الأحد, سبتمبر 8, 2024
القسم الثقافي

المنظور الفلسفي للوطنية في خطابات فيشتة Johann Gottlieb Fichte الى الامة الالمانيةظ (الجزء الأول)- بقلم خديجة مسعود كتاني

 

المقدمة

لمحة عن حياة فيختة

ينتسب فيشتة الى رقيب سويدي من جيش غوستاف أدولف ، جرح في إحدى المعارك فسلمه رفاقة لاحد الفلاحين من سكان قرية رامناو السكوسونية الالمانية ، حين شفي لم يغادرها ، بل تزوج من إبنة الفلاح وورث عنه الارض التي يملكها بعد أن قتل كل أبناءه في الحروب الدينية ٠ ومنه نمت عائلة كبيرة عرفت بالبساطة والاستقامة٠ أما الجد المباشر للفيلسوف فقط كان – بالاضافة الى العمل في أرضه يتاجر بالنسج الذي في نوله الخاص ؛ وأرسل ابنه كريستيان الى بولسنتس كي يتدرب عند صاحب المعمل الكبير الثري يوهان شوريخ … هكذا أحب كريستيان ابنة يوهان ؛ فلم يوافق الاب على زواج ابنه من كريستيان الا إذا تركا بولسنتس كونه لم يجد مستوى الزوج أهل بابنته ٠ (من هذا الحب ولد يوهان جوتليب فيخته Johann Gottlieb Fichte بكر سبعة ذكور وبنت واحدة) ٠

 

