ضياء إسكندر
تستمر تداعيات سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على دمشق، بعد انهيار النظام البعثي في تشكيل ملامح المستقبل السوري المضطرب. فإلى جانب المآسي الإنسانية من نزوح عشرات الآلاف وتفاقم الأوضاع المعيشية، يتصاعد نزيف الخسائر البشرية والمادية، ما يثقل كاهل بلد أنهكته الحرب.
في خضم هذه الأحداث الكارثية شنت إسرائيل هجوماً واسع النطاق على الأراضي السورية، وسيطرت على جبل الشيخ كاملاً، بالإضافة إلى توغّلها إلى ما بعد خط اتفاقية فضّ الاشتباك عام 1974، وسيطرت على العديد من القرى والبلدات، حتى باتت على بُعد 20 كم من دمشق. ولم تُبقِ موقعاً عسكرياً في طول البلاد وعرضها إلا ودمرته، عبر مئات الغارات الجوية، في عدوانٍ غير مسبوق في مدى اتساعه، بهدف التدمير الكامل للقدرات العسكرية البرية والجوية والبحرية للبلاد.
وكذلك الأمر في الشمال، حيث يواصل جيش الاحتلال التركي عدوانه، مستغلاً انهيار الدولة السورية كفرصة سانحة لتنفيذ مشروعه في اقتطاع الشريط الحدودي بعمق يتجاوز 35 كيلومتراً. حيث ارتكب مع مرتزقته المجازر بحق المدنيين واحتلّ العديد من القرى والبلدات، وصولاً إلى منبج، والتي لن يقف عندها بالتأكيد. فطموحاته التوسعية تتخطّى ذلك، مع أحاديث متزايدة عن نيته فرض واقع ديمغرافي جديد، عبر تهجير السكان الأصليين وتوطين آخرين مكانهم. هذا المشروع الذي يُنفذ تحت ستار “المنطقة الآمنة”، يهدف في جوهره إلى تغيير ملامح المنطقة ثقافياً وديمغرافياً، بما يخدم أجندته السياسية طويلة الأمد.
هذا الوضع يُثير مخاوف جديدة، تتجاوز الجانب الإنساني لتشمل التساؤلات حول وحدة البلاد واستمرار نزيفها. ويهدد بتمديد الصراع وتعميق الانقسامات الطائفية والعرقية، ويجعل من أي حل سياسي شامل أكثر بُعداً عن التحقيق.
تصريحات الجولاني: اعتدال مفاجئ أم استراتيجية مدروسة؟
حاولت الهيئة تقديم نفسها كطرف مسؤول عبر بيانات طمأنة، استهدفت الأقليات وأظهرت مقاطع مصورة نشاطات طبيعية في الكنائس وعودة بعض الأسر المهجّرة. كما دعت موظفي الدولة لاستئناف أعمالهم، متعهدةً باستمرارية الخدمات العامة، ووعدت بحلّ نفسها كخطوة نحو شراكة وطنية تنهي عزلتها.
إلا أن هذه الخطوات، على الرغم من أهميتها الظاهرية، تُقابل بتساؤلات حول مصداقيتها. فهل هي حقاً انعكاس لنضج سياسي، أم أنها مجرد تكتيك مرحلي يهدف إلى توسيع نفوذ الهيئة وتحقيق شرعية مفقودة؟
فالتاريخ مليء بحالات مشابهة لجماعات مسلحة تبنّت خطاباً مرناً بعد تحقيق مكاسب عسكرية، فقط لتعزيز مواقعها وإعادة ترتيب صفوفها.
ومثال ذلك ما فعله “جيش الإنقاذ” في الجزائر (التسعينيات)، خلال الحرب الأهلية، حيث حاول تحسين صورته، لكنه عاد لاحقاً إلى ممارساته العنيفة.
وحركة حماس بعد فوزها في انتخابات قطاع غزة عام 2006، سعت لتقديم نفسها كحكومة مسؤولة، لكنها ظلّت متمسكة بخطابها الأيديولوجي واستمرت في ممارساتها المتطرفة.
ولا ننسى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فقد تغيّر خطابها بعد فوزها في الانتخابات البرلمانية 2011، وأصبح أكثر تشدداً بعد وصول محمد مرسي إلى الرئاسة عام 2012، حيث ركزت على إضفاء الطابع الديني على السياسة.
وأيضاً حركة طالبان بعد سيطرتها على أفغانستان عام 2021، التي أظهرت مرونة خطابية، واعدةً بإدارة شاملة واحترام حقوق النساء والأقليات، لكن الواقع أثبت استمرار النهج المتشدد.
تناقضات الاعتدال واستراتيجيات التمكين
قد يكون التوجّه الجديد لـ “هيئة تحرير الشام” خطوة لتحسين صورتها ولتجنّب الضغوط الدولية وكسب الشرعية، مع الاستفادة من الفراغ السياسي لتوسيع نفوذها، لكن سجّلها الحافل بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان يُبقي الشكوك قائمة، والتعامل معها يفرض ضرورة التزام الحذر.
ففي خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أعلنت الهيئة تشكيل حكومة انتقالية أحادية اللون، متجاهلةً أهمية إشراك أطياف المعارضة السورية الأخرى، في تناقض واضح مع متطلبات القرار الأممي (2254). وعلى الرغم من محاولات الجولاني تقديم خطاب جديد يتسم بالمرونة، فإن تاريخه المليء بالتشدد يجعل هذا التحول يبدو أقرب إلى تكتيك مرحلي لتعزيز النفوذ بدلاً من كونه انعكاساً لتحول حقيقي.
ربما يكون السبيل الوحيد لتبديد مخاوف الشرائح والمكونات المختلفة التي تعارض أيديولوجية “هيئة تحرير الشام” هو إعلان واضح عن قبولها بالحل السياسي وفق القرار (2254) واستعدادها للجلوس فوراً إلى طاولة الحوار.
فهل سنشهد خطوة بهذا الاتجاه قريباً؟ أم أن استراتيجيتها ستبقى رهينة لمبدأ “يتمسكنون حتى يتمكنوا”؟
المصدر: ANHA
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=58412