النساء والحرب: الصرخات المكتومة لنساء سري كانيه / راس العين
دلشا أيو – ناشطة حقوقية
مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.
في ليلة من ليالي أكتوبر 2019، استيقظت أم جوان على صوت انفجار هزّ أركان منزلها في سري كانيه / راس العين، في ذلك اليوم الأسود وفي غضون دقائق، وجدت نفسها تركض في الشوارع المظلمة، طفلاها بين ذراعيها، وصرخات جيرانها تملأ الهواء. لم تكن تعلم آنذاك أن هذه اللحظة ستكون بداية رحلة طويلة من النزوح والآلام.
فمنذ بداية الاحتلال التركي لسري كانيه في أكتوبر 2019، نزح نحو 200,000 شخص من المنطقة، 60% منهم من النساء والأطفال.
وفي خضم هذا الصراع المعقّد، وجد المدنيّون، وخاصة النساء والأطفال، أنفسهم ضحايا لحسابات سياسية تتجاوزهم.
حلم المُلكية المفقودة
صوت أم جوان يرتجف وهي تروي قصتها، عيناها تجوبان أرجاء الخيمة التي أصبحت مأواها الجديد، كأنها تبحث عن شبح منزلها القديم بين طيّات القماش البالي، فتقول: “كنت أعيش في سري كانيه بمنزل مليء بالأمان والهدوء وتبادل الزيارات العائلية، منزلي كان مسجلاً باسمي وكنت أفتخر بهذه الميزة لأن النساء قليلاً ما تسجل المنازل بأسمائهن، لكنني وفي ذاك اليوم الأسود، يوم احتلال مدينتنا، نزحنا ونحن بحالة صدمة ولكن إلى أين، لا ندري”.
وبينما كانت ن. شيخو تحلم يوماً بأن تصبح مصممة أزياء شهيرة، فإن كل ما تتمناه اليوم هو ماكينة خياطة بسيطة، إذ تقول: “كنت أعمل خياطة في مدينة سري كانيه وكانت أحوالي لا بأس بها على الأقل كان لنا بيت نعيش فيه وماكينة خياطة هي مورد رزق لنا، لكنني فقدت كل شيء بعد النزوح، فقدتُ بيتي وفقدتُ شخصين من أفراد عائلتي ماتوا قهراً، والآن هذه الخيمة أصبحت منزلي، وكلّ أحلامي أن تكون لدي ماكينة خياطة لأعمل مجدداً لتأمين احتياجات أولادي من الطعام والتعليم والأدوية”.
وبدموع منهمرة، تضيف: “أما ابنتي القاصر فقد قمت بتزويجها ليتكفّل زوجها بتأمين احتياجاتها، كانت ابنتي جميلة جداً، وكنت خائفة عليها”.
بي هيفي: الأرملة الشابة
في الخامسة والعشرين من عمرها، وجدت “بي هيفي” نفسها أرملة مع طفلين صغيرين، قصتها تجسّد المُعاناة المضاعفة للنساء في ظل النزاع.
تقول: “أنا لا أتجاوز الـ 25 سنة ولدي طفلين صغيرين، العادات والتقاليد تزيد من معاناتي وألمي، فقدتُ زوجي بعد احتلال مدينتي وفقدتُ بيتي ومصدر رزقي، تيتّم طفلاي، لا أستطيع أن أسكن في منزل لوحدي، الكل ينظر إلى وكأنني مذنبة لأنني أرملة، لا أعرف ماذا أفعل، فكّرت بالعمل لكن أين سيبقى أولادي؟ لذلك قررت الذهاب لإقليم كردستان عند أقرباء لي يسكنون في المخيم هناك”.
ولم يسلب النزوح من النساء منازلهن فحسب، بل سلبهن أيضاً كرامتهن وإحساسهن بالأمان، ففي المخيمات، تكافح العائلات يومياً من أجل تأمين أبسط ضروريات الحياة، حيث يعيش 80% من النازحين من سري كانيه تحت خط الفقر، معتمدين بشكل كامل على المساعدات الإنسانية. فيما الأطفال، وخاصة الفتيات، هم الضحايا الصامتون لهذا النزاع، حيث يهدد انقطاع التعليم بخلق جيل كامل محروم من فرص المستقبل. وكذلك الصدمات النفسية التي تعرض لها النازحون، وخاصة النساء والأطفال، حيث تترك ندوباً عميقة قد تستمر لسنوات، فيما الحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي أصبحت مُلحّة أكثر من أي وقت مضى.