لكن الزواج لم يكن سعيدا كون الزوجة ورثت غطرسة الاغنياء ، وترى انها أخطأت في عقد (صفقة) الزواج مع فلاح بسيط يعمل بيده أدنى منها منزلة إجتماعية، معتبرة نفسها صاحبة الامر وجاراها الاب فيما تريد٠وذلك أخطر ما في تربية الاطفال ، يحطم في اللاشعور لديهم صورة الاب القوي المقتدر ، ونما فيهم الحزن والشعور بالذنب عليه٠ وقد يتحدى الطفل بالتعويض عن العذاب والحرمان باحدى السبل فقد يدفعه أن يكون متميزا ، قد يكون مهرجا ، مهربا ، إمبراطورا أو رجل تأريخ٠ بالرغم بين كل هذه النماذج الحزن وما يلازمه من كبت وعصبية ينمو مع العمر حتى يهد الانسان قبل أوانه٠
كان طبع يوهان من طبع الام، لذلك كانا يتنازعان دائما ولو إنه كان يحب أن يراضيها، كانت تريده قسا واعظا في كنيسة ٠كان والده أذا فرغ من عمله ، دعاه اليه فعلمه مبادئ القراءة وبعض الامثال والترانيم الدينية يحفظها عن ظهر القلب ٠ لكن شغف يوهان كان راعي كنيسة القرية ٠ يحفظ عنه وعظه كلمة كلمة ويلقيه بنفس اللهجة أو يبدع فيها ، كانه يعد نفسه لدور الخطيب٠
كأن الصدفة تنتشل فيختة Fichte من الوسط القروي عندما زار فون ميليتس عائلة ( فون هوفمان) في رامناو سنة ١٧٧١، وأسف لتأخره عن وعظ صلاة الاحد وكان معجبا براعي الكنيسة ٠ غير ان أصدقاءه  جاءوه بفيخته Fichte فالقى الخطاب على مسامعه كما لو كان كاهنا وبلهجة أفضل ٠ أعجب به فون ميليتس فقرر أن يأخذ الطفل معه الى مايسين لكي يتم دراسته على نفقته الخاصة٠ فسلمه الى الراعي كريبل في قرية نيدارو قريبة من مايسين ، كون القس بلا أطفال فكان بمثابة فرصة له ولزوجتهبرعاية الابن لا التلميذ وعوض له ما فقده من دراسة الابتدائية ٠
عام ١٧٧٤دخل معهد فورتا بالقرب من ناومبورج بعد أن توفي فون ميليتس ، تولى ذويه مصاريف الدراسة ، ولئن لم يستطيعوا إيفائها كاملة ٠ كان نظام معهد فورتا له الاثر في طبعه ، كانت تقاليدها قائمة على نظام الاديرة العتيق الضيق ٠ ولم يكن يهتم بملكات الطلاب وانما بما يحفظ ، وسر Fichte كان دائما ينبثق من داخله لا ما يأته من الخارج٠ ومن تقليد ذلك المعهد كل طالب كبير مكلف برعاية طالب صغير ٠ وأدى سوء الحظ لفيختة أن من رعاه طاغية أساء معاملته وإضطهده ، فقرر أن يعترف للمدير بما يعانيه فبدله المدير بمن هو أفضل رفقة وطبع٠
تخرج سنة ١٧٨٠ دخل جامعة يينا فرع اللاهوت لا عن حب بل كونها السبيل الوحيد لطالب فقير مثله من إيجاد عمل يعيش منه ٠لم تعجبه الدراسة فانتقل الى جامعة لايبزيك ، وقليلا قليلا ضعف إهتمامه بالمستقبل الكهنوتي ، وحين وصل الى درك الشقاء الاسفل ، جاءته رسالة من صديق تبشره بوجود وظيفة معلم لدى عائلة ثرية في زوريخ فسار اليها ماشيا على الاقدام ووصلها عام ١أيلول ١٧٨٨ إقتصر عمله على تدريس إبنة وابن مالك الحانة الثري ٠ ولما أراد أن يطبق عليهما طريقته في التدريس أوقعه في مشاكل مع الام والاب أدى الى تركه لعمله عام ١٧٩٠ ٠
في تلك الحقبة تدرب على الكتابة ، قرأ وترجم الكثير من الادب الفرنسي ل مونتيسكيو وروسو ، ووعظ في الكنائس ، جرب أن يفتتح مدرسة يعلم فيها (فن الالقاء) ٠
تعرف الى بنت الثري ( الهر راهن ) وجمعتهما صداقة ، وإقتصر طموحه في تلك الفترة أن يكون مدرسا في عائلة نبيلة.تحققت له ذلك عندما شد الرحال الى وارسو حين قبلت به عائلة نبيلة معلما رفض فيخته ذلك لاحقا بسبب صاحبة البيت الكونتيسة الصارمة المتعالية٠ وعندما عوضت له بمبلغ من المال أصبح لديه ما يكفيه للسفر الى  كونيكسبرك Königsberg على أمل ان يلتقي ب كانط ، لكن للاسف كان اللقاء مع الفيلسوف كانط العجوز الذي بلغ السادسة والستين أقرب الى البرود بل الجفاء ، متى اذا استمع لاحدى محاضراته وجده بليد الالقاء يدفع الى النوم ٠ وأحب فيختة أن يثير انتباهه ، فاعتزل في فندقه وعمل دون انقطاع خمسة اسابيع في كتابة رسالة عن (إتجاه جديد لقواعد النقد الفلسفي) وقدمها للفيلسوف كانط ، وانتظر أيامًا ليتلقى رأيه فيها ، فاستقبله العجوز بلطف عظيم وقدمه الى عدد من أصدقاءه ٠ إختار فيختة لرسالته المذكورة موضوع الدين تحدث عنه في أكثر كتبه حديثا ، يختلف قليلا من كتاب الى آخر،  غير ان رأيه في الناحية اللاهوتية أن البرهان غير منطيقي ، لكن نتائجها ضرورية أخلاقيا وعقليا ٠ لم