د. محمود عباس
القضية الكوردية، عبر التاريخ، لم تكن ضحية أعدائها فحسب، بل ضحية التآكل الداخلي وصراعات العشائر والأحزاب التي غذّتها الأنظمة المحتلة لكوردستان، واستغلتها لتقزيم الوعي القومي وتفكيك الصف الوطني. فالمعارك الحقيقية لم تكن دوماً على الحدود، بل في داخل البيت الكوردي نفسه، حيث وجدت القوى الإقليمية في الانقسام الكوردي أفضل وسيلة لإدامة احتلالها واستعبادها للشعب الكوردي.
ولا يضير القضية الكوردية هجوم العدوّ الواضح، رغم ذلك بقدر ما يفتك بها أولئك الذين خرجوا من بين صفوفها ثم انقلبوا عليها، خاصة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الشعب الكوردي، وهي تواجه موجات الحقد والكراهية بشكل لا مثيل له في تاريخ سوريا، فهؤلاء لا يكتفون بإنكار انتمائهم، بل يسعون لتدمير ما تبقّى من هويةٍ في نفوس أبناء جلدتهم. صنفان من هؤلاء باتا يشكلان خطراً متزايداً.
الأول من ينكر أصله الكوردي كلياً، ويغلف ماضيه بالإنكار والنكران، أمثال هاكان فيدان وعصمت إينونو وبعض السياسيين الأخرين في الحكومات المركزية التركية أو عدد من الرؤساء ووزراء سوريا الأوائل، الذين باعوا تاريخ أجدادهم بثمن مناصب زائلة.
أما الصنف الثاني، فهم الذين يزعمون الدفاع عن الشعب الكوردي فيما يتآمرون على قضيته تحت أقنعة الوطنية الزائفة أو شعارات المواطنة العامة، رافعين رايات الوحدة التي تُخفي في جوهرها رغبتهم في البقاء تحت عباءة الأنظمة التي تمقت الوجود الكوردي أصلًا، كعبد العزيز تمو والدكتورة فاتن رمضان ومن يسير على خطاهما.
فهؤلاء وأمثالهم يشبهون في سلوكهم المريض أولئك الذين يجدون راحتهم في أن يكونوا رعايا لا مواطنين، ويرون في الولاء للسلطة المستبدة شرفًا لا عارًا، يفرّون من وعيهم القومي إلى وهم “الوطن الجامع”، بينما الوطن الحقيقي الذي منحهم هوية وتاريخًا هو كوردستان التي يتنكرون لها. وهم في إنكارهم هذا لا يدركون أن الأنظمة التي يتحالفون معها لا تراهم شركاء، بل أدوات مؤقتة، و”موالي” تُستخدم عند الحاجة ثم تُهان عند أول منعطف، تمامًا كما كان يُمنع الموالي في العهد الأموي من ركوب الخيل في المعارك رغم إسلامهم.
أما من داخل البيت الكوردي ذاته، وتحت ذريعة محاربة قوات قسد، متناسين أنها رغم نواقصها القوة الوحيدة المسنودة من قبل أمريكا ودول التحالف، والتي تحمي الإدارة الذاتية والحراك الكوردي وتمنح المطالب الكوردية في سوريا ثقلًا داخليًا ودوليًا، تخرج بين الحين والآخر شخصيات هجينة كعبد العزيز تمّو والدكتورة فاتن رمضان، يتزيّنان بشعارات “الحرص على الوطن” ليطعنا الوجود الكوردي في الصميم، بخطابٍ متماهٍ تمامًا مع نبرة أنقرة ومطالبها، حدّ التطابق في المفردة والنغمة.
يهاجمان القضية الكوردية باسم محاربة قسد، ويتحدثان بلسانٍ مستعار من خطاب الأنظمة التي مارست على شعبهما الإلغاء والتجويع والنفي. وهما في الجوهر، سواء بجهلٍ أو عن قصدٍ وتعمّد، لا يهاجمان حزبًا أو إدارةً بعينها، بل يهاجمان فكرة الكوردي الحرة ذاتها، وحقَّه في أن يكون سيد قراره وصوت لغته.
عبد العزيز تمّو، نموذج المأجور المتلوّن، يحاول أن يقدّم نفسه “وطنيًا عقلانيًا” فيما لا يختلف في جوهره عن أبواق النظام التي طالما رددت شعارات “الوحدة الوطنية” لتبرير القمع والتمييز. كل مفردة في خطابه تفوح منها رائحة العبودية وذلها الموروث، وكل ظهور إعلامي له يهدف إلى تعويم صورة المعارضة البائدة المصنّعة في غرف المخابرات أكثر مما يدافع عن سوريا كوطن أو شعوبها.
والأغرب من ذلك هي الدكتورة فاتن رمضان، بلسانها السليط الذي يذكّر بلسان الجواري أمام باب السلطان، تُنصت للأوامر وتُتقن المديح وتُتقلب كما تتقلب الريح. تاريخها يسبقها ويفضحها قبل أن تنطق، فهي من تلك الوجوه التي تنقلت خلسةً بين ضفّتي الولاء: مع النظام حين كان الاستبداد سيد الموقف، ومع المعارضة حين صار الارتزاق عنوانًا جديدًا للنفوذ. والنتيجة واحدة — خدمة القوى التي تموّلها وتحركها، دون مبدأٍ أو انتماء، فهي لا تنتمي إلى مدرسة الفكر أو النضال، بل إلى مدرسة التبرير والانتهازية.
تتحدث باسم حقوق الأفراد وهي أبعد الناس عن روح الحق، وتتناسى قضية شعبٍ بكامله، لتصدق فيها مقولة الشاعر أبي القاسم الشابي:
قتلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتفرْ
وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظرْ.
إنها من تلك الشريحة التي تعرّت غاياتها بعد انتهاء مرحلة الاختبار، فخسرت المبدأ وبقيت الأداة، لسانها يُستخدم لتلميع وجوه أنظمةٍ لا ترى في القضية الكوردية إلا خطرًا يجب طمسه، وتخفي عداوتها تحت ذريعة “مهاجمة قسد”، في حين أنّ هذه القوات، رغم ملاحظاتها، هي السند الوحيد للشعب الكوردي في غربي كوردستان، والمدعومة من أمريكا ودول التحالف. خطابها عن الكورد ومحاربة قسد ليس سوى ستارٍ لتزيين خطابها الكاذب وتبرير ولائها للجهات التي تتغذى على تشويه الوعي وإعادة إنتاج العبودية بثوبٍ معاصر.
إنّ أمثال تمّو وفاتن لا يمثلون الكورد، بل يمثلون عقدة العبد أمام السيد، يبحثون عن شرعيةٍ من خارجهم لأنهم فقدوا القدرة على النظر في المرآة دون أن يروا في انعكاسها خيانةً صريحة لهويتهم، وما لم يدرك هؤلاء أن الكرامة القومية لا تُشترى بتصريحٍ إعلامي ولا تُستعاض عنها بابتسامةٍ في بلاط السلطة، فسيظلون يدورون في فلك من يحتقرهم علنًا ويستخدمهم سرًّا.
فالكارثة ليست أن يتحدث الأعداء ضدنا، بل أن يخرج منّا من يتحدث بلغتهم، ويمارس دور الجلاد وهو يظن نفسه مثقفًا، تلك هي الخيانة التي لا يغسلها الزمن، بل يسجّلها التاريخ على صفحات العار الأبدي، ولا ينتبهون إن الأعداء سيلقونهم في سلة المهملات بعد إداء المهمة، وانتهاء دورهم أو حين فشلهم وهي جدلية اكثر من معروفة، وصفحات التاريخ مليئة بمثل هذه الخيانات الناتجة عن الجهالة وقلة الوعي، والدونية النفسية.
القضية الكوردية لا تُخشى عليها من رصاص الأعداء بقدر ما تُخشى عليها من أقلام المنافقين، لأن الرصاصة تقتل الجسد مرة، أما الكلمة المسمومة فتقتل الوعي ألف مرة، فالتاريخ لا يرحم المتلوّنين، والشعوب لا تنسى من خانها بالكلمة قبل أن يخونها بالفعل.
فالكوردي الذي يتنكر لكوردستان ليس وطنيًا، بل بلا وطن، ومن يحارب حراكه لا يحمي الأمة، بل يهدمها من الداخل. إن الوعي القومي الحقيقي لا يعني كراهية الآخر، بل الدفاع عن حق الوجود أمام من يسعى لمحوك باسم المواطنة، والعروبة، والإسلام السياسي، وأوهام الدولة المركزية.
الولايات المتحدة الأمريكية
1/11/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79169


                