المجتمع المضيف: تحديّات جديدة
النزوح لم يقتصر على فقدان المنازل والممتلكات فحسب، بل امتد ليشمل فقدان النسيج الاجتماعي والروابط المجتمعية التي كانت تشكل هوية سكان سري كانيه. في المناطق المضيفة، يواجه النازحون تحديات جديدة تتعلق بالاندماج والقبول.
أم صلاح، سيدة في الخمسينيات من عمرها، تعبر عن هذه المعاناة بقولها: “هل سنبقى ضيوفاً في مناطق أخرى أم نازحين كما يسموننا في المجتمع المضيف أم سنعود؟ أكثر ما يؤلمني عندما يسألني أحدهم هل أنت نازحة، ما ذنبي أنا وذنب أحفادي؟ لتعود حفيدتي من المدرسة وهي تبكي إثر شجار والسبب أن الطلاب يقولون: أنتم جئتم لمدرستنا فضاقت الصفوف وزاد عدد الطلاب في المقعد، عودوا إلى مدينتكم”.
المُلكية والحقوق المفقودة
فقدان الملكية والوثائق الشخصية يضيف عبئاً إضافياً على كاهل النازحين، فبدون وثائق ملكية أو هوية شخصية، يجد الكثيرون أنفسهم عالقين في دوامة بيروقراطية، غير قادرين على الوصول إلى الخدمات الأساسية أو المطالبة بحقوقهم.
السيدة نجمة سيدو، في الستين من عمرها، تقول بحسرة: “لقد ذهبت لسري كانيه ورأيتُ بيتي مدمراً بعد أن تم تفجيره من قبل المحتلين، ورغم ذلك أتمنى لو تكون هذه الخيمة هناك في تلك البقعة من منزلي لأن تلك المساحة الصغيرة هي بيتي، فأنا أريد بيتي وإن كان مدمراً وركاماً”.
بينما تضيف السيدة م. قواص بألم: “حاولت أن آخذ فقط صورة المرحوم والدي المعلقة على الجدار لكنهم طردوني، فقلت لهم هذا بيتنا وهذه صورة والدي، فصرخوا بوجهي: ‘يالله انقلعي من هون، كان بيتك هلا بيتنا، فهمتي ولا أفهمك بشكل تاني”.
أما السيدة هـدلة حبش فتضيف: “إنها ليست المرة الأولى التي نهجر فيها وبالقوة من منازلنا فقد تعرضنا للخروج ثلاث مرات من سري كانيه، ولكن هذه المرة مختلفة لأننا خرجنا ولا نعرف متى نعود، كما إننا كنا نسكن في حي الخرابات وهي منطقة عشوائيات ولا وثائق لدينا وحيازتنا كانت فعلية للعقار الذي بنيناه قبل سنتين من نزوحنا، ومع ذلك هناك من هو أسوء من حالتنا كجارتي أم مظلوم فهي مكتومة القيد ولا تحمل وثائق شخصية ولا ملكية عقار، ليس هذا فقط بل حوّلوا منازلنا إلى أماكن لتربية الدواب التي سرقوها”.
وتتابع: “يجب توفر الحماية للأموال والممتلكات التي يتركها المشردون داخلياً ورائهم، وذلك من خلال حمايتها من التدمير والاستيلاء التعسفي وغير القانوني وأيضاً من شغلها أو استخدامها”.
ثقافات “دخيلة” وتحديات الهوية
وتواجه النساء في سري كانيه، بتنوعهن العرقي والديني، تحديات إضافية في ظل الاحتلال، ويهدّدُ التغييرُ الديموغرافي القسري والممارسات التمييزية النسيجَ الاجتماعيّ والثقافيّ الغنيّ للمدينة.
أم مصطفى تروي قصة مروعة تعكس هذا الواقع المؤلم: “إنهم ليسوا مسلمين، إنهم دواعش، إنهم مجرمون، كنت أترجاهم مع عدّة نسوة أن ندفن جثة امرأة كردية لأن الكلاب نهشت جسدها المرمي في الشارع، قلت لهم: ألستم مسلمين والإسلام فرض دفن الموتى وهي امرأة وهذا واضح من جديلتها الملقاة بجانب ما تبقّى من جسدها؟ فصرخوا بكل البشاعة المدفونة في أعماقهم: ‘هذه المرأة صاحبة الجديلة تمنعنا من الحياة مرتين، مرة عندما تقتلنا برصاصتها كمقاتلة ومرة تمنعنا من الفوز بالجنة عندما نقتل بأيدي حرمة، بالله انقلعي من هون يا حرمة، يجب أن تنهش الكلاب ما تبقى من جسد هذه المرأة صاحبة الجديلة”.