يعطي أي رأي الى ما ورائية الدين أو الوحي أو علاقة الانسان بالخالق والخلق ٠ هنا النقطة التي عالجها فيختة معتمدا على القواعد التي وضعها (كانط للحكم والادراك) لقد كانت بالنسبة لFichte محاولة أولى لكننا نجد فيها بذور فلسفته كلها ٠ وهو لم يكتب للنشر ، انما كي يثبت لكانط فهمه لمذهبه ومهارته في تطبيقه ٠ فصححها فيختة ، نقحها وأعطاها عنوان (( رسالة في نقد الالهام)) فظهرت عام ١٧٩٢ وبهذا ترسخت شهرة Fichte سريعا ، واصبح يعده الرأي العام الفكري على انه أقدر مفكر على حمل أفكار كانط والاستمرار فيها ٠ واهم من هذا كله بات فيلسوفا محترفا ، وبات باستطاعته أن يتزوج صديقته الثرية يوهانا٠ فتزوجا ١٧٩٣ في بادن وجلب له الزواج بعضا من بقايا ثروة يوهانا٠
تعرف في تلك الفترة الى الشاعر الدانماركي جيجيسن الدي قدمه بدوره الى بستالوزي ، الرجل الذي كان له أثر في حياته وفكره التربوي ؛ فقد بنى على تجربته اسس نظريته التربوية في يقظة الامة الالمانية ، وهكذا بدأت تتوضح ميوله السياسية وتتخذ طابع نظالي٠ غير انه خاف الطليعة الالمانية التي كانت الى جانب الثورة الفرنسية ، وما طرحته من أفكار ، ولقد لعب فيختة دورا قياديا جريئا له أثر واضح في تأريخ الفكر السياسي الالماني ٠
ثم كتب فيختة رسالتين غير موقعتين ، الاولى (مطالبة بحرية الفكر من أمراء أوروبا ) والثانية (مساهمة في الحكم العام على الثروة الفرنسية) تعقيبا على كتاب ريهبرج سكرتير مجلس شورى الدولة في هانوفر، بعنوان (رسالة الى الثورة الفرنسية) ، نقد فيها مبادئ تلك الثورة وحذر من نتائجها ٠وكانت أفكار رسالتي فيختة في الغالب من روسو بمنطق كانط أما الاسلوب الخطابي تميز به فيختة ٠ ومجمل القول فيهما ،أن هنالك حقوقا يمكن أن تنتقصها أو تحولها الدولة فلا تؤثر على الانسان وانسانيته كونها (حقوق خارجية) تعاقدية كحق الملكية ٠
أما حق الحرية فأي مساس به يزلزل انسانية الانسان ، لان الحرية نابعة من داخل الانسان والاضرار بها يفسد تعبير الانسان والانسان لايزدهر ولايكتمل لا بالتعبير عن فكره٠ والتطور الروحي غير ممكن دون التواصل مع الاخرين وتبادل الفكر ، فلا يجوز حذفه بحجة تصحيحه٠ أما الثورة من حق المجتمع ويعني بها أن المؤسسات القانونية والدستورية ليست نهائية ولا يمكن أن تظل ملائمة أو ترسم الحدود التي يتطور ضمنها المجتمع أخلاقيا وشرعيا ، فمن حق المجتمع أن ينسحب من (العقد الاساسي) ليقيم مؤسسات جديدة ٠ غير ان تصور فيختة للثورة مختلف عما نعهده ٠ يقول بحرية من شاء (أي الافراد) أن ينسحب من (العقد الاساسي ) حتى إذا إزداد المنسحبون (كونوا دولة ضمن دولة) والدولة تبقى في النهاية للاكثرية وان المؤسسات الاجتماعية ليست أزلية وانما أصلها عقود لتنظيم الحياة٠
تسلم فيختة رسالة تدعوه أن يملأ كرسي الفلسفة ، في جامعة يينا ووافق على المباشرة في الجامعة المذكورة عام ١٧٩٤. كانت الجامعة في اوج شهرتها تتميز بين جامعات المانيا بتقدمها الادبي والفلسفي ٠ كان أمير فايمار يحلم أن يجعل من مقاطعته أثينا جديدة ، تلتقي فيها نخب المانيا من فنانين ، شعراء ومفكرين ٠ فشجع (جامعة يينا ) وإعتنى بها ، فدرس فيها أكبر مفكري المانيا في تلك الحقبة ، أمثال شورتس، راينهولد ، فيختة ، هوفلاند ، شيلينج ، هولدرلن ، شيلر وتميز فيختة كونه أذكاهم٠ وهذا دعا المجلس للتردد عن دعوته بالرغم من أفكاره الثورية ، والمدافع الفذ عن حقوق الانسان٠ عام ١٧٩٤ وصل فيختة الى يينا رغم فرصته في التدريس قصيرة لكنه كتب رسالة (عن مبدأ نظرية المعرفة أو مانسميه الفلسفة) وبدأت فضائله بالبروز في هذه الجامعة  .
الفلسفة لدى Fichte لم تكن الوصول الى الحقيقة عن طريق الميتافيزيك (ما وراء الطبيعة) وانما مبادئ حية لقواعد العمل ٠ ولم يرضاه البقاء في مناخ الفكر البحت٠ كان معلما قبل أن يكون فيلسوفا..
قسم تدريسه الى قسمين الاول (التحدث عن الفلسفة بشكل وافي وواسع) ، الثاني (تأثير الثقافة الفلسفية في الطبع والحياة) وسماه (أخلاق الدارس) واستطاع بذلك أن يحل محل راينولد الذي رحل عن الجامعة الى كييل ٠ ودعمته في ذلك موهبته العظيمة في شد الانتباه اليه وتحريض الفكر على الاهتمام بالمعضلات التي يطرحها ، اسلوبه الكتابي اسلوب محاضر لكنه ولد خطيبا٠

 

كانت أكثر حقبة مهمة بالنسبة ل Fichte حيث عرض فيها نظريته عن المعرفة في عدة رسائل ،  Wissenschaftleher ، (اسس نظرية المعرفة) ، (ملخص خاص في نظرية المعرفة) و (مقدمة في نظرية المعرفة) ٠ أثارت آراء فيختة الفلسفية السياسية وخاصة طبعه الكثيرين ومنهم جوته  Goethe وشيلرSchiller  , السبب جوتة لم يكن من هواة نظرية المعرفة وشيلر كان صديقا لكانط ٠ فلم يتحمسا لهذا النجم البازغ بالرغم من الاحترام المتبادل بينهم ٠ لكن كونهم مختلفين ادى الى صدام بينهم في الاخير ٠

هيمنة فلسفة فيشتة بين ١٧٩٤-١٧٩٩ ، أراد أن يجعل من يينا منبرا يصلح عبره الامة الالمانية ، وقد لاقى نجاح منقطع النظير ، فالمنابر الالمانية لم تشهد منذ لوثر ابلغ واشد تأثير منه ٠

 

لم تخلو حياته من مطبات مفتعلة تهدف الايقاع به وبإبداعاته، هكذا كان الصراع المجتمعي أثر الاختلاف الطبقي والاختلاف الايدولوجي والمنافسة على سلم الارتقاء المعرفي بين الفلاسفة أنفسهم. و قد تم أتهامه بمنع الطلاب من أداء الفرائض الدينية بسبب وقت المحاضرة التي تتزامن مع موعد الصلاة ٠ رغم تحذيريه من قبل الاصدقاء لاخذ الحيطة والحذر ، استمرت محاضراته بعد تغير وقتها الى الساعة الثالثة بعد الظهر٠ ثم واجهته عاصفة أخرى ، لكون هدفه من التعليم السمو الاخلاقي بطبع التلاميذ ويرى حياة المدارس ذات هدف نبيل ، مثقلة بالمسؤوليات. رغم كل نجاحاته كانت تصدم بجدار الجمعيات السرية للطلبة فكل كان له رموزه الاخلاقية الخاصة ونظامه للحياة الشخصية والعامة ٠

 

يتبع……

 

شارك هذا الموضوع على