ماهين شيخاني
من وهج النضال إلى صمت العزلة.
كان جوابه الدائم لنا، وبيننا نحن ثلّة من الأصدقاء القدامى والجدد:
“سأكون بهذه التسريحة، وبهذه الأناقة، وبهذا الشكل… بهذا القلب وهذا العنفوان، بهذه الحساسية المفرطة مع اللون والكلمة والهمسة. هذا ما أعطاني ربي وسأظل هكذا، شيخ الشباب حتى الستين، وربما أتجاوز ذلك إن أطال الله بعمري.”
لكن العمر لا يرحم، والآن وقد طرق باب الخامسة والأربعين، بدا لي وكأن نجمه بدأ يخبو، ووهجه يبتعد شيئاً فشيئاً. انكمش صدره، ترهّلت أطرافه، وتضاءل جسمه كشمعة تذوب ببطء. اكتسى شعره بالبياض، تساقطت أسنانه حتى صار ” أدرداً “، ولم يعد قلبه يستجيب لأغنية “آي دل” أو “يار ديلبري” لآرام ديكران. هجره القلب دون رجعة ، ودون وداع حتى.
تغيّرت أشياء كثيرة فيه من دون أن يلاحظ، وهو ما زال على عناده، متمسكاً بسيمفونيته المعروفة: “هذا أنا”. لكن نظره أخذ في التراجع، فكان يضع عدسات سوداء بادئ الأمر على أنها أناقة، ثم أصبحت العدسات الطبية جزءاً ملازماً له، يبدلها دورياً. وعندما سأله الطبيب عند الفحص قائلاً: “إنها بعد نظر يا سيد، العمر له حقه أيضاً”، ردّ بيأس:
“لا يا دكتور، ليست بعد نظر… بل بعد بشر.”
هزّ الطبيب رأسه متعجباً:
– كيف ذلك يا سيد..؟. رجل مثلك بأخلاقك وثقافتك، وليس له أناس ووسط اجتماعي..؟. ألست انعزاليّاً..؟. هل تعاني من عقد نفسية..؟.
– لا، لست معقداً ولا انعزالياً، لكنك لم تفهم قصدي. إذا مررت بأشخاص جمعتك بهم علاقات قديمة، وأحسست أنهم تغيّروا، لم يعودوا كما كانوا، أو صاروا يسخرون ممن ساعدهم يوماً… ماذا تفعل..؟.
ساد صمت قصير، قبل أن يضيف بنبرة متعبة:
– لقد خذلني رفاق الأمس. كانوا إخوة درب، تقاسمنا الخبز والأحلام وأصوات الهتافات. ثم جاءت الانشقاقات، والاتهامات، والخصومات الصغيرة التي كبُرت حتى مزّقتنا. صرنا جزراً متباعدة بعد أن كنّا نهراً واحداً. الآن، لا أجدهم بجانبي، ولا أجد نفسي بينهم… الهجران لم يكن خياري، بل خيارهم هم.
ثم ارتسم على وجهه ظلّ شرود. كأن صورة قديمة انبعثت فجأة: جلسات ليلية حول موقد نار، أصوات ضحكات عالية، عيون مشتعلة بالأمل، وأغانٍ كوردية تنبعث من مذياع صغير… ذكريات رفاق النضال الذين تفرّقوا. كيف تحوّل الحلم الكبير إلى شتات..؟. وكيف غدا الرفيق متَّهِماً، والصديق غريباً..؟.
أفاق من شروده على صوت الطبيب يكرّر: “ولكن لماذا الانسحاب..؟.”
فأجابه بصوت خافت:
– لأن لعبة العصر باتت السيرك… قفزٌ على الحبال، لا مبدأ، لا صدق، المال والكذب صارا زاد هذا الزمن. وأنا لست لاعب سيرك.
وبينما غاص في هذا الكلام، نظر من نافذة العيادة فرأى طفلين يضحكان في الطريق، يتقافزان كأنهما يكتشفان العالم لأول مرة. كان المشهد كصفعة ناعمة أيقظت شيئاً في داخله. ابتسم بخفة وقال في نفسه:
“عجيب أمر البشر… يبدأون كأطفال صادقين، ثم تتكدس فوقهم الأقنعة والخيبات حتى ينسوا حقيقتهم الأولى. ربما لم يحن وقتي للانطفاء بعد. ربما عليّ أن أعود إلى ذلك الطفل الذي كنته، لا إلى الشيخ الذي يشيخ قبل أوانه.”
نهض ببطء، تناول معطفه، وألقى نظرة أخيرة على القاعة الفارغة. تردّد لحظة، ثم مضى نحو الباب بخطى مترددة، كمن يعبر من زمن إلى آخر. لم يعرف إن كان يمشي إلى عزلة أعمق… أم إلى بداية جديدة.
الهجران ليس نهاية، بل امتحان للقدرة على العودة إلى الذات.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=77015