حلم العودة يبقى حياً
ورغم كل الصعوبات والمعاناة، يبقى حلم العودة حياً في قلوب النازحات، هذا الحلم هو ما يمنح الكثيرات القوّة للاستمرار في مواجهة التحديات اليومية.
أم صلاح تعبر عن هذا الحلم بكلمات مؤثرة: “مازال حلم العودة يرافقنا كل يوم لنعود لمنازلنا وحاراتنا القديمة وتجمّعات الجيران وتعاونهم بتحضيرات المونة الشتوية والزيارات المتبادلة والسهرات، حتى الأحلام البسيطة أصبحت صعبة المنال”.
نداء للعمل: ماذا يمكنك أن تفعل؟
- التوعية: من خلال مشاركة التقارير التي تتطرق للواقع في سريه كانيه بعد احتلالها أكتوبر العام 2019 من قبل الجيش التركي ومليشياته السورية المسماة بـ “الجيش الوطني السوري”، ونشر الوعي حول معاناة نساء سري كانيه.
- التبرع: من خلال دعم المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة.
- الضغط: من خلال الاتصال مع ممثليكم في برلمانات دول المهجر، والمطالبة بتحرك دولي بحل قضية سريه كانيه وعفرين وتل أبيض، بالمطالبة بالانسحاب التركي من تلك المناطق وتركها لأهاليها الأصليين لحكمها وإدارة أنفسهم كما كان الحال قبل الغزو التركي في يناير العام 2018 في عفرين وأكتوبر العام 2019 في سريه كانيه وتل أبيض كري سبي.
- التطوع: من خلال التطوع بالمهارات يمكن أن تفيد، مع المنظمات العاملة مع النازحين.
- التضامن: من خلال إظهار تضامنك عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتفاعل مع الحملات التي تطلق لإعلاء أصوات أهالي سريه كانيه وعفرين وتل أبيض / كري سبي المهجرين قسراً من أراضيهم.
الإطار القانوني والحقوق المهدورة
من المهم التأكيد على أن معاناة نساء سري كانيه لا تحدث في فراغ قانوني، فالقانون الدولي يوفر إطاراً واضحاً لحماية حقوق النازحين والمهجرين.
فالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تحظر بشكل صريح النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص من مناطق سكناهم.
كما أن اتفاقية لاهاي 1907 على أنه “لا تجوز مصادرة الملكية الخاصة”، بالإضافة إلى ذلك، يؤكد المبدأ 21 من المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن النزوح الداخلي على ضرورة حماية أموال المهجرين وممتلكاتهم من التدمير والاستيلاء التعسفي.
ومع ذلك، فإن الواقع على الأرض يظهر فجوة كبيرة بين هذه القوانين والممارسات الفعلية، فالانتهاكات المستمرة لحقوق النازحين، وخاصة النساء، تستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً لضمان تطبيق هذه القوانين وحماية الضحايا.
صرخة من أجل العدالة
قصص نساء سري كانيه ليست مجرد أرقام أو إحصاءات، بل صرخات حيّة تنادي العالم للاستيقاظ، وكل يوم يمرّ دون عمل حاسم هو يوم آخر من المعاناة لآلاف النساء والأطفال.
العودة الآمنة والكريمة لنازحي سري كانيه ليست مجرد حلم بعيد المنال، بل هي حق أساسي يجب أن نناضل من أجله جميعاً، فهل سيستمع العالم أخيراً لهذه الصرخات المكتومة؟ الإجابة تكمن في أفعالنا وتضامننا.
إن الصمت في وجه هذه المأساة الإنسانية ليس خياراً، يجب علينا جميعاً أن نرفع أصواتنا، وأن نعمل بجد لضمان أن تُسمع أصوات نساء سري كانيه وأن تُلبى احتياجاتهن.
لنتذكر دائماً أن وراء كل إحصائية وكل رقم، هناك إنسان – أم، ابنة، أخت – تحلم بالعودة إلى وطنها وبناء مستقبل أفضل، دعونا نعمل معاً لتحويل هذه الأحلام إلى حقيقة.
لنرفع أصواتنا معاً، ولنعمل يداً بيد، حتى تعود نساء سري كانيه إلى ديارهن، حاملات معهن الأمل في مستقبل أفضل، مستقبل يليق بتضحياتهن وصمودهن، فمعاً، يمكننا أن نحدث فرقاً، ومعاً يمكننا أن نضمن أن صرخات نساء سري كانيه لن تذهب سدى.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=60271