المقامة الدمشقية بريشة الواسطي

كورد أونلاين |

ليلة مراح وشرب راح

 أحمد ديبو

حظيت “مقامات الحريري” بشهرة واسعة في القرون الوسطى، تشهد لذلك مجموعة المخطوطات المزوّقة، التي أُنجزت بين القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، وأشهرها نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية، زيّنها بالرسوم يحيى الواسطي عام 1237.

يضمّ هذا الكتاب البديع مائة منمنمة، تستحق كل منها قراءة تشكيلية معمقة.

ومن أجمل هذه المنمنمات، وأكثرها تميّزاً تلك، التي تحتل وجه الصفحة الثالثة والثلاثين من المخطوط، وتمثّل خمّارة شيَّدها الواسطي، وأسكنها تبعاً لأسس مدرسة بلاد الرافدين الخاصة بفن الكتاب.

في تصدير مقاماته، التي ألّفها في القرن الحادي عشر الميلادي، يخبرنا القاسم بن علي الحريري البصري: أنّه أنشأ “خمسين مقامة تحتوي على جدّ القول، وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، وقد أملى هذه المقامات الخمسين على لسان أبي زيد السروجي، وأسند روايتها إلى الحارث بن همّام البصري. 

تبدأ الرحلة في صنعاء وتنتهي في البصرة

وفي كل محطة من المحطات الخمسين، يلحق الراوي البطل الظريف، الذي اعتاد التحايل، والتلاعب على الناس أينما حلّ.

في المقامة الدمشقية، وهي الثانية عشرة من هذه السلسلة، يسافر الحارث إلى الغوطة، حيث يطيب له المقام، ثم يتأهب للعودة إلى موطنه مع جماعة أعدّت رواحلها للسفر الرهبان، وبيده سبحة النسوان”، ثم يقترح بصوت خاشع على جمع المسافرين، بأن يرافقهم ليكون لهم الخفير، الذي سيحرسهم في البداوة والسماوة.

صدّق المسافرون كلام الزاهد المنافق، وحملوه معهم، وحين وصلوا مدينة عانة، طلب منهم الأجرة، والإعانة، فما كان منهم إلا أن اقترحوا عليه، أن يأخذ منهم كلَّ ما شاءَه من متاعهم، وذهبهنَّ.

“فما استخفه سوى الخف والزين، ولا حلي بعينه غير الحلي والعين”.

ومع حلول الليل، يُخالسُ أبو زيد جماعة العائدين، وينصلتُ منهم “انصلات الفرّار”.

يسترسل الراوي في روايته ويقول: “فأوحشنا فراقه، وأدهشنا امتراقه، ولم نزل ننشده بكل ناد، ونستخبر عنه كلّ مغو وهاد، إلى أن قيل: إنّه مذ دخل عانه، وما زايل الحانة، فأغراني خبث هذا القول بسبكه، والانسلاك فيما لست من سلكه، فإذا الشيخ في حلّة ممصّرة، بين دنان ومعصرة، وحوله سقاة تبهر، وشموع تزهر، وآس وعبهر، ومزمار ومزهر، وهو تارة يستبسل الدنان، وطوراً يستنطق العيدان، ورفةً يستنشق الريحان، وأخرى يغازل الغزلان”.

ينطلق الواسطي من هذا الوصف الأدبي ليصوغ منمنمته، وفقاً للجمالية الخاصة بالمدرسة العباسية في التصوير، يغيب البعد الثالث غياباً تاماً.

وتبعاً لمبدأ غالباً ما التزمه المصوّرون في تلك الحقبة، يتحوّل المكان الداخلي، الذي تدور فيه الحادثة إلى مبنى من طبقتين، يتوزَّع عليها المشهد الجماعي.

يجمع المصوّر بين المعمار الخارجي، والمعمار الداخلي في صياغةٍ مُحكمة، تعلو البناء ثلاث قبب؛ ما يشير إلى أن اللقطة خارجية، إلا أن قاعاته مفتوحة أمام الناظر، فلا جدران تحيط بها، ولا حدود تعزّ لها عن العين.

في القسم الأوسط من الطبقة العلوية، هناك سكيران يجلسان متقابلين بشكل متوازن، يحمل كل منه كأسه بيمناه في حركة تذكر بمسرح الظل.

يكتمل المشهد مع حضور راقصة، وعازف عود يحتلان القسمين الأيمن والأيسر في الدور الأسفل.

الراقصة زنجية على ما يبدو من سحنتها السوداء، يصوّرها الواسطي وهي تهزّ خصرها رافعة ذراعيها إلى الأعلى.

أمّا العازف فصورته أليفة في فن الكتاب العباسي، إذ نراه يجلس أرضاً حاضناً عوده الكبير.

ويدير هذا النادل ظهره لرجلين صوِّرا تبعاً لمقاييس تفوق في حجمها سائر الحاضرين في هذه المنمنمة، هما بطلا المقامة، أبو زيد السروجي والحارث البصري، وقد كسر المصوّر الترتيب الموضوعي لحجم الأشخاص ليؤمّن لهما مكانة الأفضلية، فأبرزهما حجماً وموضعاً في ترتيب يميّزهما عن محيطهما.

يجلس أبو زيد متربعاً على عرش أرضي وثير تبعاً لنموذج “إيقونوغرافي”، اعتمده المصوّرون على اختلاف أجناسهم، ومللهم لتصوير الملوك، والحكام، والوجهاء.

يرفع “سيد الظرفاء” كأسه نحو الأعلى بيده اليمنى، ممسكاً بيمناه المرخيّة منديلاً مطرزاً بالذهب، في المقابل، يقف الحارث أمامه متوجّهاً إليه بحركة يده، داعياً إياه إلى الإقلاع عن الفحش، والفجور.

أمّا إجابة أبي زيد، فنقرأها مسطورة في أسفل الصفحة: “إنها ليلة مراح ولا تلاح، ونهزة شرب راحٍ، ولا كفاح، فعد عمّا بدا، إلى أن نتلاقى غدا”.

في صياغة مقاماته، يمعن الحريري في البلاغة، والحذلقة اللغوية.

في المقابل، ينطلق الواسطي من الحدث المروي ليصوّره بلغة تشكيلية قائمة في ذاتها، ويبدو الرسام أميناً على التقليد المتبع في التصوير العبّاسي، هذا التقليد، الذي يتجلّى في الكتب العلمية، والطبية كما في المؤلفات الفلسفية، والأدبية.

يبدو التأليف الجامع بين المعمار الخارجي، والمعمار الداخلي قاعدة ثابتة قلّما خرج عنها المصوّرون.

كذلك، يتبع توزيع الأشخاص على طبقتين متوازنتين، مبدأ يقوم عليه التأليف البنيوي للمشاهد الجماعيّة الداخلية. وتشكّل صور شارب الخمر، وساقيه، وعازف العود، مفردات تشكيلية يستعيدها الفنان لصياغة الصورة بحرفيّة عالية، وتمرّس مدهش؛ فيما تظهر الجرار، والكؤوس، والأواني، تبعاً للقاموس الخاص بالجمالية العباسية.

صناعة اللفظ تقابلها صناعة الرسم والتلوين

لا يقوم الإبداع هنا على الخروج على التقليد، بل على التأصّيل فيه، وذلك لابتكار تآليف بديعة، تشهد لبراعة الفنان في ابتكار صور أليفة وجديدة في آن واحد.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية