، الإيطالية، والرومانشية)، وتعمل الدولة على ضمان المساواة الكاملة بينها في التعليم والإدارة والإعلام (9).
وفي جنوب أفريقيا، أقرّ الدستور إحدى عشرة لغة رسمية، بما فيها لغات محلية تاريخية، لتأكيد أن التعدد اللغوي ليس عبئاً على الدولة، بل رمز لوحدتها في التنوع (10).
هذه النماذج تُفنّد الادعاء القائل إن اعتماد اللغة الكُردية في التعليم قد يُهدد الاستقرار السياسي، بل تُثبت أن إقصاء اللغة هو ما يولّد التوتر ويقوّض الانتماء الوطني.

رابعاً: البُعد الإنساني والشرعي
اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل هي هوية وذاكرة جماعية تحمل في طيّاتها الوجدان الجمعي للأمة. وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة بقوله تعالى:
«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ» (سورة الروم، الآية 22).
فالله سبحانه جعل اختلاف اللغات آية من آياته، ودليلاً على إرادته في التنوع والتعارف. ومن ثمّ فإن حظر اللغة الكُردية أو إنكارها ليس فقط مخالفة للقوانين الدولية، بل هو إساءة إلى مشيئة الخالق وإلى جوهر العدالة الإلهية التي تقوم على التنوّع والتكامل.
كما أن شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة تقوم على مبدأ الكرامة المتأصلة في كل إنسان، وهذه الكرامة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا سُمح لكل إنسان أن يعيش بلغته ويتعلّم بها ويعبّر عن ذاته من خلالها (11).

خامساً: نحو رؤية شاملة للعدالة اللغوية في الحالة الكُردية
من الضروري أن تتبنى الحكومات في المنطقة سياسات لغوية منصفة تضمن للكُرد حقهم في التعليم والإدارة والإعلام بلغتهم. ويمكن تحقيق ذلك عبر ثلاث خطوات أساسية:
الاعتراف الدستوري باللغات المحلية: تضمين الدساتير نصوصاً صريحة تعترف بالكُردية كلغة وطنية إلى جانب اللغة الرسمية.
تطوير مناهج تربوية ثنائية اللغة: بحيث يتلقى الطالب التعليم بالكُردية والعربية أو التركية أو الفارسية معاً، مما يعزز التفاعل ويكفل الاندماج.
تمكين الكوادر التعليمية الكُردية: من خلال برامج إعداد المعلمين والبحوث التربوية المتخصصة لضمان جودة التعليم بلغتهم الأم.
هذه الخطوات لا تعني الانفصال أو الانعزال، بل تعني الاعتراف المتبادل والعدالة في الفرص. فاللغة التي تُدرَّس وتُكتب وتُحتفى بها تُصبح جسراً للتعاون والتفاهم، لا حاجزاً للتفرقة.

الخاتمة
إنّ قضية اللغة الكُردية هي قضية إنسانية في جوهرها قبل أن تكون سياسية. فهي اختبار لقدرة العالم، ودول المنطقة خصوصاً، على الالتزام بالقيم التي أعلنتها الأمم المتحدة ووقّعت عليها الحكومات. إن الاعتراف بحق الكُرد في التعليم بلغتهم ليس منّة من أحد، بل هو واجب قانوني وإنساني، وخطوة نحو بناء مستقبل يتّسع للجميع دون تهميش أو إقصاء.
إنّ العدالة اللغوية ليست مطلباً ثقافياً فحسب، بل هي أساس السلام الأهلي والاستقرار السياسي في أي مجتمع متعدّد. فالتعدد لا يضعف الدولة، بل يثريها. والكُرد، بلغتهم وثقافتهم، جزء أصيل من نسيج هذه المنطقة، ومساهمتهم لا يمكن أن تكتمل إلا في ظل حرية التعبير والتعلّم بلغتهم الأم.

+++++++++++++++++++++++++&&&

المراجع
(1) Right to Education Provisions in International Law — right-to-education.org
(2) Framework Convention for the Protection of National Minorities — nyulawglobal.org
(3) Universal Declaration of Human Rights, Article 26 — United Nations, 1948.
(4) International Covenant on Civil and Political Rights, Article 27 — UN, 1966.
(5) Council of Europe: Language Rights of National Minorities — coe.int
(6) UNESCO: Education in a Multilingual World — UNESCO Report, 2020.
(7) Education International: States Must Provide for Teaching Indigenous and Minority Children in Their Own Language — ei-ie.org
(8) Canadian Multilingual Education Policy — Government of Canada, 2019.
(9) Swiss Federal Constitution, Articles 4 and 70 — Confederation of Switzerland.
(10) South African Constitution, Chapter 1, Section 6 — Government of South Africa.
(11) United Nations Declaration on the Rights of Persons Belonging to National´-or-Ethnic, Religious and Linguistic Minorities, 1992.

Scroll to Top